عندما انبثقت الرسالة النبوية في مجتمع متآكل متناحر، تتجاذبه الصراعات القبلية والتعصب، أول شيء عمل عليه الرسول الكريم (ص)، هو وأد الروح المتعصبة ودحر الأنا، ونبذ الصراعات الفردية والقبلية، وأشاع في المجتمع القيم الجامعة وشجع الناس على نبذ التعصب، ثم بدأ العمل الحثيث على استنهاض روح الأمة وتوحيدها، وتوجيه مساراتها بما يخدم الأهداف الإسلامية وينشر تعاليم الإسلام، ويوحد صفوف المسلمين حتى تصبح أمة قوية موحدة تحت راية الإسلام.
وكان التركيز في تحقيق هذه الأهداف الجوهرية يتم من خلال بث روح الإيمان في الأمة كي تنهض مجددا، وتنبذ التناحر والتصادم وتستبدل ذلك بالاحتواء والتعاون والانسجام وتذليل المشكلات التي تعترض سبيل المسلمين، وكل هذه القيم الجديدة التي جاء بها الإسلام، كانت البديل الأنسب لمنظومة قيم متهرئة نخرج مجتمع الجزيرة آنذاك، فجاء الرسول الأعظم (ص) بقيم الإسلام الحنيف، ونشره بين الناس حتى يستبدل القيم والعادات البالية بقيم جديدة ذات نزعة جماعية تنزع الى التوحيد بدلا من التفرقة والصراع.
لذلك يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (قبس من شعاع الإمام الحسين عليه السلام)، حول هذا الموضوع: ( إن الإمام الحسين (عليه السلام) أراد أن يبث روح الإيمان والحق في الأمة، لتنهض من جديد، كما كانت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنه كان يرى أن الدين على وشك أن يحرف، فأراد أن يعيد الدين غضاً طرياً).
من هنا فإن الانحراف الديني لم يكن في صالح الأمة، وقد رصد الإمام الحسين ظاهرة الطغيان الأموي في ممارسة التسلط على الأمة، ليس التسلط والطغيان فحسين، وإنما ظهرت أساليب مدمرة للدين وللأمة على حد سواء من خلال نشر الرذيلة في مجالات الحياة كافة، ما أدى الى انتشار الفساد على نحو واسع وغير مسبوق.
من السبات الى اليقظة
وهكذا سعى الإمام عليه السلام من خلال خروجه البطولي من الحجاز وإعلانه للثورة على الانحراف الأموي الى استنهاض روح الأمة مجددا، بعد أن مالت الى الصمت والاستكانة والقبول بما يمليه السلطان الأموي من انحراف على المسلمين كافة، فسادت الفوضى في حياة المسلمين، وضعفت الأمة وانتهكت حقوقها وأعراضها ودماءها، وصار لزاما على الأمة أن تنهض من هذا السبات، وكانت بحاجة الى من يوقظها من غفوتها، وجاءت ثورة الإمام الحسين لتحقق هذا الهدف الجوهري.
يقول الإمام الشيرازي في كتابه (الحسين مصباح الهدى) حول هذا الجانب: (ليست هذه الفوضى التي تشاهد في بلاد الإسلام دليلاً على اليأس، بل حالها حال التثاؤب الذي يتصف به الناعس بعد نوم طويل، حيث أن التثاؤب في هذا الحال، دليل الشروع في اليقظة، لا الأخذ في النوم، وقد نام المسلمون طويلاً حتى قسّمت بلادهم، ونهبت أموالهم، وهتكت أعراضهم، وأريقت دماؤهم، وسادت فيهم القوانين الكافرة، وعمّ فيهم الفوضى والجهل والمرض والفقر والعداء والفرقة).
أما في هذا الوقت فإن الإمام الشيرازي رأى بوادر نهوض بين أمة المسلمين، ولكن هذا النهوض يستدعي توجيه الطاقات والمستلزمات بالصورة الصحيحة لتحقيق الأهداف المأمولة، وهذا يتطلب السعي والتخطيط والابتكار، لوضع برامج كبيرة ومتجددة لتحقيق النهوض المطلوب.
ويرى الإمام الشيرازي أن النموذج الفكري الحسيني والنهضة الحسينية وما تنطوي عليه من زخم هائل من القيم كفيلة بتحقيق ما يربو له المسلمون من أهداف تعيدهم الى المقدمة، حيث كان العالم كله يهتدي بنور الإسلام، وكانت دفة القيادة بأيدي المسلمين لأنهم الأحق في ذلك بسبب القيم الإسلامية العظيمة التي حققت العدالة بين العبد ومالكه، وبين القوي والضعيف، وبين الفقير والغني، فكانت العدالة هي المعيار الأول الذي يرتكن إليه الناس جميعا.
لهذا يرى الإمام الشيرازي أن نهوض المسلمين أمر محتوم، ولكنه محكوم بتنظيم أنفسهم وقدراتهم، واستخدام طاقاتهم بأفضل ما يمكن، وهذا السعي المبرمج سوف يقودهم الى أهدافهم حتما، كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في كتابه المذكور سابقا: (الآن أخذ المسلمون يتثاءبون للنهوض، فإذا تمكنوا من وضع وابتكار برامج صحيحة للنهوض، لوصلوا إلى هدفهم السامي بإذن الله تعالى).
الالتزام يصنع العز والسعادة
إن النهضة الحسينية وإن كان هدفها الإسلام والمسلمين، وإعادة الأمور الى نصابها، والوقوف بوجه الانحراف الأموي، إلا أن القيم التي أنتجتها هذه النهضة لم تنحصر في إطار المسلمين وحدهم، إنما كانت وستبقى ملكا للإنسانية أجمع، ولهذا بقيت نهضة الإمام الحسين عليه السلام نموذجا ثوريا خالدا ومضيئا للحركات التحررية في كل مكان من العالم وليس المسلمين وحدهم، كون هذه النهضة ذات طابع إنساني يهدف الى خدمة الإنسان أينما كان.
ولذلك تمكنت القيم التي جاءت بها هذه النهضة ونشرتها بين المسلمين وغيرهم من سكان العالم، من هز عروش الطغيان وبدأ بعروش الأمويين والعباسيين، وانتقل تأثيرها ليقتلع جذور الدكتاتوريات حتى في العصر الراهن، وقد وظفها الكثير من ثوار العالم كي يهزوا عروش الأنظمة القائمة على الظلم والطغيان.
فكما يقول الإمام الشيرازي في كتابه (رؤى عن نهضة الإمام الحسين عليه السلام): إن نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) (كانت نبراساً لسائر النهضات التحريرية في العالم ضد الظالمين، وكانت هي الانفجار العظيم الذي هزّ عرش كل الطغاة المستبدين، كما ومهدت الطريق أمام الثورات الأخرى، وهيأت الأسباب لقلع جذور دولة بني أمية وبني العباس وغيرهم، ودفعت المجاهدين للدفاع عن المقدسات الإسلامية وعلمتهم النضال ضد الحكام المستبدين، والاستقامة في مجاهدتهم حتى يعيشوا في ظل جهادهم، الحياة الحرة الكريمة).
لذلك لم تكن النهضة الحسينية محاصرة في إطار زمني محدد، ولا هي مخصصة لفئة محددة من الناس، إنها نهضة مطلقة الحدود من حيث الأفكار، ومن حيث الوسط البشري الذي يحتاج الى قيمها من اجل التصحيح، ولذلك كانت ولا تزال مبادئ هذه النهضة نافذة مفتوحة للأجيال الحالية والقادمة كي تستنير بمبادئها وقيمها لصنع الحياة الأفضل للإنسان، ولكي يكسب الصراع ضد الحكام الطغاة، تحقيقا لمجتمع العزة والكرامة وحفظ الحقوق من تجاوزات الحكام الظالمين، لاسيما اذا عرفنا أن المجتمع الإسلامي في عهد الرسول الأكرم، لم يكن يعاني من مشكلات العصر الراهن، بل أن أعداء المسلمين هم من كان يعاني من هذه المشكلات.
وكان المسلمون يتصدرون الأمم الأخرى في العلم والإبداع والترجمة، في حين كان الآخرون يعانون من الجهل والتخلف، ولكن بعد أن ترك المسلمون قيم الإسلام وانحرف الحكام من مبادئ العدل الى نزعة الظلم، تأخر المسلمون وسادت حياتهم الفوضى، وانحرف الإسلام، مما استدعى أن تكون هناك نهضة تصحيح كبرى، وجاءت النهضة الحسينية العظيمة لكي تعيد الأمور الى نصابها، فتساقطت عروش الظلم تباعا.
يقول الإمام الشيرازي في الكتاب المذكور نفسه: (إن الإمام الحسين (عليه السلام) عبر نهضته المباركة دلّ الأجيال على الطريق وأوضح عن السبيل لعلاج مشاكل المجتمع والحصول على سعادة الدنيا وكرامة الآخرة، وحينما كان المجتمع الإسلامي يلتزم شيئاً ما بتلك التعاليم الإسلامية، كان يعيش العزة والسعادة والرفاه والكرامة، ولم يكن يعرف شيئاً من هذه المشاكل الموجودة اليوم... بل كان العكس، فالذي كان يعيش هذه الأزمات والمشاكل هم أعداء الإسلام حيث غرقوا حينها في بحار من الجهل والتخلف).
اضف تعليق