"يوجد في الاتحاد السوفيتي – السابق- دوائر للإلحاد، بمعنى هنالك ما يشبه المؤسسة مهمتها التخطيط لإدخال الناس في الألحاد، جاء هذا في كتاب باللغة الفارسية تحت عنوان : "خنت وطني"* يذكر فيه أن في الاتحاد السوفيتي توجد دوائر لترويج الإلحاد. وهذا يدعونا للمطالعة لمواجهة هذه الموجة، وأنا شخصياً؛ لا اعترف بأي شاب لا يطالع الكتب.
ربما يُقال أن الشباب مشغولون بالدراسة وطلب العلم في المدرسة والجامعة، بيد أن المطالعة الخارجية تساعد الطالب على استيعاب العلم.
وحسب هذا الكتاب فان الدوائر المشار اليها قامت خلال ثلاث سنوات بطباعة 217 كتاب حول الإلحاد، تتضمن إنكار الخالق والتنكّر للانبياء وأن الكتب السماوية أساطير وخرافات وغير ذلك. فلابد من مطالعة هذه الكتب لمعرفة الحقائق.
الإلحاد من الأزمة العقائدية الى المشكلة النفسية
من أجل قراءة دقيقة ومثمرة لهذا المقطع من محاضرة سماحة الامام الشيرازي الراحل، لابد من التوقف قليلاً عند هذه الظاهرة الفكرية المتموجة صعوداً ونزولاً خلال العقود الماضية، وهل هي تعبير عن مشكلة حقيقية في الفكر والعقيدة لدى المجتمعات الاسلامية؟
نعم؛ كانت تعبيراً عن أزمة عقائدية، لكن في الأمم السالفة، عندما انتهجت الفلسفة سبيلاً للمعرفة وتفسير ظواهر الحياة والطبيعة والموت والوجود والكون، فكانت البداية في المثالية المفرطة التي ذهب اليها افلاطون، واصفاً الاشياء في الحياة بأنها انعكاس لصور ذهنية ولا حقيقة مادية لها، ثم جاء من بعده ارسطو هاتفاً بالمادية البحتة وأن كل شيء في الحياة يفهم من خلال المادة الملموسة وإلا فلا وجود لأي شيء آخر مما يسمى بالميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة)، ومن هذه المدرسة الفلسفية تحديداً استلهم معظم المفكرون والفلاسفة في الغرب افكارهم واستنتاجاتهم حول كل ما يتعلق بالحياة والانسان.
والمشكلة التي أخذت بخناق الشعوب والأمم في الغرب طيلة القرون الماضية، أن المسيحية أخفقت في وضع نظام متكامل لحياة الانسان، كما عجزت عن بلورة المفاهيم والقيم المعنوية التي هي من صلب رسالتها السماوية، فأخذت الحيرة الناس مأخذاً من أين يكون مصدر الخير ومصدر الشر، ومناشئ الفضيلة والرذيلة وقيم أخرى مثل العدل والحرية، كلها اخفاها ضباب كثيف من تعاليم دينية غير دقيقة متهمة بالتحريف، الامر الذي جعل الناس يبحثون عن مخرج من مستنقع الاستغلالية البشعة من الطبقة الثرية من جهة، ومن الطبقة الحاكمة من جهة أخرى، فكانا كماشتا الموت البطيء لشعوب اوربا على وجه التحديد.
إن الافكار التي توصل اليها فلاسفة الغرب (أوربا) منذ القرن الخامس عشر، كانت تعكس حاجة الناس هناك كون الغالبية العظمى متشكلة من الفلاحين والطبقة المسحوقة في المجتمع والتي وجدت نفسها في المرحلة اللاحقة عبارة عن مجموعة صواميل في ماكنة الثورة الصناعية، بينما الطبقة الثرية والارستقراطية كانت تشكل الاقلية في المجتمع، وعلاوة على طابع الاستغلالية البشعة، كانت الكنيسة عاجزة عن الاستجابة لصرخات وآهات الناس من شدة الظلم والطغيان، الامر الذي وجدت في الافكار المادية ثم الالحادية المتنفس نحو أمل بحياة أفضل، لأنهم كانوا بحاجة الى الحياة الكريمة قبل التفكير بالأخلاق والايمان بالغيب، وانساق خلق كثير من الشعوب الاوربية نحو هذه الافكار منذ ظهورها بشكل منهجي وعلمي على يد عالم الأحياء البريطاني تشارلز دارون الذي استبدل وجود الخالق للوجود والكائنات الحية، بنظرية "النشوء والارتقاء" وقدم نظريته في كتاب "أصل الانواع" صدر عام 1859، ثم جاء في وقت متقارب.
عالم الاجتماع الالماني كارل ماركس ليضع اللمسات الأخيرة على نظرية الإلحاد مستفيداً مما توصل اليه دارون، فاذا كان هذا يتصور أن عملية التطور البيولوجي خاضعة لقانون الحاجة والتكيّف، ولا دخل لأيدي غيبية في أمر الطبيعة والخلق، فان ماركس قدم رؤية أشمل لحياة الانسان وتاريخه وحاضره ومستقبله، عازياَ علّة العلل لكل حوادث التاريخ الى العامل الاقتصادي، ورغم أن الانسان تابع لحاجاته، وليس له روح أو قيم أو دين او وجدان أدبي، وكل ما عليه هو الانتاج لحل أزمته المعيشية الخانقة، واستبدل الصراع بين قوى الخير والشر والحق والباطل، الى صراع بين بني البشر، تحت عنوان الصراع الطبقي وإلغاء الملكية الفردية بشكل تام والقضاء على البرجوازية وأصحاب الرساميل والمصانع، على أمل أن تتحقق السعادة والرفاهية للعمال والطبقة المسحوقة!.
واذا قارنا بين ردود فعل الجماهيرية لمقولة ماركس: "الدين أفيون الشعوب"، بين شعوب اوربا وروسيا التي احتضنت النظرية الماركسية – المادية، وبين الشعوب الاسلامية التي استفاقت فجأة على وقع هذه النظرية الغريبة، نعرف الفارق الكبير في الخلفية التاريخية وأسس العقيدة، فالإسلام لم يكن يوماً عدواً للعلم والمعرفة وعائقاً أمام سعادة الانسان، بل العكس تماماً، وهي الحقيقة التي يقرها المفكرون الغربيون قبل المسلمون، حيث الإقرار بأن العلم لم يعش عصراً ذهبياً باهراً إلا في ظل الإسلام، ولم تظهر المؤلفات والاكتشافات، ولا عباقرة العلم إلا في ظل احترام الدين الاسلامي للعلم والعلماء والدعوة المؤكدة من القرآن الكريم والنبي الأكرم والأئمة من بعده، على طلب العلم أينما كان، واكتساب الخبرات والتجارب لتحقيق المزيد من التقدم في الحياة.
إذن؛ فان المشكلة ليست في أصل العقيدة كما هو الحال في المسيحية، إنما في الحالة النفسية لشريحة من المجتمع الاسلامي، فالخيبة واليأس والخذلان وغيرها من مفردات الهزيمة النفسية هي التي تشكل جملة دوافع للتوجه نحو المادية –فكرياً- والابتعاد عن المعنويات ومعايير الأخلاق والايمان بالغيب، لذا يمكن ان نرى احد المنتمين للتيار الماركسي يقف بين مصلين على جنازة الشاعر الجواهري في سوريا! وآخر يشارك في إحياء ذكرى الإمام الحسين، عليه السلام، أيام عاشوراء!.
المطالعة وآفاق الحلول
كان سماحة الامام الشيرازي الراحل يضغط على الحروف وهو يدعو بشدّة الى المطالعة، موجهاً كلامه تحديداً على شريحة الشباب كونهم اصحاب الذهنية المتقدة والقابلية على استيعاب الافكار ثم الاستفادة منها بالشكل الصحيح، وعند الحديث عن الالحاد، يوصي سماحته، ليس فقط بمطالعة الكتب الدينية لمزيد من تكريس الإيمان والعقيدة في النفوس، وإنما الإطلاع على أفكار الآخرين، وحتى تلك الكتب التي ذكرها في حديثه، فهي جزء من الحقيقة التي يعيشها العالم، وكيف وصل الى هذه الدرجة من الابتعاد عن نور الحق والفطرة الإلهية.
من أهم الوسائل الناجحة التي اتبعتها "دوائر الإلحاد" في نشر وتكريس هذه الفكرة في نفوس الشباب تحديداً؛ وضع منهجية للمطالعة، فمن المقدمات والأوليات البسيطة للفكرة، ومن الابواب الرئيسية ذات المدخلية، مثل؛ التاريخ والفلسفة والأدب، وصولاً على تفاصيل الافكار والنظريات، يكون القارئ ضمن سياق معرفي خاص تأخذه الى نهاية المطاف والمقصد النهائي (الإلحاد) والانسلاخ كلية عن الدين والعقيدة والأخلاق والتاريخ.
بنفس الطريقة المنهجية في المطالعة، فان الجيل الجديد بحاجة برنامج خاص يتضمن أبواب رئيسية مثل التاريخ والسيرة والعقيدة والأخلاق ما من شأنها أن تفتح آفاق الحلول لمختلف الازمات التي تعيشها الأمة، وتجيب عن مختلف الأسئلة بشأن مصاديق القيم والمعايير الحقيقية للحكم على الأشياء، حتى نعرف الحق فنعرف أهله، وإلا فان وجود العدل – مثلاً- او الحرية او المساواة، لن تأتي الى واقع الناس وهم نيام في بيوتهم ليجدوها صباحاً في الشارع والدوائر الحكومية والاسواق، إذ لابد من التعرّف على الطريقة التي عاش فيها المسلمون الأوائل وما هي الدروس والعبر، وأين مكامن الخلل وعناصر القوة، كما يكون التعرّف على تجارب الأمم الأخرى في طريقة تحقيقها بعض النجاحات في الحياة، فهم في ظل الافكار المادية توصلوا الى حقائق علمية باهرة، كما صاغوا ثقافة اجتماعية ساعدتهم على توفير شيء من السعادة والاستقرار، مما يشجعنا على الاستفادة من هذه التجارب لصياغة نظام معاصر للحياة يقوده الايمان والأخلاق بما يجعل هذا النظام مطابقاً للفطرة الانسانية السليمة التي أودعها الله –تعالى- في الانسان، ليكون سعيداً كفرد وينقل هذه السعادة الى سائر افراد المجتمع.
اضف تعليق