من أهم المبادئ التي أعلنها الإسلام ضمن تعاليمه، هو مبدأ اللاعنف، وقد عمل قائد المسلمين الأعظم الرسول الكريم (ص) بهذا المبدأ مستمدا رؤيته الفكرية وتطبيقه العملي من فحوى النصوص القرآنية الكريمة التي تدعو وتشجع وتطالب الجميع بالجنوح إلى السلم ونبذ العنف بكل أشكاله، وقد تبيّن تأثير هذا المبدأ على نحو منهجي في طبيعة التغيير الكبير الذي حدث في مجتمع الجزيرة الذي كان يميل الى الخشونة والعنف في التعامل الحياتي اليومي.
وبالفعل في غضون سنوات، ومع انتشار جوهر الرسالة الإسلامية بين الناس، بدأ تأثير مبدأ اللاعنف يظهر جليا في السلوك الفردي والجمعي على حد سواء، وإن كان حدوث ذلك بصورة متدرجة، ولكن يستطيع المتفحص أن يلمس ذلك التغيير الجوهري في حياة المجتمع، وفي منظومة التفكير والقيم وانعكاسها على السلوك، حيث أخذت طبيعة العلاقات تنحو الى السلام والانسجام والهدوء، والذهاب إلى حل المشكلات بطريقة سلمية بين جميع الأطراف.
حدث ذلك استجابة إلى ما جاء به الإسلام، وتأثرا بشخصية الرسوم الكريم وسلوكه الذي قدم مثالا عظيما لجميع المسلمين عن أهمية تجنب الإنسان للعنف في تعاملاته كافة، على أن يكون اللين منهجا للجميع، وكلما كان منصب الإنسان كبيرا حساسا لابد أن يكون سلوكه وتعامله مع الآخرين أكثر رحمة ورأفة.
ولهذا السبب نقرأ قول الإمام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه الثمين الموسوم بـ (فلسفة التأخر): (اللاعنف هو شعار الإسلام قبل أن يتخذه غاندي شعاراً)، فما بين ظهور الإسلام والمرحلة الغاندية التي اعتمدت منهج اللاعنف قرابة الألف عام، بمعنى أن الإسلام سبق غاندي بألف سنة إيمانا بهذا المبدأ وتطبيقا له.
كذلك كرّس الإسلام منهج الجنوح الى السلم واعتماد الهدوء والاعتدال والتراضي في جميع التعاملات المتبادلة بين الأفراد والجماعات بما في ذلك مؤسسة الأسرة وسواها من الهياكل الجمعية الأخرى، فمنهج اللاعنف إسلامي أولا، وقود وضعه الإسلام في خدمة المسلمين والإنسانية كلها، منذ أن بدأت الرسالة النبوية بالظهور الى العلن.
حيث يقول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب بالتحديد: (إن العنيف في قول أو كتابة أو فعل، إنما يضر نفسه قبل أن يضر غيره).
أسباب المشاكل والاختلاف
الإنسان بطبيعته لا يميل إلى العنف، بمعنى أن التركيب التكوينية للكائن البشري تذهب الى السلام، وتقوده فطرته نحو الخير فيما اذا انتفت أسباب الصراع وحالات التجاوز والاستحواذ، لهذا عندما تكون الحاضنة الاجتماعية سليمة يسودها الاعتدال يكون اللاعنف واللين حاضرا، وهذا ما قام به الرسول الأعظم في نشر رسالته، حيث انتشرت الوسطية والاعتدال وخفّت الصراعات المختلفة بين القبائل المتحاربة قبل الإسلام.
علما أن ظاهرة التعصب والاعتداد المبالّغ به في النفس كانت شائعة في مجتمع الجزيرة العربية قبل الإسلام، فكان الإنسان في هذا المجتمع يميل الى الترفع على الآخرين، ويرى نفسه وانتماءه القبلي أفضل من سواه، وغالبا ما كان الأشخاص والشعراء منهم يتبارون في إظهار خصال القوة في القبيلة التي ينتمون لها، حتى وإن كان ذلك قائما على القيم التي تأجج النزاعات بين القبائل وتشعل فتيل الاقتتال فيما بينها، لذا كانت ظاهرة التكبر والترفع على الآخرين واضحة للعيان في المجتمع قبل الإسلام، وقد أدت الى تأخر ذلك المجتمع بصورة واضحة.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي في المصدر نفسه: (من فلسفة التأخر، الكبر، بأن يرى الإنسان نفسه كبيراً، ويترفّع على الآخرين).
وبسبب حالة الجهل وهيمنة الترفّع والمبالغة في حالات التعصب وازدراء الآخرين، كانت تنشب نزاعات كثيرة وبعضها كبير ومدمّر بين القبائل المنتشرة في صحاري الجزيرة، والسبب دائما هو الابتعاد عن الوسطية، وإشعال فتيل الاحتراب، واندفاع الناس نحو صنع المشاكل لبعضهم بعضا بسبب الجهل، وسيطرة نزعة الشر عليهم، بالإضافة نوع من الأنفة المبالغ بها حيث تركب الإنسان فتجعله لا يرى سوى نفسه وانتمائه الأصغر متمثلا بالقبيلة، فيكون متعصبا لها، وتكون مصدر خطر عليه بسبب تكبره وترفّعه وتعصبه بعيدا عن الاعتدال.
وقد لاحظ باحثون في قضايا وشؤون مجتمع الجزيرة، أن الخلافات بين الناس لا تقتصر على أسباب كبيرة، فهناك أمور صغيرة وتافهة يختلف عليها لحدّ الاحتراب فيما بينهم، فيكون السلم بعيدا عنهم، ونفوسهم وبصائرهم تغدو في حالة كره لمنهج اللاعنف، فتفضل الاقتتال والقسوة والخشونة في الفعل والقول على سواه فتكون بعيدة عن اللين والتراحم، وهذا يجيء بالضد مما جاء به الإسلام، لذلك عندما رسخت مبادئ الدين تمكنت من تشذيب كل هذه الإشكالات في المجتمع المتأخر آنذاك.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب: (من فلسفة التأخر الجنوح إلى النزاع، فإن بعض الناس يميلون إلى المشاكل والاختلاف مع الآخرين في الصغائر والكبائر، وفي كل أبعاد الحياة).
شعارنا السلم والاعتدال
بالطبع هنالك أسباب موجبة أو دافعة للإنسان نحو النزاع، وجعله بديلا عن التوافق والانسجام، بمعنى هناك من يفضّل الجنوح إلى العنف كبديل عن منهج الاعتدال الذي جاء به الإسلام رحمة بالناس، وحفاظا على أرواحهم وممتلكاتهم، وهذه خطوة جوهرية لبناء الحياة المستقرة للمسلمين في كيان سياسي واضح المعالم وحكومة تحمي الحقوق والحريات وتنشر العدالة بين الجميع.
لهذا سعى الإسلام إلى أهمية تدريب وتلقين الناس على السبل والطرائق التي تنبذ العنف وتساعدهم كي يميلوا إلى السلم ويتجنبوا النزاعات بمختلف أنواعها، ومع مرور الوقت يستطيع الإنسان أن يدرك أهمية السلم، ويمكنه أن يجنح إلى السلم بلا مصاعب، ويؤمن بأن اللين أنسب وأفضل للمجتمع من سواه، لاسيما أن الرسالة النبوية اتخذت من السلم شعارا لها، على الرغم من أنها كانت تواجه الأعداء المتعصبين من قريش، مع مهمة بناء الدولة الجديدة وأركانها التي تتطلب القوة، ولكن ذلك لم يحجب أهمية اللاعنف والاعتدال كمنهج للمسلمين.
يقول الإمام الشيرازي في هذا الجانب: (لاشك أن الإنسان فيه حالة العنف، لكن يمكن إزالتها بالتلقين والإيحاء والتمرين، وعند ذاك تكون ملكة له وطبعاً من طباعه).
( الجنوح إلى النزاع والاختلاف نوع مرضي في النفس، وانحراف في الذات، فإذا قال الناس: الطريق إلى بلد كذا من الشرق، قال: لا بل من الغرب!).
وإذا عرفنا المصاعب التي واجهها الرسول (ص) في سعيه الدؤوب لرفع مستوى المجتمع، فإننا سوف نؤمن أن لا استحالة في تطوير المجتمع وجعله في حالة أفضل، وهذا ما ينبغي أن يكون درسا لنا ونحن نعيش العصر الراهن بما ينطوي عليه من مشكلات كبيرة، ومع ذلك علينا أن نستفيد من الدرس العظيم والقدرة الهائلة لشخصية الرسول ونجاحها في تحويل مجتمع الجزيرة من الجهل والظلام الى العلم والنور والاستقرار والتقدم، علما أن طبيعة ذلك المجتمع تميل الى تثبيط الهمم والميل الى الإحباط ومع ذلك استطاع الرسول (ص) أن يبث في أفراده وجماعاته الحالات الايجابية التي تنمي القدرات والمواهب وتبني منظومة القيم وتجعل من اللاعنف شعار الإسلام والمسلمين، فتحقق النجاح التام، وهذا ما ينبغي أن يقوم المسلمون في تحقيقه بالعصر الراهن.
اضف تعليق