رأس الحكمة مخافة الله، فعندما يضع الانسان رضا الله تعالى أمام عينيه، قبل وبعد أعماله، ويحاسب نفسه عمّا فعله، خيرا أو الضد من ذلك، عند ذاك سوف ينجو ويفلح، هذا اذا تعلق الأمر بالانسان العادي، الانسان الذي لا تؤثر قراراته على مجموعة كبيرة من الناس، فما بالك اذا كان الانسان مسؤولا، وأن أي قرار يتخذه سوف يعود بالخير أو الأذى على آلاف إن لم نقل الملايين من الناس، فكلما ازدادت مسؤولية الانسان الوظيفية وتعاظم مركزه في السلطة، كلما كان الحساب الذي ينتظره كبيرا يساوي حجم مسؤوليته.
من هنا تأتي أهمية أن يكون القادة ممن يخاف الله في العمل واتخاذ القرار والمشاركة بصنعه، مع أهمية الاستخدام الصحيح للمنصب والمركز الوظيفي وعد استغلاله لمصالح ذاتية او عائلية، فالتركيز هنا يأتي في جانب صلاحية المسؤول القيادي من خلال مدى خوفه من الله ومدى قدرته على ردعه لنفسه وأهوائه، لأن المسؤول الضعيف لا يتمكن من نفسه الامارة بالسوء، وهذا ينعكس بالضرر على عموم المجتمع.
عندما يكون المسؤول فاسدا فإن نظام الحياة كله يفسد بالنسبة للدولة والمجتمع، والعكس صحيح، هذه هي أهمية أن يكون القائد ممن يخشى الله، ويحسب حسابه ليوم يكون فيه أمام القضاء الالهي الذي لا يترك شاردة أو واردة إلا ووضعها في الميزان، فإذا ثقلت كفة الخير هذا يؤكد سلامة موقف المسؤول، واذا حدث العكس فهناك سيواجه مصيره المحتوم ولات وقت ندم.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (الاصلاح) حول هذا الموضوع: اذا كان المسؤول فاسد (يدب الفساد والإفساد في كافة أنحاء المجتمع، وتعم الفوضى وتنتشر الأفكار الهدامة والنظريات الباطلة، وتكثر المفاسد الأخلاقية والاجتماعية، وبذلك تعشعش السيئات وتمحق الحسنات ويزداد فعل الشر ويقل فعل الخير).
هكذا سوف يكون حال الدولة والمجتمع، عندما يكون زمام الامور في قبضة قادة وساسة لا يخافون الله، ولا يفكرون في الآخرة والحساب القادم لا ريب، فهؤلاء القادة (كما يحدث اليوم في العراق) ينغمسون في الملذات ويطيب لهم الحرام، وتشغلهم الملذّات والسحت الحرام عن مهمتهم الأولى والأساس، وهي رعاية مصالح الشعب والفقراء والدولة ككل.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب بكتابه نفسه: (إذا كان زمام الأمور بيد أناس لا يؤمنون بالله ولا يخافون يوم الحساب، أناس انغمسوا في الشهوات واتبعوا الشيطان، فإن نظام الحياة لا محالة سائر على البغي والعدوان والفحشاء والمنكر).
العودة الى جادة الصواب
من الامور الجيدة المتاحة للمسؤول وسواه، أن باب العودة الى الصلاح مفتوحة، خاصة اذا كان المجتمع يرفض الفساد والفاسدين ولا يمنحهم الغطاء الاجتماعي الذي يزيدهم اصرارا على الفساد، فالمجتمع ينبغي أن يحاصر الفاسدين، وأن ينبذ السلوك الخاطئ، من خلال منظومة من الاعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية الايجابية التي تحاصر الفساد والفاسدين.
وليس صعبا أن يكون المجتمع من هذا النوع اذا كان معافى، واذا كانت النخب فيه واعية ومثقفة وتعرف كيفية استثمار فرص الخير من اجل اعادة الامور الى نصابها الصحيح، ومثالنا هنا هو العراق، حيث الاوضاع تسير من سيء الى أسوأ، على الرغم من دعوات المرجعية للاصلاح بالاضافة الى الاحتجاجات المتواصلة منذ سنة واكثر، حيث الفساد يعم مفاصل المنظومة الادارية والسياسية في البلاد.
في حين عجزت الحكومة حتى الآن عن معالجة الامور التي تتعلق بتحقيق الاصلاح، وخاصة ما يتعلق بضرب رؤوس الفساد، واعادة هيكلة الحكومة والدولة بما يحقق العدالة الاجتماعية والسياسية ايضا، لذا فإن الجميع مطالبون وخاصة الطبقات الواعية، بإعادة الحياة في العراق الى طبيعتها، ومقارعة الفاسدين ومحاصرتهم، لاسيما أننا نمتلك القاعدة الاساسية التي تجعلنا قادرين على اعادة الخير والصلاح الى ربوع بلادنا.
يقول الامام الشيرازي في هذا المجال: في المجتمع السليم (لا مكان للفساد ولا مجال للإفساد حتى أن الخبثاء والأشرار يمكنهم الرجوع إلى حصن الدين وإصلاح سيرتهم وسريرتهم وبذلك تنمو الحسنات وتمحق السيئات ويكثر فعل الخير وينحسر فعل الشر في المجتمع).
ولا نخطئ عندما نقول أن أساس الفساد هو الجهل، وأن الجهل هو حصيلة متوقعة لبيئة التخلف، لذلك فإن أية خطوة للقضاء على الفساد تستوجب معالجة فعالة للجهل والتخلف بصورة فورية، وعبر مراحل متدرجة ايضا، في هذه الحالة سوف يكون بإمكان الجهات المعنية نشر الاصلاح في المجتمع عموما، وفي مفاصل الدولة والحكومة ايضا، وبهذه الطريقة يكون بالامكان القضاء على الفساد والفاسدين، والسير قدما في طريق الاصلاح الحقيقي.
كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله: (من مقومات الإصلاح، القضاء على بيئة التخلف فللتخلف أيضاً بيئة خاصة به، هي الجهل والنزاع، والكسل والضجر، وشيوع الزنا والانحرافات الجنسية، والمرض والكآبة، وعدم الأمن والبطالة).
ظاهرة انشغال المسؤول بمصالحة
ومن العقبات الصعبة التي يواجهها الاصلاح في بلادنا، هو انتشار ظاهرة قديمة جديدة بين المسؤولين العراقيين، وعدم محاربتهم لهذه الظاهرة، وهي انشغال المسؤول بمصالحه واستبدال ذلك عن مهمته الأساسية وهي الانشغال بمصالح الناس، فعندما نراقب المشهد السياسي والاداري يمكن أن نلاحظ بوضوح ظاهرة اهتمام المسؤولين بأنفسهم وعوائلهم والمقربين منهم، من اجل ترصين مواقعهم وحماية مناصبهم، بالاضافة الى اهتمام المسؤول بمصالحه كتلته او الحزب الذي ينتمي له، باعتبار ان الحزب هو الذي اوصله الى منصبه.
وهكذا يكون الوزير او المسؤول الفلاني عاجزا عن الاصلاح، وهو اداة طيعة بيد حزبه وكتلته، فيكون في خدمة الكتلة والحزب بدلا من خدمة الدولة والمجتمع، وهذا الحال ضاعف من حالات الفساد واعداد الفاسدين في البلاد، في هذه الحالة لا يتجمل المسؤول مسؤوليته ازاء الشعب، ولا يعبأ بحقوق الآخرين، ويهتم بمصالحه الذاتية والحزبية قبل كل شيء، وهذا يجعل الفساد منتشرا بصورة كبيرة.
يقول الامام الشيرازي، إن صعوبة الاصلاح تكمن في (انشغال كل مسؤول بمصالحه بأقصى ما يمكنه وعدم الاعتناء بحقوق الآخرين، وعدم تحمل المسؤولية وخدمة الآخرين، والعمل لكسب المنافع من أي طريق كان). هذا النوع من المسؤولين لا يبحث عن طريق الحق، بل يبقى مغمض العينين سائرا في طريق الضلال، ما ينعكس بصورة كبيرة على حياة الشعب واضعاف الدولة، وجعل عملية محاربة الفساد اكثر صعوبة إن لم تكن مستحيلة.
لذلك ينبغي استبدال جميع المسؤولين اللذين لا يخافون الله، بآخرين لا تشغلهم مصالحهم الذاتية والعائلية والحزبية والكتلوية التي ستقودهم في آخر المطاف الى قعر جهنم، لذا يحتاج العراق اليوم دولة وشعابا، الى قادة وسياسيين يخافون الله ويؤمنون بالرسول الاكرم (ص) وآل بيته الاطهار (ع)، في هذه الحالة يكون الخلاص من الفساد ممكنا.
أما اذا كان الساسة من النوع الذي لا يخشى الله ولا يعبأ بمنهج الرسول (ص) وآل بيته (ع)، فإن الامور سوف تسير نحو الانحدار، وهذا ما ينبغي أن يتنبّه إليه قادة القوم، كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله: (كلما كان القادة ممن يؤمنون بالله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل البيت عليهم السلام، وكانوا يخافون يوم الحساب، فإن نظام الحياة بأسره سيسير على طريق الخير والرشد والصلاح).
اضف تعليق