كروبات اليوم، تستحق الدراسة، لأنها عالم غريب الأطوار، الكثير من محتواها فقاعات مائية متطايرة، وكثير من أقلامها تحتاج إلى جلسات نفسية للدراسة، معظمهم كالنعام يدفن رأسه في الرمال للتنصت على ذبذبات الآخرين، وخفافيش تتطاير ليل نهار لصيد الأخطاء وتخوين الآخرين...
قرأت مؤخرا بوجود جزر تيومان، تقع على الشرق من شبه جزيرة الملايو، تعتبر مكانا غريبا بالنسبة إلى كثير من الباحثين في مجال علوم الحيوانات وسلوكها. فهي تضم غابة كثيفة من الأشجار وسواحل رملية هادئة، تعيش عليها مئات الأنواع الغريبة من الحيوانات التي لا تعيش في مكان آخر من الكرة الأرضية.
فهناك سمكة تمشي على الأرض، وخفاش يصطاد الحشرات في وضح النهار يختلف عن غالبية أنواع الخفافيش الأخرى في العالم التي تنشط وتصطاد ليلا فقط؛ والسبب لهذا النشاط النهاري – حسب اعتقاد العلماء -هو عدم وجود مفترس جوي يتربص بها. وهي بالمناسبة ليست كائنات عمياء كما يعتقد البعض، وبعض أنواعها يمكنه الرؤية أفضل من البشر بثلاث مرات.
وهناك 1400 نوع من الخفافيش تعيش في أماكن مختلفة من العالم، وتلعب بشكل عام دورا مهما في الحفاظ على نظام بيئي صحي، وتسهم في السيطرة على مجموعات الحشرات، مثلما هي مصدر بالغ الأهمية للتلقيح، رغم أنها مؤخرا اتهمت بنقل فيروس كورونا للبشر، وأصبحت موضع رعب وتندر، ومجالا للإشاعات الكثيرة.
ومثلما هناك جزيرة غريبة في الخفافيش تصطاد الحشرات نهارا، فهناك في جزر البشر كروبات” بشرية رقمية تنتشر كحشرة الأرضة تعبث في العقول والأفكار، وتنشر أمراضها النفسية المزمنة، وتسقط جميع أمراضها السياسية والثقافية على أعضاءها، فتصداد الآخرين باسم الأفكار “الذهبية”، وتحتكر لنفسها الرأي. ولا تسمح للآخر أن يخرج عن أفكارها بالنقد والتصحيح، لاسيما “الكروبات” الأيديولوجية المتعصبة!
شخصيا، دخلت بعض الكروبات، احتراما لطلب أشخاص أحبهم وأحترمهم، فوجدت العجب العجاب فيها، لاسيما كروبات النخب والأيديولوجيات، فأنت تشعر كأنك داخل حزب يملي عليك تعليمات حزبية (نفذ ثم ناقش)، أو كروبات لنخب تصادر فكرك، وتسئ لفكرة الرأي الآخر. وعندما تريد أن تخرج من “الكروب” هربا من هذه المحنة الكبيرة، فأنك لا تسلم إلا بتسليمك شهادة خيانة الحزب، أو شهادة الخيانة العظمى للوطن، أو وضعك في خانة ”المرتدون“!
سأفصل الظاهرة من باب التوضيح، فالكروبات ظاهرة إيجابية عندما تكون ملعبا يونانيا لنشر ديمقراطية الفكر، أو سوق عكاظ للثقافة ونشر المعرفة، أو منتدى للحوار الديمقراطي، لا مكانا للغوغائيات السياسية والطائفية والعشائرية، والعصبيات المختلفة، والأهواء والنحل. فالديمقراطية ليست أقوالا نظرية، إنما هي ممارسة حية لإنتاجها. والتعبير عنها بالحياة. وبهذا المعنى فنحن معها لا ضدها.
لا أريد التعميم، عن الكروبات وأعضاءها، فهناك كروبات ديناميكية الفكر، لكن الكثير منها اليوم، فيها ما يضحك ويؤلم ويبكي، خزعبلات لا تليق بأهل العلم والفكر، وتناحرات شديدة تصل إلى حد تجهيل الآخر أو تخوينه، أو حتى التشهير به.
فلا غرابة أن تجد فيها حدوتات و”سوالف” الشوارع الأمامية والخلفية، وصور وفيديوهات مكررة وساذجة لا معنى لها، وخواطر صباحية ومسائية وليلية سمجة بمعانيها وأسلوبها. ومع كل هذه السذاجات والخزعبلات تجد إن الصوت الأعلى فيها، هي النرجسية المريضة التي تتحكم بمفاتيح التقييم والدخول والخروج!
لقد غادرت الكثير من الأكروبات، بعد تجارب كثيرة وأليمة، بسبب ممارسة البعض لأساليب القمع الفكري والتخوين، يذكرني بخفاش جزر “تيومان”. حيث أظهر البعض بطولات في اعتراض ما اكتبه صراحة من تصويب للأفكار وتحديثها، لأنه خارج عقله المؤجر، وتربيته السياسية التقليدية.
فيتقمص دور البطل الوطني الوحيد في “الكروب “ في إعلان موقفه الصريح، بينما لا يجرئ إن يقول رأيه جهرا في صحيفة أو وسيلة إعلامية رقمية أخرى؛ لأنه يخاف من ظلم الحاكم، أو يقطع عنه مستحقاته التقاعدية. ولعمري هناك فرق بين ما يكتبه البعض بأعلى صوته بالصورة والحرف على الملأ جهارا، وبين الآخر الذي يطير كالخفاش في الكهوف المظلمة، ويرمي كرة الخيانة على الآخرين!
والقصة تتلخص، هناك من يستوطن هذه “الكروبات” لتحقيق حب الذات أو الأنانية لتصريفها في قنوات النقد المريضة، والتلذذ في تدمير الآخر؛ هو سادي ذو تركيبة نفسية غير سوية، وبالتالي فان علاقته بالآخرين مرضيّة عقيمة، يسعى لإعادة إنتاج التعايش الضائع والمفقود في حياته. وآخر يريد حب الظهور وبجذب الانتباه، لأسباب عقائدية أو ثقافية أو حياتية.
وبالجمع والطرح، فأن النتيجة هو الهوس بجذب الانتباه، ومراقبة ردود فعل أعضاء الكروب للتأكد من انجذابهم للفعل. وبالتالي الهوس بإظهار الكبر والاستعلاء، وحب التسلط والإعجاب بالنفس، والافتخار بها، وتقمص شخصية الماضي وسلطتها، وحب الجاه والشهرة، والمدح والرياء.
“كروبات” اليوم، تستحق الدراسة، لأنها عالم غريب الأطوار، الكثير من محتواها فقاعات مائية متطايرة، وكثير من أقلامها تحتاج إلى جلسات نفسية للدراسة، معظمهم كالنعام يدفن رأسه في الرمال للتنصت على ذبذبات الآخرين، وخفافيش تتطاير ليل نهار لصيد الأخطاء وتخوين الآخرين!
اضف تعليق