الكاتب: ياروسلاف تروفيموف، كاتب مختص بشؤون الشرق الأوسط في صحيفة وول ستريت جورنال.
الناشر: مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية-نقلا عن صحيفة وول ستريت
ترجمة: هبه عباس محمد علي
في السنوات التي أعقبت الغزو الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣، كانت الوعود الأمريكية بتحويله الى بلد ديمقراطي نموذجي ونشر الحرية في الشرق الأوسط بمثابة سخرية قاسية، وبانسحاب الولايات المتحدة عام ٢٠١١عانى البلد من حركات التمرد الدموية والمجازر الطائفية التي راح ضحيتها مئات الآلاف من العراقيين وأكثر من ٤٥٠٠ جندي امريكي، وفي عام ٢٠١٤ انهار العراق تقريبا في مواجهة تنظيم "داعش"، حيث وصلت الجماعة المتطرفة إلى ضواحي بغداد.
لكن تبدو افاق العراق اليوم أكثر اشراقاً، اذ تمكنت الحكومة المركزية من هزيمة تنظيم "داعش" -ويعود الفضل في هذا الى تجدد التدخل العسكري الأمريكي- واستعادة الأراضي المفقودة إلى منطقة كردستان ذات الحكم الذاتي في البلاد منذ عام 2003، ويصر القادة العراقيين المنتخبين بوجود شيء في بلدهم يمكن ان تتعلم منه باقي دول العالم على الرغم من العديد من الصعوبات التي يعاني منها.
وقال رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في مقابلة جرت معه في المنطقة الخضراء في بغداد "آمل ان يكون للآخرين نوع من الأمل والميول الايجابية نحو ديمقراطيتنا" اذ يرى ان تركيبة البلد المتمثلة بتعدد الاعراق والطوائف ليست نقطة ضعف بل مصدر للفخر. واضاف "لقد قررنا قبول اختلافنا، ونحن حريصون جدا على الحفاظ على تنوعنا وحمايته، ولا نريد ان نكرر ما قام به الارهابيين".
لكن ماتزال الديمقراطية العراقية هشة، وماتزال الانقسامات العرقية والطائفية بين الاغلبية الشيعية والاقلية السنية تسيطر على سياساتها، فضلا على انتشار العنف والفساد، وسيطرة الفصائل الشيعية المدعومة من إيران على الكثير من المؤسسات الحكومية وسعيها الى ايجاد دور أكبر لها ولطهران.
كانت مسألة تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط والقضاء على اسلحة الدمار الشامل غير الموجودة في العراق من ضمن حملة الرئيس جورج دبليو بوش الرامية الى الاطاحة بصدام حسين عام ٢٠٠٣، وقال بوش في كلمة القاها ذلك العام "ان انشاء عراق حر في قلب الشرق الأوسط سيكون حدثا حاسما بالنسبة للثورة الديمقراطية الحاسمة" واضاف" ان هذا النجاح سوف ينبئ الجميع من دمشق الى طهران بأن الحرية يمكن ان تكون مستقبل كل دولة".
وبعد الغزو خرج الملايين من العراقيين للتصويت حيث اختاروا حكومة جديدة ووافقوا في استفتاء عام ٢٠٠٥ على دستور البلاد، لكن على الرغم من هذا رفض السنة دورهم المتناقص في النظام الجديد.
ان المحافظات الثلاث ذات الأغلبية السنية في العراق هي الوحيدة التي صوتت على رفض الاستفتاء، واستمر التمرد السني، بأشكاله المختلفة -من أعضاء سابقين في حزب البعث وفي تنظيم القاعدة إلى تنظيم "داعش"، كما ادت الأخطاء الأمريكية المتمثلة في حل الجيش العراقي في الأيام الأولى للاحتلال فضلا على جهود إعادة الإعمار المضللة إلى تفاقم العنف. وفي الوقت نفسه، كان من تداعيات الغزو انتشار الحركات الجهادية عبر العالم الإسلامي، وخلق جيل جديد من المتطرفين الذين عملوا على زعزعة استقرار بلدان أخرى، وخاصة في أعقاب الربيع العربي عام 2011.
كما ادت الخسائر بفعل الغزو -في نظر الكثيرين في الغرب والشرق الأوسط- الى تقليل مصداقية حديث ادارة بوش عن تعزيز الديمقراطية، ولكن هناك حقيقة واحدة متمثلة في عدم تأثر مؤسسات الحكم العراقية في مرحلة ما بعد الغزو ودستورها لعام ٢٠٠٥ بالاضطرابات، مما ساعد على توحيد البلاد على الرغم من الصعوبات الهائلة والتنبؤات المتكررة بالانهيار.
لكن الهياكل الديمقراطية والدستورية التي تم تشكيلها بعد عام ٢٠٠٣ لم تستمر بالعمل سوى ١٢عام، وبعدها استولى تنظيم "داعش" على ثلث البلاد وتأثر الاقتصاد وحدث نزاع مع كردستان العراق، لكن لا تبرر هذه الامور التكلفة الضخمة للإطاحة بصدام حسين عام ٢٠٠٣.
ويقول "لاري دايموند" الزميل البارز في مؤسسة هوفر في جامعة ستانفورد، فيما يتعلق بالفشل الأمريكي في بناء الديمقراطية في العراق، وتقييم الوضع الحالي في العراق "بمجرد أن تحطمت الدولة العراقية، أصبح هدفنا هو المساعدة في بناء نظام ديمقراطي قابل للحياة". واليوم، "لدى العراق على الأقل تعددية سياسية ومساحة مدنية أكثر من معظم جيرانه العرب، وهذا شيء نقدره ونحاول دعمه ورعايته".
في الواقع تحاول البلاد تجنب الانزلاق نحو تحقيق الحكم الاستبدادي الذي أصبح القاعدة في المنطقة، من مصر الى تركيا الى ملوك الخليج منذ الفوضى التي أطلقها الربيع العربي.
على الرغم من العنف والتخويف، احتفظ العراق بحياة سياسية حقيقية وصحافة حرة نسبيا، وله علاقة مع عشرات القنوات الإخبارية التلفزيونية، المعادي بعضها لرئيس الوزراء العبادي، ومع حلول موعد الانتخابات الوطنية المقرر إجراؤها في شهر أيار، لا يمكن لأحد أن يتنبأ من سيكون الفائز، وعلى الرغم من انتصار حكومته في الحرب على تنظيم "داعش"، فإن إعادة انتخاب السيد العبادي ليست مضمونة على الإطلاق.
ويقول قاسم الدراجي، عضو المكتب السياسي في عصائب أهل الحق، أحد الفصائل الشيعية المؤيدة لإيران التي قاتلت ضد القوات الأمريكية قبل عقد من الزمان "من الصعب علينا أن نعترف بأن أمريكا فعلت شيئا جيدا بالنسبة لنا بسبب الكثير من الأخطاء التي ارتكبتها هنا، لكنها تمكنت من الاطاحة بصدام وأصبح العراق اليوم أكثر حرية من إيران وباقي دول المنطقة".
ومن جانبه تعهد رئيس الوزراء حيدر العبادي بوضع جميع الفصائل الشيعية تحت سيطرة الحكومة المركزية او نزع سلاحها، كما سعى مؤخرا الى تحقيق التوازن في النفوذ الايراني من خلال توثيق العلاقات مع السعودية وتركيا والقوى السنية الاخرى، وعلى الرغم من الادلة التي تثبت تجدد الوطنية العراقية بعد الانتصار الذي تم تحقيقه على "داعش" هذا العام، لكن ماتزال الامة وطبقاتها السياسية منقسمة بشدة، ويشكو العرب السنة والاكراد من اساءة استخدام الاغلبية الشيعية للمؤسسات الديمقراطية من اجل احتكار السلطة السياسية.
ويقول اياد علاوي، رئيس الوزراء في عام 2004-2005 ويرأس الآن كتلة برلمانية غير طائفية تجتذب العديد من الأصوات السنية "هذا ليس العراق الذي أردناه. هل نخدع أنفسنا عندما نقول إن العراق بلد ديمقراطي؟ هل يسود القانون والنظام في البلاد؟ إن عمليتنا السياسية مليئة بمشاكل حادة منها الطائفية، والحرمان من الحقوق وهذا نوع من الفوضى، وإذا لم يتم تصحيح العملية السياسية لتصبح عملية شاملة، فاني أخشى من تفكك العراق بطريقة او بأخرى".
اضطر المالكي الى الاستقالة بعد هذه الخسائر التي تحملها العراق تحت حكمه، ويرجع سبب ذلك بشكل جزئي الى ضغوط الولايات المتحدة وإيران، لكنه ما يزال يحتفظ بتأثير كبير خاصة في البرلمان العراقي، وعلى الرغم من المعركة بينه وبين السيد العبادي الذي ينتمي الى حزب الدعوة، فمن المرجح ان يقدم قوائم المرشحين المتنافسين في انتخابات شهر مايو.
ما يزال يُنظر الى المالكي بانه منافس العبادي الاكثر خطورة على السلطة، وعلى الرغم من تراجع قدرته على الطعن برئيس الوزراء العبادي بسبب الانجازات والانتصارات الاخيرة التي تم تحقيقها على تنظيم "داعش" وكردستان، ويقول معين الكاظمي أحد قادة منظمة بدر "يقول الناس ان المالكي فقد المحافظات واستعادها العبادي".
وقد اظهرت الأزمة الأخيرة على استفتاء كردستان الاستقلالي في 25سبتمبر كيف يمكن ان تتحول الشرعية الديمقراطية إلى أداة سياسية قوية، وترجع سهولة استعادة حكومة العبادي لمحافظة كركوك الى عدم رضا الشعب الكردي على حكم مسعود البارزاني الذي استمر ٢٥ عاماً.
وعلى العكس من السلطات المنتخبة في بغداد فإن السيد بارزاني -الذي تخلى عن منصبه كرئيس في الأول من شهر تشرين الثاني- قد مدد ولايته سنتين، وأرجأ الانتخابات الرئاسية مرارا وتكرارا، واستخدم حزبه القوات العسكرية الخاضعة لسيطرته لمنع برلمان كردستان ليس فقط من انتخاب خليفة له بل حتى من عقد جلساته.
ومع الانحسار الاقتصادي والشكوى حول الفساد فضلا على نهج بارزاني المتشدد اختار العديد من السياسيين الاكراد التعاون مع الحكومة الفيدرالية للسيد العبادي بدلا من الاكراد، ونتيجة لذلك، استولت القوات الفيدرالية على كركوك دون مقاومة كبيرة بعد الاستفتاء بفترة قصيرة، الامر الذي وصفه برزاني بالخيانة التاريخية من قبل خصومه الأكراد.
وقال رئيس برلمان كردستان يوسف صادق "ان سياسات برزاني دمرت الديموقراطية في اقليم كردستان مما ادى الى الافتقار الى الشفافية وعدم وجود مؤسسات شرعية، ويكمن الحل للازمة الكردية في اجراء انتخابات في اقليم كردستان وتمكين حكومة تمثيلية هناك، كما يقول العبادي الآن. العراق بلد واحد وإذا تم تطبيق الدكتاتورية في جزء منه قد تنتشر الى اجزاء أخرى من البلاد وهذا امر خطير بالنسبة لنا، اذ عانينا الكثير في ظل الحكم الديكتاتوري ويجب ألا نسمح أبدا بعودة الديكتاتورية ".
في الوقت الذي يتمتع السيد العبادي بشعبية كبيرة خاصة بعد استعادة مدينة كركوك، اجتاحت البلد مظاهرات جماهيرية قادها رجل الدين الشيعي السيد مقتدى الصدر الذي استغل الغضب الشعبي من الفساد واجتاح المنطقة الخضراء في بغداد واقتحم البرلمان وأحدث ثورة في البلاد، وعلى الرغم من فقدان الكثير من الوزراء لمناصبهم الا ان المؤسسات العراقية نجت من هذا التحدي، وفي الوقت الذي تحشد فيه المنافسون السياسيون للدفاع عن النظام اوقف السيد مقتدى تصعيد هجماته وحركته المهددة للنظام الدستوري.
سلطت هذه التطورات السياسية الضوء على التفكك السياسي للأغلبية الشيعية في العراق، مما دفع الجماعات الشيعية المتنافسة إلى التماس حلفاء بين السنة والأكراد، ومن شأن هذا التواصل أن يخفف من الانقسام الطائفي في البلد ويعزز ديمقراطيته، ولكنه قد يخلق أيضا خطوطا جديدة من العنف يمكن أن تكون عنيفة. وقال المالكي محذرا "ان الشعب يخشى حدوث حرب اهلية جديدة، قد تكون حربا سنية ضد السنة او حربا شيعية ضد الشيعة"، وبصفته رئيسا للوزراء أرسل الجيش العراقي لاستعادة مدينة البصرة الجنوبية من الفصائل الموالية للسيد الصدر.
في ظل الانتخابات المقبلة، ينظر إلى العبادي والمالكي على أنهما يقدمان رؤى مختلفة تماما. اذ ينوي العبادي اتباع نهج توافقي، وموازنة المصالح المتنافسة في البرلمان، وضمان تمثيل جميع المجموعات الرئيسة، بما فيها الأكراد، تمثيلا كافيا. وعلى النقيض من ذلك، يدعو المالكي في انتخابات شهر أيار إلى إنشاء تكتل سياسي قوي من شأنه أن ينشئ أغلبية متماسكة.
وعرج قائلا "إذا استمر النظام الحالي القائم على اساس المحاصصة وتقاسم السلطة، فإن هذا سيكون أكبر تهديد للديمقراطية، وان احدى اليات مواجهة التحديات التي تنتظرنا هي اقامة حكومة قوية".
غير أن العبادي والمالكي يتفقان على مسألة رئيسة الا وهي وجوب اجراء الانتخابات في موعدها في شهر ايار، على الرغم من دعوات بعض السياسيين، ولاسيما الذين يمثلون المحافظات السنية التي دمرتها الحرب ضد تنظيم "داعش"، إلى تأجيل التصويت لعام أو أكثر، وتمديد فترة البرلمان الحالي. وقال المالكي "ان عدم اجراء الانتخابات سيكون أكثر خطورة بالنسبة لنا من "داعش"، لان العملية الديمقراطية ستنتهي في هذه الحالة ".
اضف تعليق