يصنّف علماء الاجتماع المجتمع الى نوعين، فهناك المجتمع الصغير الذي يضم عددا محدودا من الأفراد كالعائلة أو المدرسة وما شابه، وهنالك المجتمع الكبير الذي يضم بين طياته كل أنواع المجتمعات الصغيرة وعموم الأفراد، وبهذا يكون لدينا مجتمعين صغير وكبير، ولكن كلاهما بحاجة الى مقومات الإصلاح الصحيحة، حتى تكون هناك مواكبة للتطور الاجتماعي الذي يحصل في عموم المعمورة.
علما إن أي خلل في عملية إصلاح المجتمع الصغير، سوف ينعكس بصورة أو أخرى على المجتمع الكبير، لأن الأخير كما ذكرنا هو حاصل جمع المجتمعات الصغيرة، من هنا ينبغي على المخططين لتطوير المجتمع وإصلاحه ومعالجة المشكلات التي قد تعترض طريقه نحو التطور، أن يأخذوا على عاتقهم ويضعوا في حسبانهم التركيز الفعلي على إصلاح العائلة والمدرسة وكل أنواع التجمعات أو المجتمعات الصغيرة، فهذا الأمر له انعكاس على طبيعة إصلاح المشكلات التي قد تتخلل النسيج الاجتماعي العام.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: الاجتماع ج1)، حول هذا الجانب: (ينبغي إصلاح المجتمع الصغير، أي العائلة والمدرسة ونحوهما، فقد سبق القول بأن المشاكل العائلية وسوء تربيتهم للأولاد، وانحراف الثقافة في المدرسة، وسوء تعامل المعلم ونحوه مع التلاميذ، يسببان لهم انحرافاً).
وتوجد توجيهات يقدمها الإمام الراحل للأبوين بخصوص تربية أفراد الأسرة، فيؤكد سماحته على أهمية المزاوجة بين (العقل والعاطفة) أثناء رفد الأطفال بالتربية، فلا يكون هناك تركيز على التطوير العقلي وحده، ولا على العاطفي وحده، وإنما من الأفضل أن تشمل تربية الأبوين الجانبين العقلي والعاطفي معا.
كما نقرأ ذلك في هذا القول للإمام الشيرازي في المصدر نفسه: (ينبغي على الأبوين إعطاء الأولاد العقل والعاطفة معاً، بدون إهمال أو تشديد حتى يحس الطفل بالأمن ويشعر بحدود عمله، فيعطيانه حاجاته، وفي الوقت نفسه يعلمانه الانضباط والنظافة والأدب والعمل، وحب الآخرين، والمشاركة معهم وعدم الاستبداد في الرأي أو السلوك).
مقومات إصلاح المجتمع الصغير
وعلى الرغم من أن المدرسة تصنَّف على أنها من ضمن المجتمعات الصغيرة، إلا أن دورها في الإصلاح يكاد يقع في الصدارة بسبب الطابع التربوي التعليمي الثقافي الأخلاقي لدورها في تطوير الأفراد والجماعات، ما ينعكس على إصلاح المجتمع الكبير بصورة واضحة، ومع أن تقويم الأطفال في المدرسة أكثر صعوبة وتعقيدا من حاضنة الأسرة الأصغر، لكن يبقى دور المدرسة في غاية الأهمية، لكن هناك مشكلة في الفضاء المدرسي الواسع، حيث النفس مهيّأة لاكتساب السيئات أسرع أو أيسر من اكتساب الحسنات.. لهذا ينبغي أن يكون هنالك تركيز في هذا المجال خاصة في التعليم الثقافة وردع الأخلاق السيئة في الوسط المدرسي.
لذلك يؤكد الإمام الشيرازي هذا الأمر بدقة حيث يقول في المصدر المذكور في أعلاه: (أما المدرسة فهي محل التربية الفكرية والعملية، وتقويم الطفل فيها أصعب من تقويمه في البيت، حيث أنه في المدرسة تختلط الأجواء، فإن لكل طالب جواً، والنفس تسرع في اكتساب السيئات أكثر من كسبها للحسنات.. ولذا ينبغي استقامة الثقافة، واستقامة التربية، والمواظبة الكاملة على عدم تفشي الأخلاق السيئة من بعض الطلاب إلى بعضهم الآخر).
علما هنالك تداخل وترابط في عملية إصلاح المجتمعين الصغير والكبير، إذ لا يمكن إصلاح المجتمع الصغير، إذا كان الكبير فاسدا أو غير صالح، وإذا أمكن فإن عملية الإصلاح تكون معقدة وتستغرق وقتا طويلا، لذلك يشترَط في إصلاح المجتمعات الصغيرة (كالعائلة والمدرسة وما شابه)، أن يكون المجتمع الكبير صالحا أصلا، حتى يكون بمقدور الجهات الإصلاحية (تخطيطا وتنفيذا)، أن يقوموا بعملية الإصلاح بطرق ناجعة تؤدي المطلوب بنجاح تام.
ولكن اذا كان المجتمع الكبير نفسه معتلّا مريضا، يعاني من علل وعاهات أخلاقية وثقافية وفكرية وسلوكية، فإن هذه الأمراض تؤثر حتما وبقوة على عملية إصلاح المجتمعات الصغيرة، وتجعلها أكثر تعقيدا إن لم تكن مستحيلة، فكيف يمكن أن تصلح عائلة في مجتمع فاسد، هذا شبه مستحيل إن لم يكن المستحيل بعينه، من هنا يأتي التركيز والتأكيد المستمرين على أهمية أن يكون المجتمع الكبير صالحا، حتى تسهل عملية إصلاح المجتمع الصغير.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي في هذا الشأن: (لا يخفى، أن المجتمع الصغير مندمج في المجتمع الكبير، لذلك ينبغي أن يكون المجتمع الكبير صالحا أيضاً، إذا أريد إصلاح المجتمع الصغير).
مقومات إصلاح المجتمع الكبير
وعندما نتطرق الى عملية إصلاح المجتمع الكبير، فإن الأمر سوف يكون أكثر صعوبة بسبب تعلق هذا النوع بالإصلاح في مجالات عديدة مثل الاقتصاد والسياسة والمؤسسات الاجتماعية والتربية وسواها، كما يشير الى ذلك الإمام الشيرازي، وكما هو واضح أن الإصلاح بهذه السعة وهذا التنوع والتعدد على مجالات واسعة ومهمة، يحتاج الى كوادر كبيرة لتنفيذ عمليات الإصلاح الواسعة والمتعددة المجالات.
فالسياسة ينبغي أن يتم تخصيص فريق إصلاحي خاص بها، نظرا لأهميتها، وانعكاس هذا النوع من الإصلاح على مجالات حياة الإنسان كافة، فعندما يتم تعديل السياسية الى ما هو أفضل، هذا يعني أنك سوف تنجح في إصلاح الاقتصاد والتربية والصحة والثقافة، نعم لإصلاح السياسة تأثير كبير على عملية الإصلاح المجتمعي الشامل، ولكن يبقى الأمر بحاجة الى كواد متخصصة كل حسب مجاله، فمثلا الثقافة لكي يتم تطويرها وتحديثها تحتاج الى كادر ثقافي متخصص ومتطور جدا، وينطبق هذا الأمر على المجالات الأخرى كافة.
فلا يصح مثلا أن يتصدى فريق قاصر لإصلاح الاقتصاد، وأمر طبيعي أن الإدارة السياسية إذا صلحت، وأن صنع القرار اذا كان سليما وعلميا ودقيقا ومطابقا للمطلوب بحسب الظروف المحيطة، فإن النجاح سوف يكون حليف الكادر الإصلاحي في الاقتصاد، وينطبق ذلك على المجالات الأخرى التي ينبغي أن يطولها التصحيح.
كما نلاحظ ذلك في القول الآتي للإمام الشيرازي: (أما إصلاح المجتمع الكبير، فهو من أشكل الأمور. إذ يتدخل في ذلك الاقتصاد والسياسة والشؤون الاجتماعية، والعمران، والتربية، وغيرها، وهذا النوع من الإصلاح بحاجة إلى جيش من المصلحين، ومن المثقفين، والمحنكين حتى يمكن إصلاحه).
علما أن المجتمع الكبير لا يمكن تغييره بوسائل بسيطة، ولا بإمكانيات وموارد ضعيفة، ولا يمكن تحقيق هذا الهدف من خلال خطوات فردية ضئيلة المستوى أو الحجم، نحن هنا نتحدث عن عملية إصلاحية كبيرة تتعلق بإصلاح مجتمع كبير متعدد وواسع من حيث الكم والنوع، لهذا يحتاج الأمر الى طاقات نوعية متخصصة وكبيرة الحجم والمستوى، بما يتناسب وحجم الهدف من العملية الإصلاحية نفسها، لذا يستدعي الأمر موجة هائلة من التخطيط العلمي السليم، يضع في حساباته جميع المعوقات والمفاجآت ويمهد لما هو مطلوب وما هو ممكن في هذا المجال الهام.
يقول الإمام الشيرازي عن هذا الموضوع بصورة محددة في كتابة (الفقه: الاجتماع ج1): (في إطار إصلاح المجتمع الكبير ينبغي مثلا محاربة تعاطي الخمور والمواد المخدرة، والانحراف والشذوذ الجنسي، ولا يمكن إصلاح المجتمع من خلال فتح مدرسة، أو إصدار مجلة وما أشبه، فهذه معالجات جزئية، لا يمكن إصلاح المجتمع الكبير بها، وإنما إصلاحه بحاجة إلى تخطيط عام يشمل كل الجوانب وأول الإصلاح هو أن يكون القائمون به صالحين، وإلا فإن: فاقد الشيء لا يعطيه).
اضف تعليق