حين يَعترفُ مسيحيٌّ، ولو كان رئيسَ أميركا، بيهوديّـةِ أورشليم ويُعلنُها عاصمةَ إسرائيل، تَسقطُ مسيحيّـتُه عنه. هذا ليس موقفًا سياسيًّا عقائديًّا بل دينيٌّ لاهوتيّ. دونالد ترامب خان يسوعَ المسيح. انتَهك مَسقَطَ رأسِ المسيحيّة. نَزعَ عنها هويّــتَـها المسيحيّة. إِزْدَرَى صَلـبَ يسوعَ وعذاباتِه على دربِ الجُلجُلة. أَهمَل مركزيّـةَ أورشليم في الأناجيلِ الأربعةِ، وهو يَنتمي إلى الكنيسةِ الإنجيليّةِ الكَلْفانِـيَّة المتَماهيةِ مع اللوبي الصُهيونيِّ في الولاياتِ المتّحدةِ الأميركيّة. فوَفقَ استطلاعٍ أَجرَته جامعةُ "ميريلاند" ومؤسسةُ "بروكينغز" بين 02 و06 تشرين الثاني الماضي، 53% من الإنجيليّين (ركيزةُ ترامب الانتخابيّةُ) أيّـدوا مشروعَ نقلِ السفارةِ الأميركـيّـةِ إلى أورشليم، و63% من عمومِ الشعبِ الأميركيّ رفضوه.
لقد حَـوّلَ السيّدُ ترامب عِقارًا سَماويًّـا إلى عِقارٍ جُغرافيٍّ، ثمَّ نَقل ملكـيّتَه، من دونِ أنْ يكونَ مالكَهُ أو حاملَ وكالةٍ فيه، إلى طرفٍ آخَر لا يَحِقّ له به وحدَه. فقرارُه إذَن مُلغًى وباطِلٌ nul et non avenu، وليس له مفعولٌ على صعيدِ القانونِ الدوليّ لأنَّ الاعترافاتِ الدوليّةَ تَصدُر عن الأممِ المتّحدةِ دونَ سواها.
ربّما اتَّخذَ ترامب هذا الموقِفَ المسيءَ للمسيحيّين والمسلمين والفلسطينيّين بنيّـةِ تعويمِ وضعِه الداخليِّ وتعويضِ فشلِ السياسةِ الأميركـيّةِ في العراق وكُردستان وسوريا واليمن ولبنان، لكن الغرابةَ، أنَّ هذا القرارَ يَتناقضُ بل يَنقُض أهدافَ السياسةِ الأميركيّةِ في الشرقِ الأوسطِ القائمةِ على محاربةِ الإرهاب، إضعافِ إيران وحلفائِها، استقرارِ الأنظمةِ الصديقة، وإحياءِ المفاوضاتِ السلميّةِ بين إسرائيل والفلسطينيين. هذا التناقضُ يَدُلّ على ارتفاعِ نسبةِ تخبُّطِ إدارةِ ترامب كونُ مستشاريه لشؤونِ الشرقِ الأوسط هم يهودٌ أو هُواةٌ أو الاثنان معًا. فالاستطلاعُ أعلاه كشفَ أيضًا أنَّ 81% من الأميركيّين يريدون من ترامب تغييرَ مستشاريه.
هذه المعطياتُ تَضعُنا أمام ذهولٍ وخَشية. الذهولُ أنْ يَسمحَ رئيسُ أكبرِ دولةٍ في العصرِ الحديث لنفسِه بالتضحيةِ بأعظمِ مدينةٍ في العالمِ عبرَ كلِّ العصور على أملِ تحسينِ شعبيّتِه. والخَشيةُ أن يؤدّيَ قرارُ ترامب إلى جولةِ عنفٍ جديدةٍ في المِنطقةِ لقلبِ موازينِ القِوى بعدما سجَّلَ المحورُ الروسيُّ ــــ الإيرانيّ تقدّمًا بارزًا من بابِ المندَب إلى بابِ فاطمة.
أليس الرئيسُ ترامب نفسُه من أعلنَ في أوّلِ حزيران الماضي: "إنَّ نقلَ السفارةِ إلى أورشليم سيفتَحُ المجالَ أمامَ أعداءِ السلام باستغلالِ اعترافِ الولاياتِ المتّحدةِ الرسميّ بأورشليم، للتحريضِ على العنفِ وتعطيلِ جهودِ السلامِ الأميركـيّـة؟"
منذُ اعترافِ الفلسطينيّين والعربِ بإسرائيل في اتفاقاتِ "كَمب دايفيد" و"وادي عَربة" و"أوسلو" وغيرِها، لم تَعد فلسطينُ الوطَن جوهرَ الصراع، بل فلسطينُ الحدود. صارت أورشليمُ القلبَ والهويّــةَ. من دون هذه المدينةِ تَفقِدُ فِلسطينُ بُعدَها الحضاريَّ والدينيَّ والتاريخيَّ المشترَك. هناك مدنٌ وقرى فِلسطينيّـةٌ تَعني اليهودَ وحدَهم، وأخرى تَعني المسيحيّين وحدَهم، وأخرى تَعني المسلمين وحدَهم. أما أورشليم، فوحدَها تَعني الجميع. هي أرضُ الموعدِ المتجدِّدِ بين الله والإنسان، وليست أرضَ ميعادِ الشعبِ اليهوديّ. هذه خُرافةٌ يهوديّـةٌ دَحضها التاريخُ وكشفَت زيفَها الكتاباتُ التي وُجدت في "تَل العَمارنه" في مِصر بين سنتَي 1714 و1914.
قرارُ ترامب على قُبحِه، فتحَ مِلفَّ أورشليم فيما كان العالمُ يَتهرّب من إثارتِه. وتبيّن أنَّ غالِبيّةَ دولِ العالم لا تعترفُ ولا تريدُ أن تعتِرفَ بأورشليم عاصمةً لإسرائيل، وأنَّ العالم هو مع أورشليم ضِدَّ إسرائيل، ولو لم يَكن بالضرورةِ مع العربِ والفلسطينيّين. ليسَ بالقليلِ أن تُجمِعَ دولُ الاتّحادِ الأوروبيّ وأميركا اللاتينيّة، والأممُ المتّحدةُ ومجلسُ الأمنِ والفاتيكان، بما ومَن يُـمثِّـل، على رفضِ قرارِ ترامب. إنه انتصارٌ مسيحيٌّ وإسلاميٌّ وعالميٌّ يجبُ أن نَستثمرَه لكسبِ تأييد العالمِ وإيجادِ حلٍّ سلميٍّ عادلٍ بدَل المزايداتِ هنا وهناك، وعِوضَ التظاهرِ الغوغائيِّ والمشبوه أمسَ في مِنطقةِ عَوكَر.
لقد كشَف إعلانُ ترامب أن دولاً تفضّل أورشليمَ مدينةً مفتوحةً للديانات الثلاث، وأخرى تقترح تقسيمها بين فلسطين وإسرائيل، ولا أحدَ يريدُها عربيّةً أو إسرائيليّةً بشِقَّــيْـها. لكنَّ التقسيمَ لا يُلغي مطالبةَ اليهودِ بحكمِ الجانبِ الشرقيِّ من أورشليم حيثُ معالمُ هياكلِهم القديمةِ، ولا مطالبةَ المسيحيّين بإدارةِ مقدَّساتِهم في غربيِّها أيضًا. لذا، مهما كان الحلُّ الجُغرافيُّ والدستوريّ، يجب أنْ تَبقى المراكزُ الدينيّةُ اليهوديّةُ والمسيحيّةُ والإسلاميّةُ مَحميّـةً دوليًّا ومُعترَفًا بمرجِعيّاتِـها في شرقي المدينةِ كما في غربها. وبالمناسبةِ، يعيشُ في أورشليم 900 ألفِ مواطنٍ. منهم 320 ألفَ فلسطينيٍّ في أورشليم الشرقيّة، و542 ألفَ يهوديٍّ بين أورشليم الغربيّةِ (330 ألفًا) وأورشليم الشرقـيّـة (212 ألفًا).
بمنأى عن الأعدادِ، قرارُ ترامب لا يَـمُسُّ الشأنَ السياسيَّ بل حقوقَ الأديانِ الثلاثة، اليَهوديّـة ِوالمسيحيّـةِ والإسلام، وهو أمرٌ لم يَـحسِمْه أحدٌ بعد. وأصلاً ليست أورشليمُ جُزءًا من الصراع بين العربِ وإسرائيل، بل بين الرسلِ والأنبياء. إنها واحةٌ إلهـيّـةٌ يُفترض أنْ يعيشَ فيها اليهودُ والمسيحيّون والمسلمون متساوِين بالحقوقِ الدينيّةِ والمدنيّةِ استنادًا إلى المعطياتِ التاريخيّةِ الصحيحةِ لا إلى المزاعمِ والروايات والخُرافات. وفي هذا السياق، لا يجوزُ لأيِّ طرفٍ أنْ يَحتكرَ أورشليمُ، فمدينةٌ بهذا التاريخِ الروحيِّ المتعدِّدِ أكبرُ من أنْ تُصادرَها هذه القوميّةُ أو تلك. وفي هذا السياقِ، نُذكِّر بهويّـةِ أورشليم المسيحيّة؟ هل راحَت فَرقَ عُملةٍ بين الفاتحِ "أبي عُبيدَة الجرّاح" والمغتَصِب بن غوريون؟
سنةَ 1972، قال بيار الجميّل لياسر عرفات إبّانَ اجتماعٍ في بيتِ الكتائبِ المركزي: "إذا كان جيلُك يا "أبو عمّار" عاجزًا عن تحريرِ فِلسطين اليومَ، فلا تَقبَل بسلامٍ ناقصٍ واتْرك مُهمّةَ التحريرِ للأجيالِ المقبِلة. فِلسطين ليست كيلومترًا بالزائِد أو بالناقص. إنها وطن". وأورشليمُ ليست شرقًا وغربًا، هي فَوق.
اضف تعليق