بموت قانون مور لم تجد الشركات تعويضاً سوى في الاتجاه نحو إنتاج شرائح الذكاء الاصطناعي. وبالفعل، بات كل الإنتاج التكنولوجي مرتبطاً بتطوير نواحي أخرى متصلة بالذكاء الاصطناعي، مثل المساعدين الافتراضيين للهواتف التي يطلق عليها «هواتف ذكية» (Siri وGoogle Now). فالعديد من هذه الهواتف صارت تتضمن برامج وأجهزة ترتكز على الذكاء الاصطناعي...
«أكبر عيب في الجنس البشري هو عدم قدرتنا على فهم منحنى المتتالية الهندسية (exponential function)»
ألبرت ألن بارتليت - فيزيائي وأستاذ جامعي من الولايات المتحدة
في عام 1965، لاحظ المهندس الأميركي وأحد مؤسّسي شركة «إنتل»، غوردن مور، أن عدد الترانزستورات في شريحة المعالج (CPU)، يتضاعف تقريباً كل عامين، بينما يبقى سعر الشريحة على حاله. عملياً، كل سنتين يصبح الكومبيوتر أقوى بمرّتين فيما سعره مستقرّ. مع الوقت، تحولت ملاحظة مور إلى عُرف في صناعة التكنولوجيا. بات حال صناعة الشرائح الإلكترونية أشبه بمؤشّرات السوق في النظام الرأسمالي، أي أنها بحاجة لتكون في حالة صعود دائمة. لكن هذا القانون الذي أغدق تريليونات الدولارات على الولايات المتحدة الأميركية، ورسم ملامح العصر الحديث طيلة خمسين عاماً، ضاقت عليه حدود الفيزياء، إذ بات صعباً، وربما مستحيلاً، مضاعفة القدرة الحاسوبية كما جرت عليه العادة. بلغت هذه الصناعة مفترق طرق، إذ أن انهيار «قانون» مور يعني دمار اقتصاد المركز، أو استثمار مئات مليارات الدولارات في الأبحاث الساعية لتطوير القدرة الحاسوبية بلا ضمانات في النجاح.
ثمة عبارة استعملها العالم الأميركي راي كورزويل، حول معدّل التغيّر في التكنولوجيا الرقمية في محاولة لاستشراف القوّة المستقبلية لـ«قانون مور»: «الأمور تصبح مجنونة فقط في النصف الثاني من رقعة الشطرنج». أصل هذه العبارة آتٍ من أسطورة قديمة تعود إلى عام 1260 قبل الميلاد، وهي بروايات متعددة، أحدها أن ملك في الهند أُعجب كثيراً بلعبة الشطرنج، وأراد أن يكافئ مبتكرها ومنحه حرية اختيار المكافأة. طلب المبتكر كان غريباً وبسيطاً جداً، إذ أراد حبّة قمح واحدة مقابل المربع الأول من رقعة الشطرنج، وحبتان عن الثاني و4 حبات عن الثالث و8 حبات عن الرابع، وهكذا دواليك... حتى بلوغ الخانة 64 الأخيرة. أمر الملك الخدم بإحضار القمح، وسار كل شيء على ما يرام بداية، ثم تفاجأ الجميع حين وصلوا إلى منتصف رقعة الشطرنج، إذ تبيّن أن المربع الـ32 يتطلب أكثر من ملياري حبة قمح. هنا، أدرك الملك، أن المكافأة تساوي أكثر مما ينتجه العالم كله من القمح في السنة.
بالفعل هكذا هي مفاعيل منحنى المتتالية الهندسية (exponential function) الذي يضاعف الأرقام إلى حدود لا يستوعبها العقل، إذا طبقت على «قانون مور»، إذ أن المستوى المتسارع للتطوّر التكنولوجي في قدرة الحاسوب، بات في النصف الثاني من رقعة الشطرنج حيث بات يصعب مضاعفة قدرة الحاسوب بالوتيرة نفسها وبالسعر نفسه.
في الواقع، غيّر «قانون مور» نموذج العمل في صناعة أجهزة الكومبيوتر. يعتمد ذلك على عنصر تقني اسمه «ترانزستور» يكون موجوداً في الدوائر التي تشغّل الجهاز. فكلما أصبحت الترانزستورات أسرع وأصغر حجماً، كلما أصبح الجهاز سريعاً وأصغر حجماً. من دون هذا التطوّر لم يكن لنشهد ولادة الأجهزة المحمولة، كالهواتف الذكية وأجهزة الكومبيوتر اللوحية، ولا ألعاب الفيديو أو أجهزة إنترنت الأشياء وما تجمعه من بيانات، ولا أنظمة تحديد المواقع الجغرافية (GPS)... كذلك لم يكن ممكناً تحسين خدمات النقل والرعاية الصحية والتعليم وإنتاج الطاقة، وصولاً إلى أسواق المال، ولا حتى خلق عالم رقمي موازٍ بات يُعرف بـ«ميتافيرس».
يمكن أن توفّر شريحة الذكاء الاصطناعي 26 عاماً من التحسينات على المنتج التكنولوجي المنتجة بواسطة «قانون مور».
ففي عام 1971 كان هناك 2300 ترانزستور داخل شريحة «إنتل»، إلا أنه في عام 2013 بلغ عددها 7 مليارات. واعتباراً من عام 2022، ارتفع عدد الترانزستور إلى 114 ملياراً داخل شريحة «M1 Ultra» التي صممتها شركة «ARM» من خلال تصنيع أشباه موصلات بقياس 5 نانومتر، ونفذتها شركة «TSMC» التايوانية. وحالياً، أصغر شريحة معالج بقياس 3 نانومتر، تنتجها أيضاً «TSMC».
أهمية تصغير حجم الشريحة مرتبط بعملية تبريد الترانزستورات المصنوعة من مادة السيليكون، مع ازدياد عددها داخل الشريحة بات التبريد يستهلك طاقة أكثر من كمية الطاقة التي تمر بالفعل عبر الترانزستورات، بالتالي لم تعد هناك جدوى من عملية التصغير بواسطة التقنيات الحالية. وبهذا المعنى، بلغت الجدوى من هذه التكنولوجيا في إنتاج الشرائح حدّها الأقصى. واستدعى ذلك من الشركات المصنّعة إبطاء عملية تصغير الحجم لإطالة فترة الاستفادة من التقنية الحالية. وبالتالي، مات «قانون مور».
ومن مبرّرات موت هذا القانون أيضاً، أن بنية الكلفة في إنتاج شرائح أقلّ حجماً خلال فترة لا تزيد على 16 شهراً، تكبر بسرعة توازياً مع عملية تصغير الشريحة. إذ إن فتح خطّ إنتاج جديد لتصنيع شريحة 10 نانومتر جديدة يكلّف نحو 170 مليون دولار، ولتصنيع شريحة 7 نانومتر يكلّف نحو 300 مليون دولار، وشريحة 5 نانومتر يكلّف أكثر من 500 مليون دولار. فعلى سبيل المثال، أنفقت «NVidia» أكثر من 2 مليار دولار على البحث والتطوير لإنتاج وحدة معالجة الرسومات المصمّمة لتسريع الذكاء الاصطناعي. ويضاف إلى ذلك فروقات واسعة في أكلاف الإنتاج الإجمالية بين الحجم الأصغر والأكبر. وهذه الحقائق لم تكن بعيدة من أعين مصرف «مورغن ستانلي» الذي خفّض تصنيف (TSMC) بسبب النفقات الرأسمالية للسنوات المقبلة. إذ كانت الشركة تخطط لاستثمار 100 مليار دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة في تطوير عمليات تصنيع رقائق قياس 3 نانومتر العالية التقنية، بينما أعرب مورغن ستانلي عن خشيته في أن تضرّ النفقات الرأسمالية الكبيرة بهوامش ربح الشركة الإجمالية. بالتالي فإن كلفة الاستمرار في «قانون مور» ستنعكس سلباً على استرداد النفقات.
بموت «قانون مور» لم تجد الشركات تعويضاً سوى في الاتجاه نحو إنتاج شرائح الذكاء الاصطناعي. وبالفعل، بات كل الإنتاج التكنولوجي مرتبطاً بتطوير نواحي أخرى متصلة بالذكاء الاصطناعي، مثل المساعدين الافتراضيين للهواتف التي يطلق عليها «هواتف ذكية» (Siri وGoogle Now). فالعديد من هذه الهواتف صارت تتضمن برامج وأجهزة ترتكز على الذكاء الاصطناعي مثل أجهزة iPhone وهواتف Google Pixel، ومنتجات أخرى أيضاً. هذا الأمر يثير سؤالاً أساسياً مرتبطاً بنموذج الأعمال القائم على شرائح الذكاء الاصطناعي. إذ أنها أسرع بعشرات أو حتى آلاف المرات، وأكثر كفاءة من وحدات المعالجة المركزية (CPU في عملية تذريب الذكاء الاصطناعي. وهي أيضاً أكثر فعالية لجهة الكلفة، إذ يمكن أن توفّر شريحة الذكاء الاصطناعي 26 عاماً من التحسينات التي كان يمكن إنتاجها بواسطة «قانون مور».
شراء الوقت
من أجل الانتقال نحو قاعدة جديدة لإبقاء التوازن بين الإنتاج ومستوى تطوير المنتجات التكنولوجية، وبالتالي إبقاء مستويات الربحية في مستواها المرتفع، يتم حالياً إجراء اختبارات على مواد مختلفة للعثور على مادة تستطيع إطالة عمر نموذج العمل الراهن. شركة «TSMC» تدّعي أنها، بالتعاون مع باحثين من جامعة تايوان الوطنية، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أحرزت تقدماً تقنياً يرمي إلى تطوير أشباه موصلات بقياس 1 نانومتر، ما يتيح تصغير الشرائح ويتيح قفزة جديدة في عالم التطوير التكنولوجي، إنما سيكون السؤال متصلاً بالفترة اللاحقة وإمكانات تطوير إضافية. فالتطوير الأخير قد يشتري وقتاً أطول لنموذج العمل، إنما لن يستطيع إحياءه دائماً. قبلها، أعلنت شركة «IBM» عن أول شريحة بقياس 2 نانومتر تتميّز بزيادة قدرتها 45% في الأداء، وانخفاض بنسبة 75% في استهلاك الطاقة رغم أن الإنتاج التجاري من المحتمل أن يكون بعد سنتين أو ثلاث سنوات. لكن «TSMC» لم تحسّن بعد قدرتها على استخدام أشباه الموصلات بقياس 1 نانومتر في التصنيع التجاري بعد، بل ما زالت تختبر هذا الحجم الفائق الصغر.
اضف تعليق