تواجه صناعة البرمجيات العديد من الاحتكارات. يُشار إليها عموماً بـ«البرمجيات الاحتكارية»، أو «البرمجيات المقفلة». «مايكروسوفت» هي أحد أشهر المحتكرين في هذا المجال، وتليها «آبل». هذه الشركات راكمت الأرباح من خلال التحكّم بسلوك المستهلكين، إذ أجبرتهم، بشكل مستمر، على تحديث أجهزتهم والبرامج التشغيلية المخصّصة لها...
تواجه صناعة البرمجيات العديد من الاحتكارات. يُشار إليها عموماً بـ«البرمجيات الاحتكارية»، أو «البرمجيات المقفلة». «مايكروسوفت» هي أحد أشهر المحتكرين في هذا المجال، وتليها «آبل». هذه الشركات راكمت الأرباح من خلال التحكّم بسلوك المستهلكين، إذ أجبرتهم، بشكل مستمر، على تحديث أجهزتهم والبرامج التشغيلية المخصّصة لها، ليصبحوا جزءاً من نموّ الطلب على المنتج الذي تصنعه. وبهذا ضمنت استمرارية خطوط إنتاج مصانع التكنولوجيا الرأسمالية.
نماذج احتكارية
مهما كانت قدرات الحاسوب كبيرة، لا يمكن أن تعيش إلا ضمن الحدود التي رسمها عمالقة شركات البرمجة. الحاسوب والبرنامج هما منتجان تكنولوجيان يتم استيلادهما بناء على استراتيجيّتين: توفير المنتجات التي تطلبها السوق (متطلبات السوق)، والدفع بالتكنولوجيا من خلال جذب اهتمام السوق نحو منتجات جديدة لم تطلبها السوق. ففي سياق هاتين الاستراتيجيتين تنفذ الشركات تعديلات متواصلة على المنتج سواء لجهة قدرات الحاسوب والبرمجة التي تشغّله تخلص إلى تعزيز القدرة الاحتكارية للمنتج من خلال تطويره.
وأفضل من حافظ على مرحلة التطوير وحجبها عن بقية الناس، بقصد منع المنافسة هي شركة «مايكروسوفت» التي تستحوذ على حصّة سوقية عالمية تفوق 70% من أجهزة الكومبيوتر حول العالم بكل أشكالها (لوحي سطح مكتب ومحمول...). كلها تعمل بواسطة نظام تشغيل «ويندوز» التابع للشركة.
هناك نوعان من النهج الاحتكاري في هذا المجال. الأول أرسته شركة «مايكروسوفت»، والثاني أرسته شركة «آبل»؛ هيمنة «مايكروسوفت» جاءت نتيجة سياسات صارمة اعتمدتها الشركة عند إطلاق نظام تشغيل «ويندوز». فقد منحت ترخيصاً باستعمال النظام، لشركات أخرى مصنّعة لأجهزة الكومبيوتر (OEM). لذا، فإن العديد من صانعي الأجهزة استخدموا «ويندوز». ترجم الأمر في أن شركات مثل «دِل» و«توشيبا» و«إيتش بي» وغيرهم، صنعت أجهزة كومبيوتر تعمل وفق نظام «ويندوز»، وضمّنت كلفة التشغيل في سعر مبيع الجهاز، وهو ما أخفى سعر نظام التشغيل. إضافة إلى ذلك، عمدت «مايكروسوفت» إلى التبرع سنوياً بعدد كبير من أجهزة الكومبيوتر إلى طلاب المدارس حول العالم وثبتت فيها نظام «ويندوز». عملياً، اعتاد المستخدمون لهذه الأجهزة على برمجيات الشركة. أيضاً تنبّهت «مايكروسوفت» إلى شعبية ألعاب الفيديو لدى المستخدمين منذ الأيام الأولى وطوّرت إطار عمل للألعاب والرسومات «DirectX». وبات المطوّرون يفضّلون صنع ألعاب فيديو المتوائمة مع نظام «ويندوز». كما أن قاعدة المستخدمين الكبرى، تعني سوقاً أكبر لصنّاع ألعاب الفيديو (90% من حصة سوق ألعاب الفيديو يمتلكها نظام التشغيل ويندوز). وبالإضافة إلى ذلك، تهيمن الشركة على 48% من برامج كتابة النصوص (أوفيس) في كل الأجهزة حول العالم. من هنا، يمكن رؤية كيف أن حاجة معينة، باتت تغذي حاجة أخرى، وهكذا دواليك حتى بات المستخدم يعيش في بيئة رقمية متكاملة من صنع «مايكروسوفت».
لم تكتفِ «مايكروسوفت» بذلك، بل عمدت، بانتظام، إلى تغيير صيغة الملفات (format)، مع إبقائها ملكية خاصة بها. فعلى سبيل المثال، لا يمكن قراءة أي مستند كتب عبر برامج «أوفيس» إلا من خلال البرنامج المملوك لها. وعندما غيرت الشركة صيغة الملفات التي تحفظها برامج «أوفيس» الحديثة (من DOC إلى DOCX على سبيل المثال)، لم تعد برامج «أوفيس» القديمة قادرة على فتح المستندات الحديثة. وهنا تم إجبار المستخدمين حول العالم على شراء النسخة الجديدة من البرنامج. وآخر ما قامت به الشركة، إصدار نظام التشغيل الجديد «ويندوز 11»، الذي لا يمكن استخدامه إلا على الأجهزة الحديثة جداً. تحديداً وحدة المعالجة المركزية (CPU).
في المقابل اختارت «آبل» صنع أجهزتها الخاصة وتطويرها وتشغيلها عبر برامج خاصة بها حصراً. بهذه الطريقة استطاعت الشركة تعزيز حصريّتها وتحويل منتجاتها إلى حظوة. وللمفارقة، مستخدمو برمجيات «مايكروسوفت» ينظرون إلى الشركة باعتبارها تدير نموذجاً احتكارياً، خلافاً لنظرة مستخدمي منتجات «آبل» التي كانت براقة. ولم يظهر الأمر بهذا الوضوح إلا عندما عمدت «آبل» في السنوات الماضية، إلى خداع مستخدمي الهاتف الذكي «آيفون»، عبر تحديثات متتالية لنظام التشغيل على أجهزة «آيفون X» و«آيفون 8» و«آيفون 8 بلس» أدّت إلى تباطؤ عمليات تشغيل الهاتف. فجأة انتبه العالم إلى أن الأمر متعمّد كونه حصل سابقاً بالفعل مع أجهزة «آيفون 7» و«آيفون 7 بلس». في مرحلة ما، زعمت «آبل» أنها أطلقت «إدارة أداء» للأجهزة لتحافظ على عمر البطارية، ولا سيما تلك المستخدمة في الهواتف القديمة، لافتة إلى أنها قد تؤدي إلى إطفاء الهاتف بشكل مفاجئ إذا تم استخدامها بكثرة. وبعدما تنامى الغضب على الشركة، قالت إنه بمجرد استبدال بطارية الجهاز القديمة بأخرى جديدة، سيعود الجهاز إلى سرعته السابقة (هو أمر لم يكن معلوماً). عملياً، هذه الشركة قامت عمداً بإبطاء سرعة منتجاتها لأنها تعلم أن المستخدم سيشتري الأجهزة الجديدة.
بشكل عام، تعمد شركات البرمجيات العملاقة إلى إنشاء حلقة مغلقة تبقي المستخدمين مسجونين في منتجاتها. المستخدمون هم رهائن لدورة تفرضها تحديثات نظام التشغيل، وتحديثات برامج التطبيقات، وأخيراً تحديث أجهزة الكمبيوتر أو الهواتف. لكن في عالم اليوم القائم على تبادل المعلومات والبيانات، لا يمكن احتساب أن الكومبيوتر هو مورد غير أساسي. فعلياً هو مثل المياه وإمدادات الطاقة وكل الأمور الأساسية الأخرى. لذا، لا يمكن ترك أنظمة التشغيل والبرامج الاحتكارية، بين يدي شركتين فقط، خصوصاً أن الصانع يمكن أن يضع أبواباً خلفية في برمجيّاته. ومن خلالها يمكنه التحكم في تدفق المعلومات ومراقبتها والتأثير عليها دون أن يلاحظه أحد. ومن المثير للسخرية، أن واشنطن اتهمت الصين في هذه الأمور عندما أرادت «هواوي» أن تنشر تكنولوجيا الجيل الخامس للاتصالات اللاسلكية (5G).
البرمجيات المفتوحة المصدر
يزعم مؤيدو البرمجيات المقفلة مثل «آبل» و«مايكروسوفت»، أن هذا النموذج من الصناعة، المدفوع بالربحية، هو ما جعل البرمجيات بالمستوى الحالي من التطوّر. وأن عدم تشفير «كود» البرامج وجعلها مفتوحة المصدر، سيجعلها عرضة للقرصنة والنسخ بشكل مجاني. إلا أن مؤيدي هذه النظرية، يخفون عمداً نماذج عمل أخرى حققت نجاحات باهرة. فمنذ عام 1983، انطلقت حركة البرمجيات الحرة (Free Software movement)، وهنا تجدر الإشارة إلى خطأ شائع، أن مصطلح (Free) لا يعني المجاني، بل الحرّ. المهم، دعت هذه الحركة بقيادة المؤسس ريتشارد ستالمان، وهو مبرمج أميركي وعالم حاسوب وثائر في مجال حرية البرمجيات، إلى حرية مستخدمي الكمبيوتر، بحيث يتحكم المستخدمون في البرامج التي يستخدمونها، وليس العكس. أطلق ستالمان الحركة بإعلانه عن مشروع تطوير نظام التشغيل «GNU»، المكوّن بالكامل من برمجيات حرة. واخترع ستالمان أيضاً مفهوم «الحقوق المتروكة» (غيِّرها وأعد توزيعها لكن لا تجردها من هذه الحرية)، وكتب رخصة «GNU» العمومية العامة، التي تنفذ الحقوق المتروكة.
بهذه الخلفية انبثق ما يسمى اليوم بالمشاع الإبداعي. وهو أمر تعتمده العديد من المواقع الإلكترونية. من الخطأ افتراض أن جميع عمليات تطوير البرامج لها دافع واحد، هو الربحية. فالبرمجة هي فعل ينطلق في كثير من الأحيان من خلفيات أيديولوجية ومثالية سياسية وأخلاقية. ومع ذلك، فإن البرمجيات الحرة تكسب المال مثل أي برنامج آخر. ويكون ذلك عن طريق الاستضافة (Hosting) أو تقديم الحلول للشركات والمؤسسات التي تستخدم تلك البرامج، كما مساعدتها على تطوير البرامج بما يناسبها بشكل أفضل مقابل عقود سنوية. فعلى سبيل المثال، نظام التشغيل «أوبونتو» (ubuntu)، القائم على «لينكس» (Linux)، هو نظام تشغيل ممتاز وأثبت كفاءة عالية في الأداء، علماً أنه برنامج حر كما أنه مجاني يمكن لأي كان تنزيله ونسخه وتوزيعه، إلا أن الشركة حققت 83.43 مليون دولار في إجمالي الإيرادات مع 10.85 مليون دولار في الأرباح عام 2019. لن ترضي تلك الأرقام عمالقة شركات التكنولوجيا الاحتكارية، لكنها دليل على أن النموذج الحر ناجح.
كلفة القرصنة على المعروض الرقمي
بمعزل عن أن القرصنة للمنتجات الرقمية مثل الأفلام والبرامج وألعاب الفيديو والموسيقى، هي فعل جرمي يحاسب عليه القانون. إلا أنها أمر موجود، ولم يستطع أحد أن يوقفه بشكل فعلي. والقرصنة للمنتجات الرقمية بغية عرضها بشكل مجاني لمن يريدها، غالباً ما يكون لها خلفية أيديولوجية. بمعنى أن هناك مبرمج، أو مجموعة من المبرمجين، هم عقائدياً رافضين لفكرة البرمجيات المقفلة أو أن يكون لها سعر. لهذا يعمل هؤلاء بذهنية روبن هود رقمياً.
راجت المواد المقرصنة على الإنترنت بكثرة حتى نهاية عام 2009، وعندما بدأت تقنية البث التدفقي عبر الإنترنت (Streaming) تنتشر منذ مطلع عام 2010، انخفض مستوى القرصنة للأفلام والمسلسلات بشكل كبير جداً. لكن في السنوات القليلة الماضية، عادت القرصنة بقوة لعالم الأفلام والمسلسلات. والسبب الرئيسي خلف ذلك، هو كثرة منصات البث التدفقي. بمعنى أن المشاهد اليوم، ولكي يتابع كافة المسلسلات أو الأفلام التي تعجبه، سينتقي مسلسل على «نتفليكس» وآخر على منصة «هولو» وثالث على منصة «ديزني بلاس» وربما رابع على منصة «أمازون برايم». وفي حين أن كلفة الاشتراك شهرياً على واحدة من تلك المنصات هو أمر مقدور عليه، لكن عندما يصبح المشاهد بحاجة إليها كلها، ستكون كلفتها الشهرية باهظة. لذا، لم يكن هناك من حل سوى مشاهدتها بشكل مقرصن. تُظهر إحصائيات القرصنة الأخيرة، أن الشركات المنتجة للمواد الإباحية هي أكثر المتضررين من القرصنة، إذ تمت قرصنة أكثر من 35.8% من محتواها عبر الإنترنت. في حين أن أفلام السينما ليست بعيدة عن هذا الحد بنسبة 35.2%. ووفقاً لإحصاءات القرصنة الإعلامية لـ«غرفة التجارة الأميركية» عام 2019، فإن قرصنة التلفزيون والأفلام تكلّف الصناعة ما بين 29 مليار دولار و71 مليار دولار كل عام. وإذا أضيف قرصنة البث المباشر للمباريات الرياضية، فإن المبلغ الإجمالي يصل إلى 229 مليار دولار سنوياً. بالنسبة إلى قرصنة الكتب الإلكترونية. وجد اتحاد الناشرين المصريين أن القرصنة تكلف الناشرين في مصر 16.8 مليون دولار كل عام. ووجد «مكتب المملكة المتحدة للملكية الفكرية»، أنه في عام 2017، تمّت قرصنة 17% من جميع الكتب الإلكترونية التي تم تنزيلها في ذلك العام (4 ملايين كتاب). ويُعد (4shared) أشهر موقع إلكتروني لتنزيل الكتب.
ووفقاً لموقع «ستاتيستا»، تُظهر البيانات أن نسبة المستهلكين الذين يصلون إلى الموسيقى من خلال قنوات غير قانونية في جميع أنحاء العالم، وصلت إلى 24% عام 2017. كذلك يشير الموقع، إلى أن حصة البرامج المقرصنة في مختلف المناطق الجغرافية عام 2017، أتت على الشكل التالي: أميركا اللاتينية 52%، وسط وشرق أوروبا 57%، آسيا والمحيط الهادئ 57%، الشرق الأوسط وأفريقيا 56%، غرب أوروبا 26%، أميركا الشمالية 16% ودول البريكس 60%. ويُعد (pirateBay) أشهر موقع إلكتروني لتنزيل كل المحتوى الرقمي المقرصن (برامج، ألعاب، موسيقى وكتب).
اضف تعليق