قبل أن يصل الساسة المعارضون الى الحكم، غالبا ما تكون المثالية منهجا لهم لترويج أسماءهم وشخصياتهم وبرامجهم للوصول الى السلطة، فكما قرأنا في التاريخ وكما لاحظنا ما يجري في الصراعات السياسية من أجل الاستحواذ على السلطة، أن السياسي المعارض يطرح نفسه مسؤولا مثاليا، ولكن ما أن يستقر في أحد المناصب الحساسة للسلطة، حتى تتسرب المثالية من بين أصابعه وتتحول وعوده من المثالية الى الواقعية القائمة على نسف تلك الوعود البرّاقة، ليبدأ الانشغال بتثبيت السلطة وتنمية المنافع الى أقصى حد ممكن.
ترى هل هو هذا النوع من الحكم ما يطلبه الناس، وهل يمكن للساسة الموازنة بين المثالية والواقعية؟، إن المثالية في الحكم مطلوبة خاصة إذا عرفنا بأنها تزيد من إلتفاف الشعب حول الحكم.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (السبيل الى إنهاض المسلمين) حول هذا الموضوع: (يجب على الحاكمين أن يتحلّوا بأكبر قدر من المثالية، فإن المثالية ـ وبطبيعة الحال المثالية الممكنة التي لا تضر بالواقعية وإنما هي مزيج من الواقعية والمثالية، كما ألمعنا إلى ذلك سابقاً ـ توجب اطمئنان الناس بالحكم والتفافهم حوله).
لقد كانت المثالية في إدارة السلطة أسلوبا جوهريا للحكومة الإسلامية إبان حكومة الرسول الكريم (ص) حتى أنها صارت نموذجا وقدوة للغرب نفسه، استنادا الى القيم التي اعتمدها قائد المسلمين والمسلمون الأوائل من قيم عظيمة وأساليب حياتية متميزة، كالعدالة والإحسان والنظافة والجمال والعلم والثقافة وما الى ذلك من قيم مثالية راقية .
حيث يقول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب: (حين رأى الغرب والشرق بريق الإسلام وجماله وحسنه وعدالته أخذوا أشياء كثيرة منه، كالنظافة والنظام والجمال والعلم والثقافة والتربية والصناعة، مما كان المسلمون الأولون يتّصفون بها). فإذا كان الغرب (صانع الحضارة الراهنة) كما يتشدق بذلك في مناسبة ومن دونها، متأثرا بحكم الرسول (ص) والقيم التي اعتمدها في إدارة السلطة، فما بالنا اليوم نفتقر كمسلمين للحكومة المثالية والحكم القادر على استلهام مزايا الحكم النبوي المثالي؟.
تقشّف الحكام يثبت مثاليتهم
لقد توافرت لعدد من الدول الإسلامية والعربية، فرص ذهبية لوصول أحزاب وشخصيات إسلامية لإدارة الحكم في تلك الدول، تُرى ما هي صفات هؤلاء الحكام؟، وهل هم مثاليون فعلا، وما مدى الانسجام بين المثالية والواقعية، والأهم من هذا وذاك، هل لدينا حكام إسلاميون مثاليون، وما هي صفات الحاكم المثالي وما مزاياه.
لعل من أهم الصفات التي ينبغي على الحاكم الإسلامي أن يتميز بها ويتبناها تفكيرا وعملا، هي التقشف في السلوك، وفي المظهر العام، كالملبس والمأكل والمشرب، والركون الى المثالية، وعدم الإسراف والمبالغة في هدر الأموال التي هي بالأساس ملك لعامة الشعب والأمة، لهذا على الحاكم الإسلامي أن يثبت لنفسه وذويه أولا وللجميع من حوله وللأمة كلها بأنه زاهد في الدنيا وغير متعلق بما تقدمه له من عطايا ومزايا زائلة.
هذا بالضبط ما يؤكده الإمام الشيرازي في قوله بكتابه المذكور نفسه: (ينبغي تقشف الحكام، أي أن يكون الحكام زاهدين في الدنيا غير راغبين في مزاياها، وأن يقتنعوا من الدنيا بالقدر الضروري، لأن الحاكم إذا كان بسيطاً ولم يكن باذخاً ولا مترفاً ولا متعلقاً في الدنيا اطمئنَّ الناس إلى حكمه).
علما أن الحاكم الزاهد بصورة حقيقية سوف يكون مثاليا من دون أن يسعى للمثالية، وسوف يكون واقعيا في إدارته للسلطة والتعامل مع مزاياها، ولا يمكن أن يرتكب حالة واحدة من القمع ضد الشعب والأمة، كما أنه سيكون عادلا مع الجميع، بمن في ذلك أفراد عائلته، وحاشيته والمقربين منه، لا أن يتكالب هو ومن معه في السلطة على المنافع والمناصب والأموال، متناسيا نموذجه الأصيل في الحكم النبوي المثالي الذي راعى أقرب له وأبعدهم عنه، استنادا الى العدالة وحق المساواة وتكافؤ الفرص وعدم اللهاث وراء المنافع الحرمة التي تقدمها له السلطة.
في هذه الحالة سوف يكون الحكم الإسلامي مثاليا بهذه الصورة، سوف يصبح نموذجا للعالم أجمع وحتما أنه سيلفت نظر الجميع إليه كتجربة قيادية متميزة.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي: (إذا كان الحكم مثالياً بهذه الطريقة، فلابد أن يلفت أنظار العالم إلى ما فيه من المزايا).
الحكم العادل خالٍ من القمع
ولعل الركن البارز في مثالية الحكم الإسلامي، وفي توازنه مع الواقع، أنه يخلو من جميع مظاهر القمع، فهذه الصيغة السيئة لإدارة الحكم لم تكن موجودة في حكومة النبي (ص) ولا في حكومة الإمام علي (ع)، إذ لا يمكن لمؤرخ أو جهة موثوق بها يمكنها أن تثبت بأن هاتين الحكومتين الإسلاميتين الرائدتين تعاملتا بأسلوب قمعي مع الأمة في أي وقت أو ظرف سابق.
إذ لم تكن هناك أية حالة قمع ومن أي نوع كان، فلا مطاردة، ولا تعذيب، ومصادرة للرأي، ولا سجون، ولا إعدامات مطلقا، وهذا ما يؤكده المؤرخون الثقاة، ولعل النقطة الأهم في هذا المجال، أن الحكومة الإسلامية اليوم ينبغي أن تأخذ صفاتها وسماتها وبرامجها وطريقة إدارتها للسلطة من هاتين الحكومتين العادلتين، والسؤال هنا هل فعلا أخذت الحكومات الإسلامية في وقتنا الحاضر مثاليتها وواقعيتها من مثالية وواقعية حكومة الرسول (ص) وحكومة الإمام علي (ع)؟.
يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة بالذات: (بالنسبة إلى مثالية الحكم، ينبغي أن يكون الحكم في قضائه لا عادلاً فحسب، بل وإنما محسناً أيضاً، فلا إعدامات في الإسلام، ولا مصادرات، ولا سجون، ولا تعذيب).
إن الحكومة الإسلامية ينبغي لها أن لا تقمع الناس، ولا تتدخل في شؤونهم الخاصة ولا تحد من حرياتهم، وأعمالهم التجارية أو الزراعية أو سواها، بل ينبغي أن تكون الحامية لحقوقهم والداعمة لهم في جميع مجالات الحياة، وعليها أن تدمج بين المثالية والواقعية في تعاملها مع الجميع من دون استثناء.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله: (يجب أن يكون الحكم مثالياً من جهة إعطاء الحريات العامة، والتقدم بالمسلمين، وعدم تدخل الحكومة في شؤون الناس.. في تجارتهم، في زراعتهم، في صناعتهم، في سفرهم، في إقامتهم، في إبداء رأيهم، في اجتماعاتهم، في تأليفهم وكتاباتهم، في تدريسهم ونحو ذلك).
من هنا جاء الانبهار العالمي الكبير بالتجربة النبوية غي إدارة الحكم، وكذلك الأمر فيما يتعلق بحكومة الإمام علي (ع)، في مجال الحريات، حيث دعا الإمام على رؤوس الأشهاد الى عدم الإساءة للخوارج المعارضين له في أي حال، فقد منع ذلك بصورة واضحة، وهذا دليل على عدم قمع الرأي المعارض.
من جانب آخر كلنا نعرف موقف قائد المسلمين النبي محمد (ص) بعد أن وصل بجيش المسلمين الى مكة، وكيف تعامل من شرده وحاصره وعذبه وقاتله مع النخبة من ذويه أصحابه، ولعل صدى تلك الجملة الشهيرة لا يزال يتردد الى الآن (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وسوف يبقى ما بقيت الحياة، هكذا تعامل العظماء مع السلطة، وهكذا ينبغي أن يتعامل الحكام المسلمين اليوم مع السلطة، بزهد ومثالية وبلا قمع.
حيث يقول الإمام الشيرازي: (لهذه المثالية نرى العالم قد التفَّ حول الرسول (ص) والإمام علي (ع) هذا الالتفاف الغريب في زمانهما وإلى اليوم).
اضف تعليق