هل يمكن لصنّاع الذكاء الاصطناعي أن يأتوا لنا بجرعات علاجية مصنّعة ما أن يتناولها الإنسان الخائف حتى يُصبح شجاعًا، وما أن يتعاطاها البخيل حتى يغدو سخيّا كريما! هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يكون بديلًا للذكاء العاطفي وهو الأهم حتى من مفهوم معدل الذكاء...
استطاع (البرازيليون) مؤخرا تأسيس إذاعة تستغني عن العنصر البشري بالكامل اعتمادا على ما يتيحه عالم الذكاء الاصطناعي من إمكانات، ووسائل تواصلية. وعلى الرغم من أن الإذاعة المذكورة كانت ناجحة جدا في تقديم برامج الحوارات العامة على المستوى الفني، لكنها فشلت فشلا ذريعا في استقطاب الجمهور البرازيلي، وقد كان السبب الرئيسي والمباشر وراء ذلك الإخفاق المريع هو أن الجمهور لم يشعر في هذه الإذاعة (المصنعة) بدفء العلاقات الإنسانية الطبيعية التي يستشعرها عادة وتجعله منجذبا لمتابعة البرامج الحوارية.
لعل في هذه المقدمة السريعة ما يفيد في تصور شيء من الأثر الذي يخلفه الحوار الإنساني الحقيقي في نفوس المتفاعلين معه، وهو الأمر الذي "لن" يستعاض عنه اصطناعيا!
ولكن لماذا أخفقت هذه الإذاعة "المصطنعة"؟ لعل الجواب وفي شيء من الفلسفة " العاجية" يكمن في أنّ غياب التفاعل الحقيقي يقود إلى التباعد " الحقيقي"، بعبارة أدق فإنّ الزيف، والتزييف يؤدي حتما إلى الجفاء، وإلى سوء الظن! وهو المولود الطبيعي للانعزال، وسوء الظن من خصوصياته ما يفرزه من تراكم الصورة النمطية السيئة القائمة على سيطرة الوهم، والخوف وتمركزهما في عقل المنعزل.
الحوار الحقيقي، الحوار الطبيعي يؤتي ثمره عاجلا، وتتجلى أولى ثمراته بتقريب النفوس، ودحض الأوهام والمخاوف، والعكس من ذلك هو ما يحدثه الحوار الوهمي، والتفاعل الموهوم، ببساطة كل ما تكون مدخلاته الأوهام تكون مخرجاته أوهام أيضا...
يستطيع الذكاء الاصطناعي أنّ يكون بديلًا لأشياء لا حصر لها هذه حقيقة لا يجادل فيها مجادلون ولكن ليس في المجال الذي يكون فيها للتفاعل الإنساني " الصادق" الكلمة الفصل، أو الكلمة الأخيرة. المفاوضات التي تجري بين البشر مثال آخر على ما ذكرناه آنفًا، فأي ذكاء اصطناعي مهما جمح بمنتجيه الخيال يمكن أن يحلّ محل التفاوض الطبيعي وتكون نهايته رأب الصدع بين المختلفين اجتماعيا وسياسيا ودينيا! ويقطع الطريق أمام العوائق والعقبات! ويجمع أولئك المختلفين على حلّ مشترك، ويصل إلى نتيجة إحراز هدف السلم الأهلي، لاسيما إذا "تخيلنا" صور التطاحن والاقتتال والفوضى والتشرذم...
إنّ أي موقف يتطلب وجود حوار حميمي صادق تجتمع فيه العاطفة الإنسانية النبيلة مع المنطق الرشيد يستحيل أنّ يخرج من جهاز مصنّع مهما اجتهد صانعوه في تعبئته بملايين الاحتمالات "المنطقية"، وملايين الخطط البديلة باتجاه مدّ جسور التواصل مع الآخر المختلف، ومجابهة دواعي الإحباط بين الأطراف المتصارعة، ومن ثم التغلب عليها والحيلولة دون سناريوهات الفتنة والاحتراب!
هل يمكن لصنّاع الذكاء الاصطناعي أن يأتوا لنا بجرعات علاجية مصنّعة ما أن يتناولها الإنسان الخائف حتى يُصبح شجاعًا، وما أن يتعاطاها البخيل حتى يغدو سخيّا كريما! هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يكون بديلًا للذكاء العاطفي وهو الأهم حتى من مفهوم معدل الذكاء بحسب تعبير المفكر دانيال جولمان (Daniel Goleman)...
إنّ تعريف الذكاء الاصطناعي بحسب أكثر التعريفات تداولا، وهو المنسوب لـ (جون مكارثي) ينص على أنّه علم وهندسة صنع آلات ذكية لا غير، وهذه لن تضارع الإنسان" خالقها" مهما سارت في سبل التطور العلمي.
لقد ذكر الفلاسفة وعلماء الأنثروبولوجيا القدماء والمحدثون تعريفات شتى لمفهوم الإنسان لكن أكثر تلك التعريفات رسوخا في الذاكرة الجمعية للبشر هو التعريف الذي يحدُّ الإنسان بوصفه كائنا اجتماعيا وكائنا ناطقا، وهذه المرتبة من الرقي الهائل لا يمكن أن يهبها مخلوقٌ لمخلوق بوسيلة الذكاء الاصطناعي أو سواها. من يهبها للمخلوقات طرًا هو الخالق العظيم تبارك وتعالى...
ملاحظة ختامية: تفاديت في هذا المقال استعمال عبارة الذكاء الصناعي، بل استعملت عبارة الذكاء الاصطناعي، وبالمناسبة فإن هذه المعلومة مستقاة من (جات جي بي تي) أحد أشهر محركات البحث، وأكثرها رسوخا بعالم الذكاء الاصطناعي:
الذكاء الاصطناعي: هو الترجمة الصحيحة لـ (Artificial Intelligence)، إذ تشير كلمة "اصطناعي" إلى شيء "تم تصنيعه أو محاكاة صفاته"، وهو المعنى المقصود في مجال التكنولوجيا، حيث تُطوّر أنظمة تحاكي الذكاء البشري، أو تسعى لذلك...
أمّا الذكاء الصناعي فيُقصد به الانتماء إلى الصناعة أو أنّه ناتج عنها، وهذا ليس المعنى الدقيق، إذ إن "الصناعي" مرتبط بالصناعة وليس بالمحاكاة.
لذلك، الصواب أن يُقال: "الذكاء الاصطناعي" عند الإشارة إلى الأنظمة الحاسوبية التي تحاول محاكاة الذكاء البشري.
اضف تعليق