التجريب يقترب من معنى التدريب والتعديل والانتقال من طريقة عمل الى أخرى، وصولا الى النتائج الأفضل، لذلك بغياب خبرات الممارسة (التجريب والتدريب)، تبقى الخبرة النظرية تخوض غمار التجربة وحدها، لذلك تفشل بتأدية المطلوب في معظم الحالات، أما عندما يكون العمل في شيء او مجال ما، مقرونا بخبرة عملية سابقة ولا يقتصر على الفهم النظري، عن طريق الكلام او الكتابة والوصف وما شابه، فإن نسبة النجاح في تحقيق النتائج المرجوة سوف تكون عالية جدا، إعتمادا على الممارسة السابقة في انجاز العمل نفسه، لذلك يبقى الجانب النظري عائما ومعزولا، ولا يكفي للخوض في انجاز المشاريع الكبرى، وحتى الصغرى منها، لأن النظريات وحدها لا تكفي، ولا تؤدي الغرض المطلوب بخصوص النتائج المبتغاة.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: الادارة ج1) حول هذا الموضوع: (إن الإدارة ممارسة، لا مجرد نظريات وآراء وفرضيات).
وهذا يؤكد بصورة حاسمة أهمية الجانب العملي وممارسة التجارب عمليا، بما يتناسب مع أهمية الجانب النظري، فالأفكار مهما كانت راقية ومتطورة وصادرة عن عقول كبيرة ومتميزة، تبقى كلمات فقط ما لم تتحول تلك الافكار الى نتائج عملية ملموسة، لذلك يُصعب الخوص في تحقيق الافكار ما لم تكن هناك ممارسة عملية ترافق الكلمات والافكار التي تتضمنها، كذلك تبقى النظريات عائمة اذا لم يسندها التطبيق ويؤكد نجاحها أو فسلها، فليست الافكار كلها جيدة، إذ قد تكون بعض الافكار ذات نتائج عكسية تماما، لهذا ليس هناك مفر من التطبيق الذي يكون غالبا بموازاة التنظير.
في الأعمال الإدارية، نحتاج الى مدراء إداريين، يمتلكون الخبرة والقدرة على الاداء الاداري التطبيقي، وهذا يستدعي من الاداري ممارسة سابقة في هذا النوع من العمل، أو ما نسميه الخبرة العملية في مجال الادارة، لذلك ليس هناك قدرة على تحقيق النجاح في الادارة ما لم تقترن الافكار بالممارسة الادارية السابقة.
يقول الامام الشيرازي في هذا المجال بالكتاب المذكور نفسه: (إن تبلور النظريات والآراء لا يتم إلا بالممارسة، أما من يملك النظريات فقط من دون ممارسة، فيصلح أن يكون مستشارا من الدرجة الثانية، إذ المستشار من الدرجة الأولى هو الذي مارس العمل وتصاعد في عمله بالتجارب).
التجارب والفكر توأمان
لا شك أن عالمنا قائم على دعامتين أساسيتين، الاولى هي التجارب والتجريب، والثانية الافكار والتنظير، فإذا افتقد المجتمع احدى هاتين الدعامتين، لا يمكن أن يخطو خطوة واحدة الى امام، وهذا يفنّد الرأي الذي يقول أن التنظير يتقدم على الممارسة العملية ويتفوق عليها، لأن غياب الممارسة والتجريب، سيجعل الافكار تدور في فضاء مغلق لا علاقة له بالإنجاز المادي الملموس، ولا يقترب منه.
لذلك يؤكد الامام الشيرازي في كتابه المذكور قائلا: (إن الحياة تعتمد على التجارب مثل اعتمادها على الفكر)، بمعنى أن الممارسة تقف جنبا الى جنب مع الجانب الفكري او النظري، ويضرب لنا الامام الشيرازي مثالا بسيطا وبليغا وواضحا عن هذا الامر فيقول في هذا الصدد:
(كون الإنسان شجاعا يعرف فنون الحرب، لا يجعله محاربا ناجحا إلا إذا خاض حروبا وخرج منها بسلام، وعرف مواضع الخطأ والصواب حتى يتجنب الأولى في المواضع المشابهة وينجح في الثانية. وهذا ينطبق على الفقيه والسياسي والخطيب وغيرهم).
إذن هذا القول يدل بصورة حاسمة على أهمية التجربة المسبقة لمعرفة الاخطاء التي قد يقع فيها من يمارس عملا معينا، فإذا قام بإعادة تجريب العمل نفسه، هذا يعني انه اطلع سابقا على مواطن الخلل والعقبات والمشكلات التي قد تعترض طريقه في العمل، وسوف يتجنبها ويحاول ان لا يسقط فيها مرة اخرى، لأنه اطلع عليها سابقا، وعرف كيفية التعامل معها وتجنبها، وهذه تحديدا فائدة ممارسة العمل الاداري بموازاة الافكار الادارية المطروحة، وعندما يلتقي التنظير الاداري او سواه مع الجانب التطبيقي، سوف تتحقق نسبة نجاح عالية في النتائج، لاسيما اذا عرفنا أن الممارسة المسبقة للأفكار الادارية المطروحة، سوف تسهم بشكل فعال بتحقيق النجاح المطلوب أو المخطَّط له، أي تحويل الافكار الى أفعال، وعندما يتم دعم التصورات الادارية المطروحة، من خلال رؤية تقوم على ممارسة ومعرفة سابقة، فإن نسبة النجاح في قطف الثمار الجيدة، ستكون عالية.
المسؤولية والولاء
لا تنحصر قضية النجاح الاداري بالتجريب او الممارسة المسبقة فقط، إنما هناك اشتراطات أخرى كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي، منها أهمية أن يتوافر في شخصية الاداري او المدير الاستعداد التام لتحمل المسؤولية، فالإداري اذا لم يكن مستعدا نفسيا وفكريا ومهاريا لتحمل المسؤولية، فإن هناك احتمالات الفشل قد تطول عمله في ادارة الاعمال والمشاريع المختلفة، لهذا ينبغي أن يمتلك هذا الشرط لضمان نسبة نجاح عالية للعمل الاداري.
ويضع الامام الشيرازي شرطا آخر للنجاح الاداري، يتعلق بقضية الولاء، بمعنى يجب أن يكون المدير مؤمنا بما يقوم به من عمل، ويحدد ولاءه وايمانه بالعمل الاداري والجهة التي يعود إليها، فمن دون الولاء للعمل لا يمكن أن يتحقق النجاح، بل يذهب المعنيون الى ابعد من ذلك، فيربطون النجاح بحب العمل ومنحه الولاء التام.
لذلك يؤكد الامام الشيرازي قائلا في هذا المجال بكتابه المذكور نفسه: (يجب على المدير الممارس أن يستعد لتحمل المسؤولية، وأن يكون ذا ولاء للعمل، فإن غير ذي الولاء لا يمكن أن يأتي بكامل الإنتاج، وإن كان متمكنا من الابتكار).
وبعد تحمل المسؤولية والولاء للعمل، يعود الامام الشيرازي ليؤكد بما لا يقبل التشكيك أو التردد، بأن الممارسة هي أساس نجاح إدارة المشاريع بمختلف انواعها واشكالها وحجومها، وان المشاريع لن يُكتَب لها التقدم والتطور والاتساع من دون ادارة فعالة وناجحة تعتمد في اداء عملها الاداري على خبراتها السابقة في هذا المجال، أي انها تمتلك شرط الممارسة المسبقة للعمل الاداري فتكون بذلك صاحبة خبرات متراكمة تضمن لها النجاح المؤكّد في هذا المجال.
حول هذا الجانب يقول الامام الشيرازي: (لا يمكن لأي مشروع يحتاج إلى الإدارة أن يكون ناجحا، ويتقدم إلى أمام بسلامة واتساع إلا إذا كانت له ممارسة ادارية نشطة). هكذا يمكن أن يكون دور الممارسة امرا حاسما في نجاح العمل الاداري.
كذلك لا يمكن تحقيق التفوق الاداري، من دون قدرة على الادارة وامتلاك المهارة في هذا الجانب، وهذا المطلبان لا يمكن أن يتواجدا لدى المدير او العقل الاداري، ما لم يكن يمتلك خبرات مركّزة ودقيقة في إدارة المشاريع المختلفة، فبقاء المؤسسات الانتاجية في مختلف المجالات منتِجة وناجحة، يعتمد على المدير الماهر والادارة الجيدة، وهذه النتائج لا يمكن تحقيقها بعيدا عن الخبرات الادارية التي تتولد لدى الانسان كنتيجة حتمية للممارسة والتجريب العملي الدائم والدقيق، وهي التي ستجعل منه اداريا متفوقا، وتقوده بلا ادنى شك الى تحقيق التميز في ادارة الاعمال والمشاريع المتنوعة.
لذلك يؤكد الامام الشيرازي في كتابه نفسه على: (أن البقاء والنجاح والإطراد يتوقف على قدرة الإدارة ومهارة المدير، وهذا لا يتحقق إلا بالممارسة الادارية المسبقة).
اضف تعليق