هناك شخصيات تمتلك عقولا متميزة، لها القدرة على استقراء الواقع والأحداث، واستنتاج قضايا مهمة وربما مصيرية بما يشبه التنبّؤ بالأشياء والأمور الغائبة في بطون المستقبل، ومن هذه الشخصيات التي خلدتها ذاكرة التاريخ، الامام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، فقد تنبّأ سماحته )قبل عدة عقود من الآن) بالكثير من المصاعب التي سيواجهها المسلمون مستقبلا، وقسم من هذه التنبؤات حدثت اليوم فعلا.
وها أن الكثير من بلدان المسلمين تواجه ما حذّر منه بالأمس الامام الشيرازي، وهو ما يتعلق بانتهاء عصر النفط، والضغط على المسلمين، ومحاولة تدميرهم، من خلال اعتماد سياسات مضادة لهم، ومنها وربما أخطرها سياسة (خفض اسعار النفط) التي حذر منها الامام الشيرازي قبل عقود مضت من السنوات، وها هي تحدث اليوم، وها أن برميل النفط يهبط في غضون شهور قليلة، من 110 دولار امريكي للبرميل الواحد الى 30 دولار.
وهذا الهبوط السريع المفاجئ، قصم ظهر بعض الدول او في طريقه الى ذلك، وربما يأتي على دولا أخرى من خلال إضعاف وتدمير اقتصادها، ولو أن الأنظمة السياسية التي كانت تقود الدول الاسلامية عندما أطلق الامام الشيرازي تحذيراته بهذا الخصوص، قد اخذت هذه التنبؤات والتحذيرات على محمل الجد والاتّعاظ، بدلا من التمني والعيش في رحاب الاحلام الكاذبة، لما اصبح حال دولهم اليوم بهذا الضعف الذي قد يهدد بانهيار اقتصاديات هذه الدول الريعية.
لقد قال الامام الشيرازي في مؤلَّفه الموسوم (ماذا بعد النفط؟)، حول هذا الموضوع قبل عشرات السنين: (من المعروف أنّ النفط في حالة نفاذ، فما تبقّى في الآبار في أحسن الافتراضات سيبقى نصف قرن من الزمن. وهناك من يُعلل نفسه بالأمنيات، وقد حثّ القرآن على استبدال الآمال بالعمل من أجل البحث على سُبل الحياة الجديدة).
اذاً ينبغي التعامل العلمي مع الواقع، وخاصة ثروات الشعب، علما أن النفط ليس من حصة الموجودين فقط، انما للأجيال القادمة حق لا ينبغي التجاوز عليه، وهناك سياسات مضادة قد تطيح بأسعار النفط، وهناك جهات دولية وشركات مستبدة تعمل في هذا الاتجاه بقوة، وهذا ما يحدث اليوم بصورة فعلية.
كما أكد ذلك الامام الشيرازي بقوله: (العامل الآخر الذي يهدد بغلق أنابيب النفط هو سقوط قيمته بحيث تكون تكاليف استخراجه أكثر من عائداته، وهذا ما حذر منه الخبراء خاصة وأن البدائل بدأت بالظهور ولربما بقيمة أرخص وبطرق أسهل وأيسر).
من يقف وراء انخفاض الاسعار؟
كان ينبغي على القادة في السياسة والاقتصاد، أن يتنبهوا لقضية خفض أسعار النفط قبل حدوثها فعلا، فقد كان واضحا أن هنالك قوى ودول ترغب وتسعى لإلحاق الأذى بالمسلمين من خلال تدمير اقتصادهم، ومن خلال دفعهم نحو الاقتصاد الأحادي الريعي، ولا شك أن هناك اهدف سياسية تقف وراء خفض اسعار النفط، يتم التخطيط لها على قدم وساق.
وقد أوضح الامام الشيرازي هذا الأمر بوضوح بالغ منذ ذلك الوقت البعيد، عندما حذر سماحته من سياسة الأعداء التي تخطط لتدمير اقتصاد الدول الاسلامية، فقد قال سماحته حول هذا الجانب تحديدا: (من البديهي أن يكــــون وراء خفض أسعار النفط عامل سياسي ومخطط مرسوم بدقة من قِبل القوى الاستعمارية والصهيونية، فلهذه الأطراف مصلحة كبيرة في خفض أسعار النفط إلى الدرجة المتدنية حتّى يتم هدم البناء الاقتصادي في العالم الإسلامي).
وهكذا يتضح لنا جميعا أن الأمر لا يحدث بصورة عشوائية، أو من دون تخطيط مسبق، بل هذا أهداف واضحة تتركز وتتمحور حول تدمير المسلمين وإضعافهم، ومحاربة الاسلام بأية صورة كانت، وهو ما يحدث اليوم بصورة واضحة، حيث اعتمدت الدول الاسلامية في اقتصادها على ثروة النفط، ولم تطور مصادر اخرى للإيرادات، فانعكس ذلك وخاصة في المرحلة الراهنة، بوضوح على الاقتصاد الاسلامي، مما أثر بصورة واضحة على دخل المواطن في هذه الدول.
ولم يتوقف الامام الشيرازي عند مستوى التحذيرات فقط، إنما اقترح الحلول التي يمكن أن تنقذ المسلمين من المخططات الاقتصادية الخبيثة التي تستهدف ثروة النفط، ومن مقترحات الامام الشيرازي، التمسك بسياسة واضحة لأسعار النفط، وعدم ترك الشركات المعادية التي تقودها جهات معادية للمسلمين، بأن تتحكم بسقف الأسعار، بل ينبغي أن يكون زمام المبادرة في هذا الجانب، بأيدي المسلمين أنفسهم، وهم من يضع الأسعار وفقا للمصلحة التي تراعي حق البائع والمشتري في وقت واحد.
ولذلك أكد الامام الشيرازي على هذا الجانب في كتابه نفسه، فقال سماحته: (إن من الواجب علينا أن نحبط هـــذه المحاولة المعادية للإسلام والمسلمين، وأن لا نبيع النفط بدون حدود وكما تشتهيه الدوائر الغربية والصهيونية العالمية، وبالأسعار التي تحددها الشركات، مما يسبب انخفاض الأسعار ونفاذ النفط وتضييع حقوق الأجيال القادمة).
البحث عن طرق لزيادة الإيرادات
وإزاء وضع كهذا، ماذا يترتب على المسؤولين وقادة المسلمين من خطوات وأفعال تحد من الاخطار التي حدثت بسبب هبوط اسعار النفط، هل يبقى قادة الاقتصاد مكتوفي الأيدي حتى يتم الانهيار التام؟؟، أم هناك سبل وطرق أخرى يمكن من خلالها مواجهة هذا الواقع الاقتصادي الخطير؟ بالتأكيد هناك طرق علمية اقتصادية، يمكن من خلالها تفادي مخاطر الانهيار الاقتصادي المحتمل.
وقد حث الاسلام على عدم الرضوخ الى الخطر، وحتمية مواجهة القوى المعادية للمجتمع الاسلامي، من خلال استثمار القدرات والامكانيات التي يتحلى بها المسلمون، ولابد من تشغيل العقول المبدعة واعتماد الأفكار المتميزة، وإيجاد البدائل التي تواجه كل مخططات الاعداء التي تهدف الى تدمير الركائز الاقتصادية والثقافية والسياسية للمسلمين، من خلال تدمير اقتصادهم، عبر خفض أسعار النفط، في خطوة واضحة، حذر منها الامام الشيرازي، لكن الحكومات الاسلامية لم تأخذ هذا التحذير والتنبّؤ على محمل الجد.
حتى وقع اليوم (الفأس في الرأس)، وها أن المسلمين وحكوماتهم، يواجهون سياسة خفض اسعار النفط، بصورة مستمرة ومتسارعة، لدرجة أن بعض الدول ومنها العراق بدأت تبحث عن الحلول في خصم نسبة من رواتب الموظفين، بل حتى المتقاعدين لم يسلموا من هذا الاستقطاع، في وقت يأمل المسلمون أن تتحسن اوضاعهم المعيشية بدلا من أن تميل عليهم الحكومات بسبب أخطائها في السياسة الاقتصادية.
لذا على الحكومات وخبراء الاقتصاد وكل من يتمكن من المشاركة في عملية التصدي، أن يدخل على خط مواجهة الاعداء، وان يستمر البحث عن الحلول التي تبعد الخطر عن المسلمين وثرواتهم، وأن يعدّوا كل ما يلزم لمواصلة المواجهة بسبل وطرق مناسبة.
من هنا يؤكد الامام الشيرازي على أن الاسلام: (قد حثّ المُسلم على أن يتّبع السُبل ويستكشف الأسباب والطرق لكل شيء، فعليه أن يبحث عن أسباب القدرة وطرق الثروة وأعِدّوا لَهُمْ مَا اسْتَطعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ).
كذلك ينبغي البحث الفوري، عن مصادر ايرادات اضافية، ولا يصح الركون الى مصدر واحد هو النفط، فعلى الرغم من مرور عقود على تنبؤ الامام الشيرازي بما يحدث اليوم، وعلى الرغم من طرحه الحلول والبدائل منذ ذلك الحين، لكن الحكومات الاسلامية المعنية، لم تقم بما يجب، ولم تتنبه الى المخاطر التي يتعرض لها اليوم مئات الملايين من المسلمين، بسبب إهمال المسؤولين والقادة، الذين للآن ما زالوا غير قادرين على مواجهة الأخطاء نفسها؟.
لذلك يدعو ويحذر الامام الشيرازي منذ ذلك الوقت لمعالجة هذا الخلل الاقتصادي الفادح، قائلا سماحته: (لا بدّ من التفكير جدياً بالبحث عن بديل للنفط بالثروة الممكنة وقبل فوات الأوان).
اضف تعليق