من البساطة بمكان لكل متابع ومهتم أن يلاحظ تلك العلامات والمؤشرات التي تؤكد حالة المرض المحيط بعالَم اليوم، فهناك أدلة لا تقبل الشك، تؤكد وتكشف بما لا يقع تحت سطوة التفنيد، بأن هناك جاهلية جديدة تفتك بعالّمنا المعاصر الذي نعيش، وهي لا تختلف عن الجاهلية الأولى التي أخذت من جهود النبي محمد (ص) وفكره وإرادته أكثر من عشرين عاما لكي يقضي عليها، ويثبّت قيما جديدة بديلة لها.
حيث تحول المجتمع آنذاك من حالته المرضية المحكومة بالجاهلية الأولى، الى مجتمع تمكن أن صنع دولة وأمة قدمّت لنفسها وللبشرية منظومة قيم جديدة أنقذت العالم من المرض الذي كان يفتك به آنذاك، واليوم تُعاد الكرة ويجد العالم نفسه ساقطا في براثن جاهلية جديدة أعادت العالم عشرات القرون الى الوراء، فبدلا من أن يكون تقدم الزمن في صالح تقدم الانسان، إنعكست الحالة وصار تقدم الزمن عاملا لانحطاط العالم وتخلفه وربما حتى موته.
والسبب بطبيعة الحال هو تراجع القيم الانسانية النبيلة، وبروز القيم الدنيئة لتأخذ محلّها، ما جعل العالم يسقط من جديد في براثن قيم متخلفة أنهكت العالم وجعلته مريضا ومعرضا لخطر الإضمحلال والتراجع وربما الاندثار بسبب قيم الجاهلية الجديدة.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه المتميز الموسوم بـ (الصياغة الجديدة): (إن عالم اليوم هو عالم مغلّف بالأنانية، والأثرة، والتفاوت الطبقي، والموازين التي تحكمه هي موازين (القومية) و(الوطنية) و(المادة) و(اللغة) وما أشبه، وليس الموازين الإنسانية، ولذا تجد كل إنسان لا يرتبط بالوطن الخاص والشعب الخاص ـ ونحو هذين الأمرين ـ غريباً ليس له أي حق في الحياة، فهو يولد في العالم الحاضر دون حق، وينظر إليه بالشبهة والريبة، لا يزوّج، ولا يتزوج منه، ويطرد من البلاد، ولا حق له في البيع والشراء إلى غير ذلك، إلا في نطاق خاص وتحت شروط قاسية جداً، لم يكن لها مثيل حتى في الجاهلية الأولى).
هذه الجبرية والشروط القاسية التي تحكم عالمنا اليوم لم تكن موجودة في عالم الأمس الذي كان يسوده العدل والحكمة والمساواة وكل قيم الخير والجمال، لذا وكما يتضح أن عالم اليوم هو عالم مريض يخلو من القيم المضيئة أو أنها في أفضل الأحوال نادرة الوجود.
الحب بديلا للكراهية
إن ما يضعنا الامام الشيرازي في مواجهته وجها لوجه، ليس أمرا مبالغاً فيه، فهو يستدل على ما يقوله ويطرحه بالأدلة والشواهد الداعمة لما يراه، إن هذه الأفكار المحذِّرة هي في حقيقة الأمر صرخة ضمير حي يخشى على البشرية من الانحدار الى الدرك الأسفل، حيث تمضي إليه بقدميها غير واعية ولا آبهة لما يحدث لها أو حولها.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب تحديدا: (إن الحالة التي يعيشها العالَم في الوقت الحاضر هي حالة مرضية ـ بكل خصائص المرض ـ وما لم ترفع هذه الحالة إلى حالة صحية فسيظل العالم يتخبط في دياجير وظلمات ومشاكل أسوأ من المشاكل التي كان يتخبط فيها العالم قبل ظهور الإسلام، فهي (جاهلية ثانية) أسوأ من (الجاهلية الأولى).
ولذلك ينبغي على عالم اليوم ومن يقوده، أو يتحكم بمساراته المختلفة، أن يعي هذه الحقيقة التي ستفتك بالعالم وتطيح به، إذا لم ينهض المسؤولون بقوة ويتصدون لهذا الخطر المميت الذي يحيق بالبشرية ويسعى الى تدميرها، ونعني به تفوق الكراهية على المحبة وتفوق قيم الشر على قيم الخير، وهو أمر لا يمكن أن يكون في صالح الانسانية، كما أنه ليس من صالح أحد حتى من يتحكم بعالم اليوم ويتمتع بخيراته وكنوزه، فهو أيضا سوف يكون هدفا لهذا الإنحدار الذي يعاني منه عالمنا اليوم بسبب الجاهلية الجديدة التي تسعى الى تدميره.
لذلك يؤكد الامام الشيرازي على أهمية أن يتنبّه الجميع الى المخاطر التي تضعها أمامنا قم الجاهلية الجديدة، إذ يقول الإمام: (ما دام العالم لا يضع الحب مكان الكراهية، والأخوة مكان الطبقية والوطنية والقومية ونحو ذلك، وحسن الظن بدل سوء الظن، وحب الإنسان بما هو إنسان بدل الروابط الأنانية والأرضية ونحوها، والتعاون بدل التضاد، وأصالة الصحة ـ في عمل الإنسان وفي قوله ـ بدل أصالة الفساد، وأصالة البراءة حتى تثبت الجريمة بدل أصالة الشبهة، وأصالة الحرية في كل شيء بدل أصالة الكبت.. لم يكن للعالم خلاص من المشاكل، بل أنها تزداد ضيقاً يوماً بعد يوم).
تراجع الفكر الإنساني
من المؤشرات الهامة على تنمّر قيم الجاهلية الجديدة التي ضربت أطنابها في عالم اليوم، هو ذلك التراجع الواضح للفكر الإنساني وقد يصل أحيانا الى درجة الغياب، في مقابل حضور مؤسف ومخيف للفكر المتطرف الذي يكفّر الانسان بدلا من أن يدعمه ويحميه ويشجعه كي يتقدم ويصنع عالما متوازنا، كما أننا نعاني بوضوح كبير من ضيق الأفق الذي بات ظاهر تميز الغرب والشرق على حد سواء.
كما نلاحظ ذلك في قول الامام الشيرازي: (ما ذكرناه من ضيق الأفق الذي يحكم عالم اليوم ـ نرى أن الإنسان الغربي والشرقي إذا قال لزملائه: (إني لا أحب بلادي) يقابل بالاستنكار، أما إذا قال: (إني أريد استعمار سائر البلاد أو إني أريد الاستيلاء على خيرات سائر البلاد، أو إني أريد قتل الطائفة الفلانية التي هي خارجة عن بلادي) أو ما أشبه لا يقابل بالاستنكار، إلا عند فئة خاصة).
أما انتعاش قيم الجاهلية الجديدة وانتشارها كما في هيمنة الأنانية على الفكر والسلوك معا، وضيق الفكر وانحساره نحو التطرف، يؤكد أن هناك عائق كبير ومزمن يسعى لتدمير الإنسان وعالمه المعاصر، أما أدوات التدمير فهي الانسان نفسه، وقيم الجاهلية الجديدة التي باتت تحكم تفكيره وسلوكه في الوقت نفسه:
يقول الامام الشيرازي في هذا الجانب بكتابه أعلاه: (إن مردّ ذلك يعود إلى عدم إنسانية الفكر، وضيق الفكر سواء في القومية أو في الوطنية أو في اللغوية أو في اللونية أو ما أشبه ذلك).
لهذا ليس أمام الإنسان في عالم اليوم، لاسيما قادة العالم والنخب المؤثرة فيه، ونعني بها جميع النخب الثقافية والدينية والسياسية والاجتماعية وسواها، فإنها معنية اليوم أكثر من أي وقت مضى، لمحاصرة الجاهلية الجديدة الآخذة بالنمو والانتشار بصورة عمودية وأفقية في عموم العالم، إذ ينبغي محاصرتها ووأد منظومة القيم التي تسعى هذه الجاهلية الى نشرها بين بني الانسان وترسيخها كأمر واقع غير قابل للزوال.
إن عالم اليوم ومن يسكنه من البشر يعاني من المرض، وهذه حقيقة ليس في صالح أحد إنكارها او محاولة غض الطرف عنها أو التقليل من مخاطرها، ومكمن هذا المرض الخطير في الجاهلية الجديدة وسعها لتثبيت قيم شر بديلة لقيم الخير، والإقرار بهزيمة الفكر الانساني، وفي هذه الحالة سوف ينحدر عالمنا الى الحضيض أسرع من البرق، لذلك علينا أن نسعى ونعمل بجدية لإيقاف هذا التدهور المريع.
يقول الامام الشيرازي في هذا الشأن: (حال عالمنا اليوم كحال المريض، فإنه إذا لم يستعمل الدواء يزداد مرضه يوماً بعد يوم حتى ينتهي به الأمر إلى الموت)، لهذا على عقلاء العالم وقادته ونخبه كافة التصدي للجاهلية الجديدة التي تسعى بكل قوتها وقدراتها الى تدمير الانسان قبل أي شيء آخر.
اضف تعليق