"جاء في الحديث الشريف: "من أراد الدنيا فعليه بالتجارة، ومن أراد الآخرة فعليه بالزهادة، ومن أرادهما فعليه بالفقاهة".
إن التجارة في الدنيا تجلب الرزق، وجاء في الحديث الشريف: "تسعة أعشار الرزق في التجارة"، أما طلب الآخرة يتطلب الزهد بها، وقد فسر أمير المؤمنين، عليه السلام، الزهد؛ بأن لا يملكك شيء، فليس الزاهد من لا يأكل ولا يتزوج ولا يسكن في دار واسع، إنما القصد ألا يكون الانسان أسير شهواته وغضبه، بل يكون شهوته وغضبه بيده، يوجهها حيث يريد هو، لا ما تريد الشهوة والغضب.
أما الحالة الثالثة؛ وهي أن يريد الأثنين، فعليه بالفقاهة، بمعنى أن تكون فقيهاً بالدين، وجاء في بعض الأدعية : "اللهم فقهني في الدين وحببني الى المسلمين واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين".
للفقاهة معنيان:
الاول: يُراد به المسائل والاحكام الشرعية المبوبة؛ من أول الطهارة الى آخر الديات، فعلى الانسان ان يكون فقيهاً ومجتهداً – على الاصطلاح المشهور- .
والثاني: وهو المعنى الذي عُبر عنه في عديد الآيات والروايات، وهو فهم الدين والدنيا، وفهم الدين، يشمل أصول الدين – فروع الدين - والاخلاق - الآداب - المحرمات و- الواجبات - المكروهات - والتاريخ – الردود – الاحتجاجات وما أشبه ذلك. والى جانب هذه المجموعة من المعاني، ثمة معاني مشهورة عن الفقه مثل: الطهارة – الصلاة – الحج – الخمس – المضاربة – الشِركة – النكاح – الطلاق – الحدود – الإرث وما أشبه ذلك، وكثيراً من يُعبر في النصوص الدينية؛ كتاباً وسنّة، عن هذا الفقه؛ بالفهم المستوعب".
الشمولية لا التجزئة في فهم الدين، ارتبطت مفردة الفقه، بالأحكام الدينية؛ من واجبات ومحرمات، ثم تلبّس هذا المفهوم على صاحب الفقاهة، وهو عالم الدين او الطالب في الحوزة العلمية، وبات من الصعب تصديق وجود علاقة بين عالم الدين وبين أمور حياتية مثل؛ الصحة والتعليم والتجارة والقانون وغيرها، لان لهكذا أمور متخصصين ليست لديهم أية علاقة بالحوزة العلمية.
وبما أن الفهم، كنشاط ذهني، يتطلب قاعدة او معيار على اساسه يتحقق هذا الفهم، فالعلوم الطبيعية مثل الكيمياء والفيزياء، تفهم بناءً على قواعد علمية محددة، وهكذا مسائل الحياة لابد لها من موازين ثابتة تسير عليها تحفظها من الفوضى والتناقضات وكل ما يجلب على الانسان الاضرار النفسية والمادية، لذا جاء الإسلام وقدم نظاماً متكاملاً للحياة يوفر أقصى درجات ما يحتاجة لحياة كريمة وسعيدة، وذلك وفق قواعد وموازين معينة جاءت بها القرآن الكريم والسنة المطهرة.
بيد أن المشكلة بدأت حينما انزلق المسلمون نحو التجزئة في فهم الدين وحقائق الحياة، واصبح التبعيض، السمّة البارزة للثقافة العامة في الامة منذ بدايات أفول الحضارة وانسدال ستارة التخلف والتبعية أمام أعين المسلمين، وبات الشيء الذي نفهمه من الدين؛ الحلال والحرام فقط، أما الامور الأخرى، فعلينا اسيترادها من افكار الآخرين، وكيف ابتكروا، وصنعوا، وعاشوا، ولعل هذا تحديداً ما حاول اختراقه الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- بمشروعه الحضاري الرائد بإطلاق دراسة الفقه في جميع مجالات الحياة، داعياً الى دراسة السياسية والاقتصاد والاجتماع والإدارة والقانون وحتى المرور وفق معايير الاسلام ونظامه، فخرجت الى النور سلسلة المؤلفات القيّمة تحت عنوان "الفقه السياسية" و"فقه الاقتصاد" وغيرها بما من شأنه ان يحقق الغاية المأمولة بما وصفه سماحته في هذه المحاضرة الصوتية بـ "الفهم المستوعب" للحياة.
والقرآن الكريم يمثل القاعدة الكبرى لهذا الفهم المستوعب عندما يعالج الظواهر الانسانية وحقائق الحياة والوجود بشكل شمولي يستوعب الجوانب كلها لتكون الحصيلة امام الانسان – أي انسان- على مر الاجيال والدهور، امام قوانين وسنن ثابتة يستضيء بها لحياته، دون قلق من تغيير مفاجئ او تناقض او أي استشعار سلبي آخر، كما هو الحال في القوانين والنظم التي تسود العالم متمخضة من تصورات ذهنية.
وعندما نقرأ الآيات الكريمة حول بني اسرائيل، نلاحظ فيها الطابع السياسي والصراع بين المستضعفين من هذا القوم، وبين الفراعنة، وتحديداً ذلك الفرعون الذي عاصر نبي الله موسى، بيد أن القرآن الكريم لا يقتصر بيانه لهذه الواقعة التاريخية من الزاوية السياسية، حيث الصراع والكفاح والانتصار، وإنما يسلط الضوء على جانب انساني دقيق له علاقة بالكفر والايمان، ألا وهو الشكر، ليس لنعمة الطعام والشراب الموفورة للجميع، وإنما لنعمة الأمن والحرية التي توفرت بعد انتصارهم على ذلك الطاغية، لذا نقرأ في سورة المائدة: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ}. وهكذا سائر المسائل والقضايا في حياة الانسان، فالعبادة في القرآن مقرونة بطاعة الوالدين {...وبالوالدين إحساناً} أو الاقتران بين العدل، وهي مفردة تتعلق بالحكم والسياسة، وبين الإحسان، وهو ينصرف الى شأن اجتماعي واقتصادي.
هذه الرؤية الشمولية تساعدنا على فهم صحيح لمسائل الحياة، بل والتوصل الى تفسير دقيق للظواهر الاجتماعية كالتي نلاحظها اليوم بغية معالجتها مثل الفقر والفساد الاداري والتفكك الأسري وغيرها، واذا نجد الاخفاق في محاولات الإصلاح لهذه الظواهر او حتى تلبية بعض المطالب الجماهيرية، فان مردّه – بشكل اساس- الى النظر في كل قضية لوحدها دون المتعلقات والمؤثرات والخلفيات، فيضطر المعنيون للحلول الترقيعية او الاجراءات المحدودة بزمان ومكان.
إن فهم الحياة، يعد من الركائز الفكرية لسماحة الامام الشيرازي الراحل، فهو يرى في فهم الدين الوجه الأول للنجاح والتقدم، ويأتي الوجه الثاني وهو فهم الحياة بما من شأنه تبيين صفة الديناميكية والحيوية للدين ومدى تفاعله مع حياة الانسان، وهذا يبدو من مسؤولية الحوزة العلمية وعلماء الدين، فالذي يدرس أحكام الزواج ينبغي له دراسة علم الاجتماع ايضاً، او من يدرس تفسير القرآن الكريم، ان يدرس ايضاً تاريخ الشعوب والأديان عبر التاريخ، او من يدرس القضاء والقصاص والديّات أن يدرس القانون، او من يدرس الاخلاق، ان يدرس علم الاقتصاد.
الى جانب هذا، تكون مسؤولية الشريحة الواعية والمثقفة متابعة هذه الدراسة للوقوف عند المعايير او القوانين التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، لتنظيم الحياة لمن يريد –حقاً- تحقيق طموحات كبيرة مثل التنمية والتطوير، ومن ثم إسعاد الناس.
اضف تعليق