الأمم إنما تعيش بما لها من خلفيات، فالأمم الموجودة في العالم إنما هي عبارة عن ظاهرة، مثل؛ بريطانيا واميركا وروسيا وايضاً "ايران المسلمة" وغيرها، هذه الأمم إنما تعيش على ركائز ثلاث: الأخلاق، وفهم ظواهر الحياة، واسلوب تهيئة الحياة.
المقصود بالأخلاق، أن البريطانيين، من أخلاقهم الاستعمار، وحب السيطرة، والتوسع، والفخامة الشخصية. بينما اليابانيون فان خلفيتهم في العيش؛ الصناعة، بمعنى أنهم بنوا حضارتهم على الصناعة، فيما بنى الروس حضارتهم على الديكتاتورية، أما نحن المسلمون فنبني اخلاقياتنا على مبدأ؛ لا إله إلا الله، وهي تعني أن لا عبودية إلا لله.
وإذن؛ فالمراد من الاخلاق هنا؛ طريقة الحياة، وليس التحلّي بالصفات الحسنة مثل؛ الصدق والامانة والتواضع وغيرها. والقرآن الكريم الذي يثني على الرسول الأكرم بالآية المباركة: {وإنك لعلى خلق عظيم}، ليس بمعنى الصدق والأمانة فقط، وإنما؛ طريقتك في الحياة طريقة فريدة وعظيمة، ويؤكد هذا، ما جاء في آية أخرى: {إن هذا إلا خُلق الأولين}، بمعنى؛ طريقة حياتهم، أو نقول: "هكذا أخلاق فلان..."أو "هكذا سلوكه...".
وإنما سُميت الأخلاق أخلاقاً، لكثرة المرور عليها، و"الخَلِق" بمعنى القديم، و"ثوبٌ خلق"، بمعنى ثوب قديم، مر عليه زمان، وإذن؛ فان الاخلاق هو السلوك والطريقة التي تكرر لمرات عديدة ولفترات طويلة.
وعليه؛ فان الاخلاقيات تمثل أحد ركائز قيام أي حضارة في العالم، لانها تجسد طريقة حياة أهل تلك الحضارة، لذا قال الشاعر حافظ ابراهيم:
إنما الأمم الاخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
بمعنى أن البريطانيين اذا تخلّوا عن أخلاق الهيمنة والتسلّط يتحولون الى مجموعة من صيادي السمك في جزيرة منقطعة في العالم، كذلك الحال بالنسبة للروس، إن تخلّوا عن الديكتاتورية، فانها – بين عشية وضحاها- تتلاشى وتتبدد.
النموذج المتكامل للأخلاق
لاغرو أن تسبق الأخلاق، الدين في المسيرة الرسالية للنبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، فقد قضى النبي سنوات عمره بين المجتمع الجاهلي في مكة، وشهد تقاليدهم وسلوكهم وطريقة حياتهم، منذ فتوته وشبابه ثم بلوغه سن الاربعين، فكان أن قدم لهم الطريقة الاخرى للحياة تختلف عما هم عليه، وعلى سبيل المثال لاالحصر؛ تحية السلام، فكان يبادر من يراه في الطريق بـ "السلام عليكم"، وهذا ما لم يعهده المجتمع الجاهلي في قاموس تعامله الاجتماعي، ثم أنه، صلى الله عليه وآله، كان يشمل بهذا الخُلق؛ الصغير والكبير، الغني والفقير ومختلف شرائح المجتمع، كما انه لم يكن متشدداً إزاء المرأة، كل ذلك، هذا فضلاً عن سائر الصفات والخصال التي تميز بها عن غيره مثل؛ الصدق والامانة وحسن الحديث وغيرها، كل ذلك؛ وهو لم يكمن سوى أحد افراد المجتمع المكّي، ولم يتميّز بالنبوة والرسالة السماوية بعد.
وبهذا يكون النبي قد استفاد من هذا التمهيد النفسي لطرح النظام الاجتماعي المتكامل وفق قيم ومبادئ السماء، والتبشير بنمط جديد للحياة يعطي الانسان الكرامة والحرية ويفتح امامه سبل التقدم والرفاهية والتفوق على سائر الأمم، بالاستفادة من تقاليد أبقى عليها بعد فجر الاسلام، وضمّها الى عناصر القوة وأدوات التغيير، مثل الشجاعة والكرم، وهذا يفسّر قوله: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
وهذا ما يذكّر به سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه- في محاضرة صوتية له حول "خلفيات الأمم والحضارات" تحت عنوان: "كيف تعيش الأمم" وهو يشير الى "الأخلاق" كأحد الركائز الاساس في قيام أية حضارة في العالم، مع التوضيح للمعنى الأشمل للأخلاق، وأنه يعني "طريقة الحياة والعيش" وليست الصفات الحسنة والخصال الحميدة التي تظهر على سلوك الانسان.
وإذن؛ فلا حضارة ولا وجود لأمة وشعب من دون برنامج عملي متكامل لطريقة الحياة التي تتبعها، ويبدو أن القضية بديهية أكثر مما تحتاج الى استدلال منطقي، فحتى الشعوب البدائية كانت تتسم بطريقة خاصة للعيش، وهذا ما وفّره الاسلام لشعوب الجزيرة العربية من خلال التجسيد الفذّ للنبي الاكرم، لذا نجد أنها دخلت الى الاسلام طواعية وأفواجاً عبر رُسل التبليغ والإرشاد الذين بعثهم النبي هنا وهناك، فيما كانت الغزوات والحروب التي خاضها النبي لمواجهة التحديات الامنية – إن صحّ التعبير- على كيان الاسلام والامة الفتية آنذاك، حتى هؤلاء من بعض القبائل العربية المصرة على كفرها وشركها بالله، وايضاً المجتمع اليهودي، كانوا يُفاجؤن بطريقة تعامل المسلمين فيما بينهم، و ايضاً تعاملهم مع أعدائهم وأسراهم، فلا تسلّط ولا مصادرة للحريات والحقوق ولا حتى للكرامة الانسانية، ولذا كان من يلتقي بالنبي الاكرم، وهو يحمل في ذهنه صورة الملك الفاتح، واذا به يعود الى قومه وقد أسلم، وهو يتحدث اليهم عن صفات نبي مرسل من السماء وليس ملك، حيث الصفات الانسانية العالية.
وعلى هذا النهج سار أمير المؤمنين، عليه السلام، عندما تولّى قيادة الامة، فأول ما قام به إعادة المنهج الذي رسمه النبي الأكرم لحياة المسلمين، وما بعض الشواهد التي ينقلها لنا التاريخ عن خصف النعل، وإطفاء السراج، والحديدة المحماة، وأكل خبز الشعير مع الملح وغيرها كثير، وهو قطعاً غيض من فيض، إلا صوراً لتلك المحاولات لإعادة الأمة الى أخلاقها الحضارية، مثل الاحترام المتبادل والشعور الجماعي بالمسؤولية والتواصي والتراحم ومجمل التعامل الانساني الرفيع الذي به فتحوا البلاد وامتدوا الى الآفاق.
حرب الافكار أم حرب الأخلاقيات؟!
واذا طوينا صفحات التاريخ والتفتنا قليلاً الى الواقع الذي تعيشه الامة اليوم، يقفز السؤال سريعاً: أين هي أخلاق هذه الأمة التي وصفها القرآن الكريم بـ {...خير أمة أخرجت للناس}؟، الاجابة نجدها في غمرة الجدل العقيم عن جدوائية هذه "الاخلاق" لتكون منهج حياة الناس لدى هذا الشعب او ذاك، حتى أوشك البعض لأن يتنكّر لقيم أخلاقية مثل الصدق والتواضع، كونها تتقاطع مع الواقع الجديد الذي يعيشه الانسان، لاسيما في ميدان التجارة والاقتصاد والسياسة، إذ يبدو الحديث عن هكذا قيم، بمنزلة الطرفة لإثارة الضحك، علماً أن نفس القيم التي كانت في مقابل الصدق والتواضع وغيرها، كانت سائدة وموجودة في عهد أمير المؤمنين، عليه السلام، وهذا تجسيد للمعادلات والسنن الإلهية في الحياة، فالانسان يعيش – من حيث يريد او لايريد- الصراع بين الحق والباطل، وبين الظلم والعدل، وهكذا... فالذي يضع ثقته بالديكتاتور والطاغية والمرابي والظالم، من الطبيعي أن لا يجد مكاناً للصدق والتواضع والامانة في حياته، ولا لحظة واحدة.
واذا لاحظنا النظام الشديد والحياة المرفهة – الى حد ما- في الغرب، فان الفضل يعود الى طريقة الحياة التي اختاروها لانفسهم، فالقضية لا تتعلق باجراءات حكومية او أنظمة سياسية، مثل الديمقراطية او الفيدرالية او منظومة القوانين المشرّعة فقط، إنما يعود الامر الى فلسفة الحياة التي توصل اليها مفكرون كبار مثل الفيلسوف والشاعر الالماني فريدرك نيتشه، الذي يوصف بأنه أكثر الفلاسفة الغربيين متابعة من قراء الفكر والمعرفة في الغرب. هذا الفيلسوف عكف خلال فترة حياته على صياغة أخلاق جديدة للشعب الالماني وللشعوب الغربية بشكل عام، حتى انه تحول الى مصدر إلهام لعديد المدارس الفكرية التي ظهرت فيما بعد مثل الوجودية والماركسية، وكان مرتكزه؛ القوة المادية المؤثرة على أرض الواقع، متنكراً للقيم المسيحية المتبعة طيلة قرون من الزمن، واتهم المسيحية بالمسؤولية في انحطاط مستوى حياة الانسان بتضليله بمفاهيم مثل الحب والرقة وطيبة القلب ثم استساغة العيش الى جانب الغني ورجل الدين مهما بلغوا من الاستئثار والتسلّط والتلاعب بالمصائر، وقام بالترويج للنمط الاغريقي الموسوم بالقوة، فكان التأثر شديداً به، لان الانسان الغربي سئم الركون الى الذل والهوان متوشحاً بالتواضع والود للكنيسة ورجالاتها، للتعويض عن فقره وقلة حيلته أمام الشريحة الأقوى، وعليه لابد من التسلّح بما هو أقوى واكثر فاعلية على ارض الواقع وتحطيم الاغلال المعنوية التي أحيطت بهم طيلة قرون من الزمن.
هذه القوة نجدها اليوم في كل مفاصل الحياة الغربية، وفي المقدمة؛ القانون، فلولا قوة القانون وروادعه، لا وجود للاستقرار والنظام والرفاهية واستقامة الحياة الطبيعية، فالجميع ينظرون الى القانون نظرة الانسان الاغريقي الى آلهة الحرب او الجمال والخصب وغيرها، يستلهمون منها عوامل الحياة، ورأينا بين فترة وأخرى، كيف أن غياب القانون فترة وجيزة في إحدى المدن الامريكية – مثلاً- يحدث عاصفة من الفوضى والسلب والنهب في الشوارع.
بينما اذا عدنا الى "الأخلاق" التي أرسى دعائمها النبي الأكرم والأئمة المعصومين من بعده، وجدنا إعطاء أهيمة فائقة لمفهوم "الوازع النفسي" أو ما نسميه بـ "الضمير" والوجدان الذي يردع السارق والمرتشي والمرابي وحتى اللص والقاتل في طريقه لتنفيذ جريمته، من المضي في غيّه وارتكاب المزيد من الاخطاء بحق نفسه والمجتمع، وهذا يحتاج الى عملية إحياء ثم تفعيل جديدة في الواقع الاجتماعي لينعكس على الواقع الاقتصادي والسياسي في الامة، وهي عملية تتم على خطين متوازيين؛ المجتمع والدولة في وقت واحد، وليس أحدهما، حتى يُصار الى حل جميع المشاكل والازمات التي يعتقد البعض أن لا حل لها إلا باللجوء الى نمط جديد من الحياة نستورده من الخارج!.
اضف تعليق