بات الاصلاح اليوم مطلبا جماهيريا يدعو له الجميع، لدرجة أن توازن العلاقة بين السلطة والشعب بات محكوما بتحقيق هذا الهدف، فمنذ أن بدأ الانسان بالتحول من حالة عدم الاستقرار والجري وراء غذائه، الى الثبات، بدأت أشكال عديدة من التجمعات البشرية تتكون هنا وهناك، ومع تطور هذه التجمعات، أخذت الحياة الجماعية تتعقد أكثر وتحتاج الى ادارة وقيادة في مختلف شؤون الحياة، من هنا ظهرت الحاجة الى الزعامة والحكم لادارة شؤون الناس، مقابل أن يتنازل هؤلاء الناس عن بعض حرياتهم لصالح الحاكم، فنشأ العقد الاجتماعي الذي قام بمهمة تنظيم طبيعة العلاقة بين الطرفين الحاكم والمحكوم.
ومن التجارب التي قدمها لنا التاريخ، عبر الأمم المختلفة، نستطيع أن نجزم بأهمية تحقيق الاصلاح من خلال تنسيق العلاقة بين الطرفين الحاكم والمحكوم، على أن يلتزم الطرفان ببنود هذا العقد، وأن أي خلل في التنفيذ من احد الطرفين، لاسيما الحاكم (المستأثر بالسلطة)، سيؤدي الى بطلان العقد، فمن غير المقبول مطلقا أن يتفرد الحاكم في اتخاذ القرار، ولا ينبغي له إهمال أو تجاوز قواعد الشورى.
ان الخوف من تفرد الحاكم بالسلطة هو الذي يدعو الجميع الى المناداة بالديمقراطية والتمسك بأسلوب الاستشارة في اتخاذ القرار، وحتى لا تتاح الفرصة للحاكم أن يتفرد بالسلطة، ينبغي أن تدار القضايا بطريقة المشاركة في صنع القرار، والسماح لمنهج التعددية أن يأخذ دوره، ليس بمعنى تشتيت قوة القرار، وإضعاف قدرة الحاكم على الإصلاح، وانما مراقبة الحاكم الفرد كي لا يكون هو وحده المتحكم بإدارة السلطة، فيصبح بذلك دكتاتورا.
من هنا يرى الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: الشورى)، أن: (كل شيء يرتبط بشؤون الأمـة لابـدّ مـن الاستشـارة فيه). والسبب هو عدم تركيز السلطة في يد شخص واحد او جهة واحدة او حزب واحد، ولا يمكن أن يتم الاصلاح من دون الاستشارة والالتزام بهذا المبدأ وفق الدستور.
الأمر الأهم في هذا الجانب، ان يكون هناك تفاعلا بين الاصلاح والاستشارة والسلطة في وقت واحد، وفي هذه الحالة سوف تتضح لنا القيمة الكبرى للاستشارة في تحقيق عملية التوازن والاستقرار، لأن عدم الاستشارة سيؤدي حتما الى تركيز السلطة المستبدة في شخصية الحاكم ومن ينتمي اليه من الحاشية والمعاونين والمقربين ايضا، وبالتالي سوف يسود نظام غير عادل في التعامل مع الكفاءات والقدرات والمهارات التي يتمتع بها افرد الامة او الشعب، وسوف يغدو تحقيق الإصلاح أمرا غير قابل للتحقيق، واذا تم ذلك فإنه يكون خاضعا للمزاج والعشوائية التي تتبع شخصية الحاكم، في حين أن الإصلاح ينبغي أن يكوم على أسس علمية مدروسة مسبقا وموضوع من خبراء لهم باع في معرفة تطوير الشعوب والدول.
لا لإضعاف قوة القرار
المشاركة في صنع القرار لا تعني التدخل في قضايا خارج إطار الدستور والقانون، لقد ذاق العراقيون مرارة السلطة والقمع والتفرد بالسلطة، وهم حاليا عندما ينادون بالإصلاح، لا يقبلون التفرد بصناعة القرار، ولا يقبلون لحزب او شخص ما أن يتحكم بمصائرهم، فمثل هذا الامر قد يهدد الحرية والتعددية، ولكنهم يريدون الإصلاح أيضا، هنا لابد أن يكون هناك نوع من التوازن بين صناعة القرار والإصلاح والمنهج التعددي.
لذلك يقول العلماء وأهل الشأن أن الأهم في صناعة القرار أن لا يكون فرديا، أو نابعا من إرادة حزب واحدة او كتلة واحدة، فالاستشارة كما هو متفق بين الجميع، تعمل على مقارعة وإضعاف الاستبداد، وهنا تحديدا تكمن أهمية ذلك في ادارة شؤون الدولة، لذلك يتضمن العقد القائم بين الحاكم والمواطن، التزاما تاما بالمنهج التعددي في ادارة البلاد ضمن إطار الدستور وقواعد ادارة السلطة والصلاحيات المحددة وفق القانون لا خروجا عليه، وهذا لا يعني إضعاف سلطة اتخاذ القرار بقدر ما تعني عملية مشاركة دستوري في إدارة شؤون البلاد ضمن منهج استشاري متفق عليه شعبيا.
على أن لا يكون هناك سعي من طرف ما نحو تحديد منهج الديمقراطية في مجال معين وإطلاقه في مجال آخر، فصناعة القرار والقيام بعملية الإصلاح لا يمكن أن تتم بطريقة عشوائية، بل بالتخطيط العلمي المسبق، ولا يمكن حصر الاستشارة في نطاق ضيق او محدد سلفا، فهذا المنهج ينبغي أن لا يستثني جانبا من جوانب الحياة، وجميع الامور مهما كانت صغيرة او كبيرة، ينبغي أن تخضع لهذا المنهج.
لذلك جاء قول الامام الشيرازي حول هذا الجانب دقيقا وواضحا، حينما قال سماحته: إن الشورى تشمل (أي أمر مرتبط بقطاع من الأَمة صغيراً وكبيراً، فالاستبداد في الأمة بالحكم محرم، حراماً بحجم الأمة. والاستبداد في اتحاد الطلبة ـ مثلاًـ حرام بحجم اتحاد الطلبة، إذ معنى الاستـبداد هو الاستئثار بحق الآخـرين حقاً مالياً أو حقاً جسدياً أو حقاً اعتبارياً).
وبهذه الطريقة وبهذا الالتزام الدستوري بالمنهج التعددي الاستشاري، يمكن أن تكون عملية الإصلاح واضحة المعالم، ويمكن تحقيقها على الأرض بإرادة جماعية، عبر ممارسة صنع القرار بصورة دقيقة وفقا لقواعد العمل في مسار صنع القرار، وفي هذه الحالة يمكن أن يكون هناك نوع من التوازن بين الحاكم والشعب، مع الأخذ بنظر الاعتبار بمراعاة العلاقة بين الطرفين، وفق بنود دستورية متفق عليها.
صلاحيات السلطة ليست مطلقة
من الأمور التي ينبغي أن يعرفها ويؤمن بها العاملون في ميدان السياسة أن السلطة التي منحهن إياها الشعب ضمن العقد المبرم بين الطرفين، ليست سلطة بلا حدود، كما أن الإصلاح لا يعني أن السياسيين يتفردون بصنع القرار، او يتحكمون بمصائر الناس من دون قواعد عمل واضحة المعالم والحدود، علما ان العقد الذي يبرم بين الحاكم والمواطن، يجيز للحاكم التصرف بالثروات التي تعود للمواطنين، أو ما يسمى بالمال العام، ولكن هذا لا يعني أن الحاكم يتصرف بهذا المال، او بنفوس المواطنين، في الحروب مثلا، كما يرغب هو، أو كما تفرض عليه رغباته التي قد تكون خاطئة، لاسيما اذا كان ذا شخصية مزاجية متفردة، تتخذ القرارات الصعبة بعيدا عن استشارة الشعب أو من يمثلهم.
وهذا النوع من الحكام مغرمين بالاستبداد، ومجافين للمنهج التعددي، ورافضين للإصلاح، وهم مثال للحكام الطواغيت الذين لا تملأ شهيتهم سوى إراقة الدماء، وقد قدم لنا التاريخ قصصا كثيرة عن مثل هؤلاء الحكام المستبدين الذين زجوا بشعوبهم في معارك وحروب طاحنة من اجل صنع المجد الشخصي على حساب ملايين الضحايا الأبرياء.
من هنا ينبغي أن يكون هناك تحديد ومراقبة للسلطة وشخص الحاكم، كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله الدقيق: (يجب الأخذ بالمشورة بقدر تحقق إجازة التصرف في المال والنفس لا أكثر ولا أقل).
وطالما أن الهدف هو الإصلاح، وصنع التوازن في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، هذا يقودنا الى حتمية اعتماد المنهج التعددي الاستشاري الإصلاحي في ادارة الحكم، وهذه الأهداف كافية كي تجعل منا كمواطنين وحكام، ملتزمين بالاستشارة لأنها تساعدنا على حفظ الحقوق، وهي بمثابة صمام الأمان الذي يمنعنا كشعوب متأخرة نحو الانحراف مما يزيد الطين بلّة.
لذا فإن أهمية المنهج الديمقراطي تظهر في قول الإمام الشيرازي: (إنّ الاستشارية سواء في الحكومات الزمنية ـ مما تسمى بالديمقراطيةـ أو في الحكومة الإسلامية هي صمام الأمان، وذلك لأنّ الناس كما يحتاجون إلى ملء بطونهم، يحتاجون إلى ملء أذهانهم).
اضف تعليق