من أولويات مكافحة الفساد، وضع خطة عملية مناسبة، علمية، عملية، تهدف الى القضاء على الفساد بأشكاله وأنواعه كافة، وهذا يعني أن لا إصلاح بوجود الفساد، علما أن طبيعة الانسان التكوينية رافضة للفساد على نحو عفوي، أي أن الانسان لا يستسيغ الفساد ولا يتعامل معه ولا يحبذه بصورة آلية، تبعا للكره الطبيعي الذي يكنّه الانسان للفساد.
فالفساد بحسب رؤية الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، لا يلتقي مع فطرة الانسان، حيث يقول سماحته في هذا المجال، بكتابه القيم الموسوم بـ (الاصلاح): (إن فطرة الإنسان وعقله تخالف الفساد). بمعنى أنه ليس هناك أي مجال للتعايش بين الاصلاح والفساد، ولابد لأحدهما أن يقضي على الآخر، وبالفعل في حال استفحال الفساد، فإننا لا يمكن أن نعثر على ملامح التصحيح ونتائجه على الفرد او المجتمع او الدولة.
لذلك من أهم أهداف ومقومات الاصلاح، هو القضاء على الفساد، أما كيف يتم ذلك، وما هي الآلية العلمية العملية الاجرائية التي يمكن من خلالها وأد الفساد، ومسبباته وأدواته، فهذا الأمر يتعلق بقادة النخب، لاسيما قادة الدولة، فهؤلاء بحكم موقعهم وامكانياتهم الكبيرة، بإمكانهم مكافحة الفساد وتثبيت أركان الاصلاح من خلال الامكانات التي تقع بين ايديهم وتتاح لهم، والصلاحيات الكبيرة التي يتمتعون بها من اجل انجاز هذا الهدف الكبير.
لذا على المسؤولين كافة، وعلى كل من يستطيع الحد من الفساد، أن يبادر الى مكافحته بكل السبل المتاحة، بداية من أقل القدرات الى أكبرها حجما وأقواها قدرة، فالجميع تقع عليه مسؤولية تثبيت أركان الاصلاح بقوة، وهذا لا يمكن أن يتم من دون تكاتف الجهود المتنوعة، كي تعمل وتتعاون معا من أجل الحد من انتشار مظاهر الفساد، لاسيما أن السبب الأساس الذي يقف عقبة كأداء في وجه تقدم الأمة والمجتمع والدولة والفرد، هو الفساد.
والاصلاح هو العلاج النجع للقضاء على الفساد، ولكن ينبغي أن تتم اجراءات الاصلاح على نحو فوري، بعيدا عن التسويف والمماطلة، خاصة أن الجهات التي لا تستفيد من الاصلاح سوف تضع امامه الحواجز والعراقيل حتى لا يتم كونه سوف يقضي على مصالحهم القائمة على الفساد، بالاضافة الى ذلك سوف يتم كشف الفاسدين وفضحهم وتقديمهم للقضاء مهما امتد بهم الزمن، فالشعب الحي لا ينسى من سرقه من الفاسدين ولا يهدأ له بال حتى يلاقي الفاسدون جزاءهم العادل، وهذا حق من حقوق الشعب، وهو غير مستعد للتنازل عنه مهما كانت الأسباب التي تقف وراء ذلك، لهذا على الجميع أن يسعوا للقضاء على الفساد.
كما اكد ذلك الامام الشيرازي في قوله حول هذا الموضوع: (من مقومات الإصلاح هو محاربة الفساد بكافة أشكاله، والحد من انتشاره، لأن نشر الفساد بين الأمة يعتبر من أهم موانع الإصلاح).
دفع الناس نحو الخوف من عذاب الله
ومن السبل المهمة التي نبّه عليها الامام الشيرازي، أن يتم تنبيه الفاسدين على العواقب الوخيمة التي ستكون بانتظارهم سواء في الدنيا، أو في الآخرة، فهناك أنواع من العذاب بانتظارهم لا يعلم حجمها ودمارها وسعيرها إلا الله تعالى.
ولكي يتعظ الناس ولا يفسدوا في الأرض، ولا يرتكبوا هذه الحماقة التي تسمى بالفساد، أورد الامام الشيرازي هذه القصة المؤثرة والمربية والمخيفة فعلا، كي يرتدع الفاسدون ويكفوا عن ارتكاب الظلم والفساد والتجاوز على حقوق الشعب.
يذكر الامام الشيرازي في كتابه الاصلاح هذه القصة التي نضعها هنا بين قوسين من اجل ان يطلع عليها من يظن أنه في منأى عن الحساب، يقول الامام الشيرازي: (نقل أحد الأصدقاء، قال: قبل خمسين سنة تقريباً ذهبت لزيارة مشهد الإمام الرضا -ع -واستقليت سيارة كبيرة، وكان معي فيها شخص كثير التهجد لا ينام الليل أبداً، وقد استغرق الطريق ثلاثة أيام. ولما وردنا مشهد استأجرت أنا وهو غرفة في فندق، فكان إذا جنّ عليه الليل ـ وكانت ليالي الشتاء الطويلة ـ يغتسل ويغير ملابسه ثم يشرع بالتهجد والتضرع والصلاة والدعاء وقراءة القرآن إلى الصباح، فإذا طلع الصبح صلى وعند شروق الشمس ينام إلى الظهر.
قال: وكنت متعجباً من حسن حاله وكثرة عبادته، فقلت له ذات مرة: إن الله جعل الليل للنوم والنهار للعمل، فلماذا أنت لاتنام إلا في النهار؟ . فلم يجبني. فكررت عليه السؤال، فأجاب قائلاً: إني كنت ضابطاً من ضباط بهلوي رضا شاه، وذات مرة أمرني أن اقتل 17 إنساناً، وكنت لم أعلم بجرمهم، فأطعت الأمر وقتلتهم، وفي نفس الليلة عند ما أردت النوم جاؤوني وهم ملطخون بالدماء فأحاطوا بي وأخذوا يعاتبونني ويسألوني لماذا قتلتنا؟ ما كان ذنبنا؟. فخفت خوفاً شديداً، وفزعت من النوم وأخذ بدني يرتجف وقلبي يضطرب، ومن تلك الليلة كلما نمت في الليل أرى نفس الرؤيا، أما إذا نمت من شروق الشمس فلا أرى شيئاً، فندمت كثيراً وقمت أسهر الليل بالعبادة، وأنام في النهار. هذا في الدنيا، أما مصيره في الآخرة فالله عالم بذلك، قال تعالى :من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً(.
إصلاح الفرد ومكافحة الفساد
كلنا نتكلم عن الاصلاح، بدء من المسؤول الأعلى وانتهاء بأبسط الناس، ولكن في الحقيقة الكلام وحده لا يكفي، لأن الكلمات تقدم لنا أفكارا نحو الاصلاح، ولهذا تحتاج الأفكار الى تطبيق على الواقع، لأنها تبقى في حالة عدم التطبيق كلمات مجردة لا تقدم ولا تؤخر، ويقول أهل الشا، من علماء ومصلحين أن الأهم في عملية الاصلاح أن يبدأ الناس بأنفسهم قبل أن يطلبونه من الآخرين، وهذا عين الصواب.
فمن يريد الاصلاح ويسعى إليه ويؤيده، ينبغي أن يطبقه على نفسه أولا، واذا بدأ كل فرد باصلاح نفسه، واستطاع أن يؤثر في غيره وبيئته، سوف يمتد التأثير ويتصاعد، وتتوسع آفاق بيئة الاصلاح، لتشمل مناطق اكبر واوسع وتشكل اعدادا اكبر من الناس، وهكذا ينعكس هذا الفعل الجيد من الفرد على الجماعة وبالعكس، فالبيئة الصالحة يمكن أن تصلح الفرد المنحرف.
يقول الامام الشيرازي في هذا المجال: (من أهم ما يلزم في إصلاح المجتمع، هو إصلاح الفرد، لأن المجتمع يتشكل من مجموع الأفراد، وكل من الفرد والمجتمع يؤثر في الآخر سلباً وإيجاباً، ومثل المجتمع مثل الفرد، في الصلاح والفساد، والصحة والسقم، والتقدم والتأخر).
لهذا يحتاج الاصلاح الى بنية اجتماعية متعاونة، وطبقة سياسية تعتمد نكران الذات وتتخلى عن الأنانية، وتسعى لتحقيق مصالح الشعب، وتتصدى للفاسدين بقوة القانون العادل، مع الشروع باطلاق حملات وعي لتربية المجتمع على الفكر المتوازن والسلوك القويم، وهي امور يمكن تحقيقيها في العائلة اولا ثم المدرسة والجامعة ومحيط العمل والشارع، كي تكون منظومة سلوك مجتمعي ناجح خال من الفساد والفاسدين، وقوامه الاصلاح السديد، يتحقق هذا عندما يكون هناك دعم من الاغنياء للفقراء كي تعم العدالة الاجتماعية وينتشر السلم الأهلي.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب في كتابه المذكور: (إن الغني إذا اهتم بالفقير، والفقير إذا عاون الغني بدوره، وهكذا السليم والمريض، والعالم والجاهل، وغيرهم من الطوائف الاجتماعية المتضادة الصفة، فسوف ترفع مشاكل المجتمع بنسبة كبيرة، وما أكثرها خصوصاً في الحضارة الحاضرة التي جعلت المادة هي المحور).
اضف تعليق