إنه سؤال يدور في خلد الكثير... خلال القرن الماضي، وما تزال، تواجه "الحالة الاسلامية" في جميع مقومات حياة الانسان، تحدّيات بالتشكيك في قابلية النجاح، فـ "المجتمع الاسلامي" و"الحكم الاسلامي" و "الاحزاب الاسلامية" و... غيرها، كلها تقع في دائرة الاستفهام في الامكانية الحقيقية للتطبيق العملي بالشكل الذي يحفظ القيم والمبادئ، ويحقق المنفعة العامة، وهو عينه الهدف المرجو في نهاية الطريق. بينما نلاحظ منذ سنوات، أن "المصارف الاسلامية" وحدها التي تمكنت من فرض نفسها على واقع الاقتصاد العالمي، والسبب الأهم – من جملة اسباب- هو ترجمته الصحيحة والواقعية لمفهوم "الاكتفاء الذاتي" الذي يهدف بالاساس الى الاستقلالية الاقتصادية، وتحقيق الطموح الأعلى بتوفير سبل العيش الكريم. واذا عرفنا حجم المساحة الواسعة للشعوب الاسلامية المستفيدة، في خارطة الدول النامية بالعالم، ندرك أهمية هذه المعادلة الاقتصادية الجديدة – القديمة.
في بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي، وفيما كانت فكرة المصارف الاسلامية، تتطور نظرياً وتنمو عملياً على الصعيد الاقتصادي المحلي ثم الدولي، كتب سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي في مفهوم "الاكتفاء الذاتي" ضمن بحثه في سبل تحقيق الحكومة الاسلامية الواحدة، وذلك في كتابه؛ "السبيل الى إنهاض المسلمين". حيث وجه الاكتفاء الذاتي نحو نهضة تنموية حقيقية تجد لها مصاديق عملية في الواقع الاجتماعي والسياسي. فالقضية لم تعد مجرد إطلاق شعارات وتعبئة جماهيرية لاهداف سياسية توجه فيها السهام الى هذا النظام الحاكم أو ذاك الديكتاتور، أو حتى لخوض مباريات ليّ الأذرع" مع القوى السياسية والاقتصادية العالمية، كما يحصل في كوبا وكوريا الشمالية. إنما هنالك برنامج عملي متكامل يستبدل المنهج الذي أثقل دول العالم أجمع بالديون وفوائد الديون والتبعية الى الرمق الاخير الى أصحاب الشركات العملاقة والرساميل الضخمة في العالم.
وابرز دليل على ذلك التقدم الملموس في نشاط المصارف الاسلامية في العالم، وتحدي الاقتصاديات العالمية في الوقت الحاضر، وقد أذعن الخبراء بمصداقية هذه المصارف وفوائدها، فقد جاء في مقال للدكتور مدحت القريشي، على موقع "شبكة الاقتصاديين العراقيين" تأكيده على أن هذه المصارف أصبحت في ظل متطلبات العصر ضرورة اقتصادية لكل مجتمع اسلامي يرفض التعامل بالربا ويرغب في تطبيق الشريعة الاسلامية وذلك بهدف تيسير التبادل والمعلومات وتيسير عملية الانتاج، كما أن المصارف المذكورة وسيلة لمحاربة ظاهرة الاكتناز وتشجيع الاستثمار الحقيقي باقامة المشروعات الاقتصادية. وقد شهد قطاع المصارف الاسلامية نمواً كبيراً حيث بلغ عدد المصارف الاسلامية في عام 2009 اكثر من 270مصرفاً اسلامياً، وبلغ حجم الودائع المصرفية لديها اكثر من 200مليار دولار، وحجم الاصول اكثر من 265مليار دولار.
ويفسر الخبراء عدم تأثر المصارف الاسلامية بالازمة المالية العالمية عام 2008، انها تلتزم منهجاً مغايراً لمنهج المصارف التقليدية، وانها لا تتعامل بالربا ولا تتاجر بالدين، بمعنى أنها تتاجر وتعمل بما تملك من اصول مادية. لكن مع ذلك تشير الدراسات الى أن اشتداد الازمة العالمية العالمية وانخفاض النشاط الاقتصادي انتاجاً وتشغيلاً واستثماراً، ترك آثاره السلبية على المصارف الاسلامية، وهذا يعني أنها ليست محمية بالشكل المطلوب، فضلاً عن قدرتها على منافسة وتحدي الاقتصاد العالمي رغم ثغراته ومشاكله.
سماحة الامام الراحل يدعو الى التفكير بالاكتفاء الذاتي، ليس فقط في جانب واحد من الحياة الاقتصادية، وهو المصارف، رغم أنه يمثل أحد أهم وسائل نجاح العملية الاقتصادية، بيد أن الاقتصاد هو منظومة متكاملة قوامها؛ رأس المال والانتاج والاستهلاك، واذا أريد حقاً إنجاح عملية الاكتفاء الذاتي في هذا المجال، فلابد من النظر الى هذه الجوانب ايضاً، فهو يدعو الى صبّ كل الامكانات والقدرات والروافد الاقتصادية في بوتقة واحدة هي "الوطن الاسلامي الواحد"، بمعنى أن يكون رأسمال والانتاج والاستهلاك في مجرى واحد، وإلا؛ ما فائدة المصارف الاسلامية العاملة وفق الشريعة الاسلامية والبعيدة عن الربا، اذا كان الانتاج ما يزال بيد القوى الاقتصادية الكبرى، وثقافة الاستهلاك ما تزال هي نفسها التي كانت قبل حوالي قرن من الزمان...؟
فهو – قدس سره- يشير علينا بأن نشجع المصارف الاسلامية بإيداع أموالنا فيها بدلاً من البنوك الربوية، كما يشير علينا بأن نشجع الانتاج الاسلامي وايضاً اليد العاملة الاسلامية، بل حتى الاصطياف ورحلات السياحة والاستجمام، يشير الى ضرورة ان تكون الى بلاد اسلامية، فهذا وغيره، من شأنه ان يحرك عجلة الاقتصاد في تلك الدول ويحقق المصداقية للاكتفاء الذاتي في الجانب الاقتصادي.
مثالاً بسيطاً يورده سماحته في هذا السياق من إحدى الاقليات الدينية في بلد اسلامي، حيث يلاحظ أنهم لا يشترون ويتبضعون من أي محل تجاري او أسواق في مدنهم، إنما يحرصون على الذهاب الى المتاجر التي تعود الى ابناء ملتهم ودينهم، حتى وإن كان بعيداً ويكلفهم المال والوقت، بيد أن توفير فرصة عمل ودفع بسيط لعجلة الانتاج لذلك الانسان، لها أهمية اقتصادية وحضارية لاصحاب تلك الديانة والاقلية. وتجعلهم متماسكين وأقوياء وسط أكثرية ساحقة، ربما يؤدي ارتباطهم بعجلة اقتصادها الى تعرضهم لضغوط سياسية واجتماعية وحتى ضغوط نفسية ومعنوية تهدد معتقداتهم وايمانهم، وهذا بالضبط ما نلاحظه لدى بعض الشعوب الاسلامية التي بعد لم تجرب الاكتفاء الذاتي في جميع جوانبه، ولم تخض بشجاعة عملية التحدي العالمي الذي خاضته العديد من الشعوب الناجحة في العالم، مثل الهند وكوريا الجنوبية وغيرهما.
اضف تعليق