عندما كان التاجر العراقي جبار محمد طفلا صغيرا في مدينة البصرة الساحلية جنوب البلاد كان يحب مشاهدة القوارب وهي تتحرك على طول قناة يصطف على جانبيها النخيل والمباني العتيقة القريبة من منزله، كانت البصرة توصف بأنها ”بندقية الشرق الأوسط“ حيث كانت تقارن بمدينة البندقية الإيطالية لوجود شبكة قنوات مائية بها وظلت مكانا يجذب السائحين من أنحاء الشرق الأوسط حتى مطلع الثمانينيات.
(رويترز): عندما كان التاجر العراقي جبار محمد طفلا صغيرا في مدينة البصرة الساحلية جنوب البلاد كان يحب مشاهدة القوارب وهي تتحرك على طول قناة يصطف على جانبيها النخيل والمباني العتيقة القريبة من منزله.
كانت البصرة توصف بأنها ”بندقية الشرق الأوسط“ حيث كانت تقارن بمدينة البندقية الإيطالية لوجود شبكة قنوات مائية بها وظلت مكانا يجذب السائحين من أنحاء الشرق الأوسط حتى مطلع الثمانينيات.
واليوم أصبحت القناة التي كانت تخلب لب محمد في شبابه راكدة تفوح منها رائحة كريهة تزكم الأنوف، ويمثل هذا شاهدا على الغياب الفعلي للخدمات العامة في بلد يعاني الاضطرابات والفساد والتفكك منذ الغزو الأمريكي في عام 2003 الذي أطاح بصدام حسين، وقال محمد (52 عاما) الذي يدير متجرا للبقالة أسسه والده في عام 1966 في شارع حافل بالمباني التقليدية المتهدمة ”كانت البصرة مكانا رائعا“، وأضاف ”لكننا واجهنا حروبا وإهمالا“ مشيرا إلى كتابة يصعب تمييزها على لوحة خشبية تعود إلى الستينيات وهي المرة الأخيرة التي وضعت فيها السلطات العراقية لوحات إرشادية في شوارع ثاني أكبر مدن البلاد والتي يقطنها 2.5 مليون نسمة، وقال سكان من البصرة لرويترز إنهم لن يدلوا بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية التي تجرى يوم السبت أو إنهم إن فعلوا ليست لديهم ثقة في أن المسؤولين سيعيدون مدينتهم إلى مجدها القديم، وشهدت البصرة إنشاء مركز تسوق وفنادق خمسة نجوم ومطاعم راقية منذ عام 2003 بفضل إيرادات النفط خاصة أن غالبية الخام العراقي يأتي من الحقول القريبة علاوة على وجود ميناء ومطار دولي.
ويستخرج العراق، ثاني أكبر منتج للنفط الخام بمنظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، معظم انتاجه النفطي من حقول جنوبية ويصدره عبر مرافئ في البصرة وحولها. وعزز ذلك انتعاش القطاع الخاص الذي يوظف أبناء الطبقة المتوسطة بدرجة كبيرة على خلاف غالبية أنحاء العراق.
لكن منذ عام 2003 لم ترمم السلطات الحكومية منزلا واحدا في المدينة التاريخية القديمة بالبصرة المؤلفة من مبان عثمانية الطراز تشتهر بالنقوش الخشبية في الشرفات والنوافذ والأسقف، وتبدد اهتمام الدولة بترميم المدينة القديمة مع خوض العراق سلسلة مدمرة من الحروب بدأت بحرب مع إيران (1980-1988) ثم مع قوات تحالف تقودها الولايات المتحدة أنهت اجتياح صدام حسين لدولة الكويت في عام 1991 ثم انتهى الأمر بإسقاط حكمه عام 2003.
وساهم حظر فرضته الأمم المتحدة على العراق حتى عام 2003 في استنزاف اقتصاد يعتمد على النفط، وقالت أزهار هاشم مديرة إدارة الآثار في البصرة إن خمسة مبان تاريخية فقط جرى ترميمها جزئيا في التسعينيات بينما بقيت الغالبية العظمى من المباني السكنية معرضة للانهيار، وأجرى مكتبها دراسات توصي بترميم عشرات المباني السكنية في المدينة القديمة.
سوء إدارة خانق
يلقي مسؤولون باللوم على أزمة تمويل حكومي ناجمة عن تراجع أسعار النفط منذ سنوات. لكن سكان البصرة يلقون باللوم على انهيار في الخدمات العامة على مدى العقود الماضية تسارعت وتيرته مع العقوبات التي فرضت في عهد صدام حسين.
وقال وليد مصطفى الجندي المتقاعد الذي نشأ في منزل على الطراز العثماني انهار سقفه ”إنه سوء إدارة وفساد وسرقة (للمال العام)“، والبصرة واحدة من مدن قليلة في الشرق الأوسط دون نظام فعال لمعالجة المياه. وكانت تتمتع بمرافق صحية متطورة في الستينات لكنها انهارت قبل عقود، لتتحول ممرات البصرة المائية إلى مجارير يتسبب المناخ الصحراوي الحار في زيادة الروائح الكريهة المنبعثة منها.
وحتى الطرق الرئيسية تملؤها الحفر بينما لم تكتمل مشروعات كان يفترض أن تكون مصدر فخر للمدينة مثل مشروع ”مدينة رياضية“ لاستضافة المنافسات، وأقر رئيس هيئة استثمار البصرة علي جاسب بوقوع أخطاء في إصلاح البنية التحتية بعد 2003، لكنه قال إن محافظة البصرة والحكومة المركزية تعملان الآن لتحسين نظام الصرف بفضل قرض ياباني، بينما يجري بناء مستشفى جديد بمساعدة الكويت، ويساعد البنك الدولي أيضا العراق على الحد من التلوث الحاد في الهواء الناجم عن شعلات الغاز في حقول النفط القريبة.
ثقافة وسط النفايات
تقع البصرة في الطرف الجنوبي من العراق الذي تكثر فيه المستنقعات حيث يلتقي نهرا دجلة والفرات قرب الخليج. وهي موطن منذ قرون لمزيج من العرب والفرس والأتراك والهنود واليونانيين والذين تركوا فيها بصمات لثقافاتهم.
وعانى أكثر أنحاء العراق من الدمار مع سلسلة الحروب التي شهدها منذ الثمانينات. لكن البصرة تضررت بشدة لوقوعها على الخط الأمامي خلال الحرب مع إيران التي تبعد عشرات الكيلومترات عبورا بدلتا شط العرب نحو الشرق.
ولحق أكثر الدمار بالمدينة خلال انتفاضتين للغالبية الشيعية في جنوب العراق ضد صدام حسين السني وتم سحقهما بوحشية، وفي الآونة الأخيرة يكاد الجفاف يتسبب في نضوب القنوات تماما، وكثيرا ما يحيط بالبصرة ضباب دخاني يلقى باللوم فيه على إنتاج النفط.
ومع سأمهم من إخفاق الدولة في ترميم المباني الأثرية، يحاول فنانون محليون إحياء حياة ثقافية كانت مزدهرة يوما، ففي قصر عثماني تم تجديده، تقام معارض فنية وحفلات موسيقية مع عودة رسامين وشعراء وموسيقيين بعد سنوات كثيرة من الابتعاد عن الأضواء لتجنب عملاء صدام أو المسلحين الإسلاميين الذين جاءوا بعد الإطاحة به.
وقال عبد الحق المظفر مدير المركز الثقافي الحكومي في القصر ”نقيم الآن فعالية كل يوم تقريبا. وتحسن الوضع الأمني“، لكن مع ميل القليلين لشق طريقهم في الشوارع المدمرة المليئة بالنفايات للوصول إلى القصر، جلس الرسام صبري وحده في أحد الأيام منتظرا ظهور مشترين، وقال ”بعت ثلاثة فقط من 21 لوحة. لم يعد السياح يأتون كما كانوا يفعلون في السبعينات عندما كان للبصرة رونقها“.
اضف تعليق