لعل الذكاء الأصطناعي هو أبرز وأحدث ميدان للحرب الباردة بين أميركا والصين، فما هي حقائق وأبعاد حرب الذكاء الأصطناعي الباردة؟ حذر أينشتاين من أن القوة المطلقة للذرة غيرت كل شيء باستثناء أساليب تفكيرنا، وبالتالي فإننا ننجرف نحو كارثة لا مثيل لها، ويمكن قول الشيء نفسه عن الذكاء الاصطناعي...
قبل يومين، تم الأعلان عن أن شركة إنفيديا NVIDIAالأميركية، باتت الأعلى قيمةً في السوق العالمية بمبلغ يساوي 3.34 تريليون دولار، وهكذا تصدرعملاق أشباه الموصلات semiconductors هذا نادي الشركات الترليونية في العالم والذي يضم سبع لاعبين رئيسيين، ستة منهم أميركان ويعملون في مجال التكنولوجيا الرقمية والذكاء الأصطناعي، فيما السابع فقط هو خارج هذا القطاع وهو أرامكو السعودية التي تبلغ قيمتها السوقية 1.87 تريليون دولار.
وللمقارنة فقط فأن أعلى عشرين شركة من حيث القيمة السوقية في عام 1990 (أي في أعقاب سقوط الأتحاد السوفيتي وأنتهاء الحرب الباردة) لم تتجاوز قيمتها نصف تريليون دولار فقط ولم يكن فيها سوى شركة واحدة تعمل في مجال التكنولوجيا!
لقد تغير العالم أقتصادياً وأستراتيجياً بشكل غير مسبوق خلال العقود الثلاثة. لقد غيرت التكنولوجيا كل شيء في حياتنا وعالمنا ألا شيء واحد هو المنافسة الدولية على زعامة العالم. صحيح أن العقدين الذين أعقبا سقوط الأتحاد السوفيتي كانا أمريكيين بأمتياز، الا أن ما تلاهما شهد خروج المارد الصيني من قمقمه لينافس أمريكا في كل المجالات السياسية والأقتصادية والعسكرية وحتى التكنولوجية في سباق يذّكّرنا بالحرب الباردة لكن بشكل جديد. ولعل الذكاء الأصطناعي هو أبرز وأحدث ميدان للحرب الباردة بين أميركا والصين، فما هي حقائق وأبعاد حرب الذكاء الأصطناعي الباردة؟
في عام 1946، حذر ألبرت أينشتاين من أن «القوة المطلقة للذرة غيرت كل شيء باستثناء أساليب تفكيرنا، وبالتالي فإننا ننجرف نحو كارثة لا مثيل لها». ويمكن قول الشيء نفسه عن الذكاء الاصطناعي. ففي واحدة من آخر نصائحه قبل أن يرحل عن الدنيا، حذر هنري كيسنجر في عام 2021 من حصول حرب باردة بين الصين وأمريكا مماثلة لما كانت عليه الحال بين أميركا والاتحاد السوفيتي.
فالصين اليوم كما قال كيسنجر، ليست كالأتحاد السوفيتي الذي كان مفلساً اقتصادياً. أنها ثاني اقتصاد في العالم وهي تسعى بجد لتكون الاقتصاد الأول عالمياً. ثم أكمل نصيحته قائلاً «في حين أن الأسلحة النووية كانت بالفعل كبيرة بما يكفي لإلحاق الضرر بالعالم بأسره خلال الحرب الباردة، فإن التقدم في التكنولوجيا النووية والذكاء الاصطناعي- حيث الصين والولايات المتحدة زعيمتان – ضاعف من تهديد يوم القيامة، وبتنا لأول مرة في تاريخ البشرية، نتمتع بالقدرة على إفناء أنفسنا في زمن قصير».
وفي مؤتمر أخير عقدته لجنة الأمن الوطني الأميركية عن أستخدامات الذكاء الأصطناعي في الحروب، أكد وزير الدفاع آسبن «أن الذكاء الأصطناعي قد غير طبيعة الحرب ولذلك سيكون من عدم المسؤولية أرسال طيارينا للحرب دون أن يكونوا مسلحين بالذكاء الأصطناعي».
من هنا نفهم لماذا رفع الجيش الأمركي أستثماراته في هذا الذكاء من 190 مليار دولار في عام 2022 الى 557 مليار دولارعام 2023، أي أعلى من الأنفاق العسكري الأجمالي (وليس على الذكاء الأصطناعي فقط) لكل من الصين والهند وروسيا وبريطانيا وألمانيا مجتمعةً. في حين يتوقع أن يصل أستثمار الجيش الصيني في مجال الذكاء الأصطناعي الى 38.1 مليار دولار في عام 2027.
مقومات الذكاء
أما خارج الأطار العسكري فأن أمريكا تبتعد حالياً عن ثاني أقرب منافسيها (الصين) في هذا المجال على الرغم من محاولات الصين لتجسير فجوة التفوق هذه. أذ تسيطر أميركا على أهم مقومات الذكاء الأصطناعي(أشباه الموصلات، البحث والتطوير، والحافز الاقتصادي).
ففي مجال أشباه الموصلات، وعلى الرغم من أن الصين هي المصدر الرئيس للمادة الأولية للرقائق الألكترونية، الا أن أميركا تهيمن على 95 بالمئة من تصاميم تلك الرقائق وهي الحلقة الأهم والأعقد في تصنيع تلك الرقائق. لذلك فأن الصين هي المستورد الأكبر عالمياً للرقائق الألكترونية التي تتصدر كل من تايوان ثم كوريا الجنوبية التصنيع العالمي لهما.
أن دورة الانتاج العالمي للرقائق اليوم تبدأ من أستخراج المادة الأولية (في الصين)، ثم التصميم والابتكار (في أمريكا) ثم التصنيع والانتاج (في تايوان وكوريا الجنوبية، حليفتا أمريكا). واضح من هذه الدورة مدى التفوق الامريكي في سباق تصنيع الرقائق الالكترونية على الرغم من المحاولات الصينية الحثيثة لكسر هذه الدورة التي لا تعمل لصالحها.
لهذا فأن هناك فجوة كبيرة لصالح أميركا في مجال تكنولوجيا الرقائق، أذ أن 6 من أعلى 15 شركة أشباه موصلات قيمةً هي أميركية في حين لا تمتلك الصين سوى شركة واحدة في هذا النادي التكنولوجي. أما من حيث البحث والتطوير فأن 60 بالمئة من أفضل الباحثين في العالم في مجال الذكاء الأصطناعي هم أميركان في حين لا يشكل الصينيون سوى 11 بالمئة فقط منهم. كما تستثمر أميركا بحدود 250 مليار دولار سنوياً في مجال البحث والتطوير للذكاء الأصطناعي مقابل 95 مليار دولار فقط للصين.
ثم تأتي الحلقة الاهم في مجال الذكاء الأصطناعي، وهي الحافز الاقتصادي للتطوير والانتاج. أن معظم الاستثمارات الصينية في مجال الذكاء الاصطناعي هي حكومية على الرغم من أن أكبر خمس شركات صينية في هذا المجال هي شركات خاصة.
لكن في نظام يديره الحزب الشيوعي الصيني فأن للشركات الخاصة حدود يجب أن لا تتجاوزها. لذا فأن عملاق الالكترونيات الصيني الاول (شركة تينسنت Tencent التي تملك شركة علي بابا المشهورة) لم تأت الا في المرتبة العاشرة عالمياً من حيث القيمة السوقية.
شركات الذكاء
من هنا نفهم لماذا تتفوق أميركا في عدد شركات الذكاء الاصطناعي الجديدة سنوياً بمقدار 3.4 مرات على الصين. وفي الوقت الذي تستضيف الصين حوالي 4500 شركة تعمل في مجال الذكاء الأصطناعي فأن في أميركا أكثر من 10 آلاف شركة يتوقع أن تزداد بكثرة بسبب القانون الامريكي الذي شرعته ادارة بايدن في 2022 ومنع تصدير تكنولوجيا الرقائق الالكترونية. هذا القانون لم يستهدف فقط حظر تصدير الرقائق والتكنولوجيا المتقدمة المتعلقة بها للصين، بل سيجبر كبريات شركات العالم الاخرى على العمل داخل الولايات المتحدة مما يزيد من أمكاناتها التكنولوجية في هذا المجال.
ومع ما يبدو أنه تفوق أمريكي كبير في هذا المجال الا أن الصين تمتلك الكثير من المزايا التنافسية المهمة مقابل أميركا، والتي ستستعرضها وتأثيراتها في مقال آخر.
اضف تعليق