هل يمكن لحاضر الإنسان أن يختصر الابعاد الزمنية الاخرى، وهل يصح إهمال التعامل مع تلك الابعاد التي ترتبط في سلسلة زمنية معروفة؟، حيث يتوسط الحاضر، بعديْن آخريْن هما، الماضي و المستقبل، فالأبعاد الثلاثة المعروفة للزمن، الماضي/ الحاضر/ المستقبل، تكمّل بعضها البعض، في لوحة زمنية تشكل تأريخا مشتركا للبشرية، لذلك لا يمكن للانسان أن يركّز على حاضره فقط، كونه يعيش فيه ويتعاطى معه، ويهمل البعدين الّلذيْن لا يتعامل معهما بصورة مباشرة، ذلك أن الماضي يضجّ بخزين هائل من التجارب المعرفية والعلمية والمادية، ما كان للبشرية ان تصل الى ما وصلت إليه من العلوم والتطوّر لو لا الاستفادة من هذا الخزين العلمي المادي المتداخل للماضي السحيق صعودا الى الحاضر.
كذلك ليس أمام الانسان إلا أن يتعامل مع المستقبل، ويتنبأ بأحداثه ويدرسها على ضوء أسانيد يقدمها الحاضر والماضي معا للانسان الآن، حتى يتمكن من التعامل ما يضمّه المستقبل في جعبته من مفاجآت واحداث قد تصل الى حد الكوارث، وهنا ليس امام الانسان سوى دراسة المستقبل بدقة وتأن وصولا الى النتائج التي تقي البشرية الكوارث الغير محسوبة.
لذلك يركز الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، على هذا الموضوع، قائلا سماحته بكتابه القيّم الموسوم بـ (فقه المستقبل) في هذا المجال: (ينبغي على الانسان معرفة المستقبل بكل أبعاده وأجزائه وجزئياته، فبدون هذه المعرفة لا يستطيع الإنسان أن يحسن التخطيط للمستقبل، وبدون حسن التخطيط لا يملك الإنسان حلولاً له، وربّما أوجب المستقبل سقوطه).
إذاً ليس أمام الانسان سوى التعامل مع المستقبل بعقل سليم، وعين بصيرة ثاقبة، تضع النقاط على حروفها، حتى يبعد نفسه عن الاخطار التي يمكن للمستقبل أن يطلقها لصورة مفاجئة، والتي قد تهدد حياته وتتحكم بمصيره، علما أن البشرية منذ نشوئها، مرورا بتطورها ونموها، كانت مهدّدة على الدوام بكوارث طبيعية خطيرة، فضلا عن الكوارث البيئية والوبائية وما شابه، لذلك ليس امام الانسان الفرد والجماعة سوى التعامل مع خفايا المستقبل، بالعقل العارف المتبصّر والمطَّلع مسبقا على ما يخبّئه المستقبل من مفاجآت. لذا ينبّه الامام الشيرازي الى: أن (الإنسان الذي يتطلّع إلى ما قد سيحدث له في المستقبل، ويُميّز الأخطار، ويميز الفرص المؤاتية، سيأمن جانبه، وسيبعد عن نفسه الأخطار المهلكة وسيستفيد من الفرص المؤاتية).
احتمالات صفقة الزمن
الكل يتفق على ما يسمى بـ (غدر الزمان)، هذه الجملة التي يرددها حتى بسطاء الناس، ويريدون بذلك الخشية مما هو مجهول في بطون الزمن، مما قد يتعرض له الانسان ولم يحسب حسابه، فمن لا يقرأ المستقبل جيدا، ولا يحدد خريطة الزمن القادم، وتفاصيلها، فإنه لا شك سوف يكون عرضة لكوارث غير محسوبة، بسبب عدم التنبؤ بها، من هنا تأتي أهمية، بل وجوب معرفة الانسان من خلال الاستقراء والتحليل والتوقع والتنبؤ بما سيجري في المستقبل، وكل هذا ينبغي أن لا يجري بطرق عشوائية ارتجالية لا تعتمد العلمية والتحليل المنطقي المحسوب، بل لابد أن تتم معرفة تفاصيل خريطة الزمن القادم وفقا لاحداث ومؤشرات الماضي والحاضر معا، ومن ثم وضع الاحتمالات الأكثر قربا من سواها، في هذه الحالة سوف يربح الانسان من معرفة المستقبل جوانب مهمة، أهمها تجنّب المفاجآت غير المتوقَّعة.
يقول الامام الشيرازي بكتابه نفسه في هذا المجال: (إذا استطاع الانسان أن يتنبأ ويستشف المستقبل ويقرأ آفاقه بصورة جيدة، فإنه سيأخذ الحيطة والحذر في ذلك، وإلاّ فإنّ كارثة مّا ستحلّ عليه، ويخسر كلّ شيء في صفقة الزمن المملوء بالاحتمالات).
ولا شك أن هناك شعوبا تتقاعس في هذا المجال، ولا تواكب هذه القضية الحساسة، فتنشغل بتفاصيل الحاضر وتنسى المستقبل ومشاكله الكثيرة، علما أن هذا النوع من التقاعس قد لا يشمل الافراد فحسب، إنما حتى الحكومات والمؤسسات المعنية بالتنمية البشرية وسواها، فربما كل هذه الجهات المعنية، لا تشغل نفسها بمعرفة خفايا المستقبل، لأن هذا الجانب لا يقدم لها فوائد آنية وعاجلة، بمعنى أن اهمال دراسة المستقبل غالبا ما يكون في المجتمعات ذات الآفاق القصيرة المدى، الضيقة، التي لا يهمها الغد بقدر ما تهمها منافعها الآنية الصغيرة، على حساب المنافع المستقبلية الكبيرة، لذلك هذا النوع من الاشخاص والمجتمعات التي لا تعتني بدراسة المستقبل، ستكون عرضة لكوارث غير محسوبة، قد تكون في مجال الموارد أو الاجتماع او السياسية، بل حتى الاخطار الطبيعية سوف تتهدد مثل هذه المجتمعات المتقاعسة.
ويضرب لنا الامام الشيرازي مثالا عن ذلك في كتابه المذكور نفسه، فيقول سماحته حول هذا الموضوع: (من لم يتنبأ بسقوط الأمطار بغزارة وقدوم البرد، ثم يقدم على السفر في الطرق الجبلية الوعرة، فإنّ السيل سيحاصره، وسيجرفه الماء، أو سيواجه أخطاراً أخرى عظيمة؛ لأنهُ لم يدرس المستقبل، فيدفع ثمن عدم معرفته وتقاعسه).
مساوئ عزلة التفكير
عندما يتقوقع فكر الانسان وتفكيره، وينعزل عن التلاقح مع الافكار الاخرى، ويهمل التفكير الدقيق بالمستقبل، فإن النتائج ستكون بالغة الصعوبة، قد تصل الى تهديد مصير الانسان والمجتمع معا، ولعل الوقود الذي تحتاجه كوارث المستقبل، هم أولئك الناس الذين يعتزلون بأفكارهم، ويذهبون بعيدا عن الانشغال بالمستقبل، وينهمكون بتفاصيل الحاضر ومنافعه الآنية، الامر الذي سيجعل منهم وقودا لمحرقة الكوارث المستقبلية القادمة.
هذا ما يؤكده الامام الشيرازي بوضوح تام، عندما يقول سماحته حول هذا الموضوع: (أما الناس الذين فرضوا على أنفسهم العزلة عن التفكير بالمستقبل، فإنهم عادة ما سيصبحون مَحرَقَةً للأحداث القادمة). وهذا ما تم بالفعل وحصل على مستوى الافراد والجماعات ايضا، فهناك أشخاص أهملوا المستقبل، وظلّوا يراوحون عمرا كاملا في مكانهم، فلم يتطوروا، ولم يستعدوا للمستقبل ومصاعبه ومفاجآته، وفي الوقت الذي تقدم فيه اقرانه و واكبوا مستجدات المستقبل، ظلوا هم عرضة للصدمات والمراوحة في مكانهم ومستواهم نفسه على الاصعدة كافة، وهذا ينطبق على الجماعات بالضبط، فمن لم يبذل الجهد الكافي في استقراء المستقبل، سوف يبقى أسير الحاضر حتى يوافيه الموت.
على العكس تماما من الانسان الذي يخطط ويرسم ويضع الاحتمالات المتعددة، ويجهد نفسه وتفكيره، ويبذل ما يلزم من الجهود الفكرية والمادية لقراءة المستقبل، هذا النوع من الناس (فردا كان أو مجتمعات)، سوف يكون قادرا على النجاة من أية مشكلة مهما بلغت درجة خطورتها، لأنه وضع الحلول مسبقا، واجتهد في هذا، ولم يتقاعس، ولم ينشغل بالفوائد والمنافع الآنية الصغيرة، بل انشغل بما هو أكبر، عندما تنازل عن المكاسب واللذات العاجلة، ووضع اكتشاف المستقبل وتفاصيله نصب عينيه، فتجنب بذلك كوارث محتملة، ليس هذا فحسب، إنما استطاع مثل هؤلاء الافراد والمجتمعات أن يتقدموا أكثر واكثر، فبلغوا مراتب عليا، في حيت بقي الاخرون ممن لم يهتموا بالمستقبل، قابعين في المراتب الدنيا.
لذلك يركّز الامام الراحل، في كتابه (فقه المستقبل)، بوضوح ودقة على: أن (الانسان الذي يعي المستقبل ويخطط له بدقة ووضوح، سينجو حتى لو حلّت الكارثة؛ لأنه قد تدبّر لكل أمرٍ أمراً، ووضع لكل احتمالٍ حلاً. فهو متطلع دائماً للزمن القادم).
وهذا بالضبط ما ينبغي أن نعتني به، ونعطيه ما يكفي من أوقاتنا، واهتمامنا وعلمنا وقدراتنا على الاكتشاف والتنبؤ، بل وحتى أموالنا ينبغي أن نضعها في خدمة التعامل مع اكتشاف الزمن القادم، فمن يتعامل مع المستقبل بذكاء سوف يربح الأزمنة كافة!.
اضف تعليق