الشورى في الاسلام قاعدة مهمة من قواعد السياسة التي اعتمدتها دولة المسلمين بقيادة الرسول الأكرم (ص)، وقد طرح الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، أفكارا سياسية مهمة في هذا الميدان، لاسيما ما ورد في كتابه القيم (الشورى في الاسلام)، فضلا عن مؤلَّفات لاحقة أكد فيها الامام الشيرازي على النظام الاستشاري (الديمقراطي) وامتلاكه سمة التجدد ومواكبة العصر.
ومن حسنات الحكومة الاستشارية، أنها تعمل على تنمية الوعي السياسي لاسيما أن السياسة باتت اليوم تتدخل في معظم تفاصيل حياة الانسان، حتى الدقيقة او الخاصة منها، وهذا يحتم على الجميع أن يكونوا في مستوى سياسي متطور، حتى يتعاملوا بالصيغ الافضل والاكثر تطورا لبناء حاضرهم ومستقبلهم، وهذا ما تسعى إليه المجتمعات الذكية، حيث تدرأ خطر الاستبداد الذي يشلّ الحياة، باستخدام مبدأ الانتخاب في اختيار الحكم والسلطة والقيادات في جميع مجالات الحياة.
ويوجّه الامام الشيرازي بأهمية سعى النخب التي تقود المجتمع، الى الصعود بمستوى الوعي السياسي وتضخيم الحس السياسي لدى الفرد والجماعة معا، حتى يفهموا بالضبط ما هي حقوقهم المدنية وكيف يطالبون بها، ولا يسمحون بالتجاوز عليها، وهكذا نلاحظ ان الفرد لدينا لا يعرف سقف حقوقه، فيطالب بأبسط الحقوق ويظن أنها كبيرة جدا، وهذا دليل على غياب او ضعف الحس السياسي لدينا، مما يشجع الحكومات الفاشلة على انتهاك حقوق الشعب.
من هنا لابد من التركيز على نشر الوعي السياسي، والحس الفردي والجمعي الذي يضع الانسان في حالة مواجهة دائمة ضد الحكومة او النظام السياسي الذي يسعى بكل السبل للتجاوز على حريات الشعب، ضمانا لمصالحه وعرشه من السقوط، لذا لا يصح أن يضعف الحس السياسي لدى الشعب، كونه (الداينمو) الذي يحركهم نحو الحفاظ على حرياتهم وحقوقهم من دون تردد او خوف من القمع والبطش الحكومي، فكلما كان الشعب ذا وعي وحس سياسي عالٍ، كلما كانت النتائج تصب في صالحه، ليس في السياسة فحسب وانما في المجالات الاخرى كافة.
كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي، بكتاب آخر من كتبه القيّمة، ألا وهو كتاب (كل فرد حركة .. وفلسفة التأخر)، إذ يقول سماحته: (حينما ضَعُف في المسلمين الحسّ السياسي، ضعفت فيهم كل شيء، اقتصاداً واجتماعاً وديناً ودنياً، وتربية وعائلة، وأخلاقاً وآداباً وغيرها).
لجان تنشيط الوعي السياسي
نظرا لأهمية الحس والوعي السياسي، في مقارعة الحكومات الفاشلة من لدن الشعب، فإن الامام الشيرازي يقترح إنشاء لجان مختصة لها الخبرة والدراية، تكرّس جهودها وخدماتها، لتوعية الأمة، وتنشط لديهم حسهم ووعيهم السياسي، لكي لا يسمحوا للأنظمة السياسية الفاشلة بالتجاوز على حقوقهم وحرياتهم، لذلك من الامور الاساسية التي ادركتها النخب في الشعوب المتقدمة، هو الوعي السياسي، لسبب واضح، أنه الطريقة الصحيحة لتحجيم الاستبداد، واطلاق حرية الاعلام والفكر، ووضع حد لخطر اشكال الرقابة التي تستهدف حرية الاعلام والرأي والفكر الحر.
علما ان تحريك الحس السياسي، وتنشيط الوعي، ودفعه في مسار يخدم حقوق الأمة، يستدعي جهدا منظما وقادرا على تحقيق هذا الهدف، حيث التخطيط المسبق يكون المرتكز الأول لمثل هذه الأهداف الكبيرة التي تدخل ضمنها مشاريع ثقافية واعلامية كبيرة، مثل طبع ونشر الكتب والأشرطة السمعية وغيرها من وسائل التوصيل التي تفيدنا في هذا المجال.
لهذا ينبّه الامام الشيرازي الى هذا المرتكز المهم فيقول سماحته: (لابد من تشكيل لجان لتقوية الوعي السياسي في الناس، بجعل دروس السياسة، وطبع ونشر الكتب السياسية الهادفة وما أشبه من الأشرطة السمعية والبصرية، وتنظيم المؤتمرات والاجتماعات السياسية، وتشكيل المؤسسات الدستورية إلى غير ذلك).
ولكن دائما هناك الطرف المضاد الذي يتربص بالمشاريع التي تهدف لرفع ثقافة الشعب، ونعني به الطرف الذي يمكن أن يتضرر من وعي الناس، ونعني به النظام السياسي الفاشل، فأما أن يتفق الوعي مع مصالحه، أو أنه في هذه الحالة يكون من ألد أعدائه، لأن الحاكم المستبد لا يقترب من المنهج الاستشاري، ولا يضعه ضمن اهتماماته، بل يكون ضمن الأمور المعادية، فجهل بعض السياسيين يقودهم الى الهروب من الاستشارة، مع انها تساعدهم على ادارة الشؤون السياسية بصورة أفضل وأكثر سهولة فضلا عن انها تعطي ثمارا جيدة، لكن بسبب جهل بعض القادة السياسيين لفوائد النظام الاستشاري، ورغبتهم في الاستحواذ والبحث عن الجاه والنفوذ، تجعلهم يبتعدون عن الاستشارة أو السعي لبناء النظام الاستشاري.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع: (انّ المستبد يجلب الكره لنفسه ويفوّت على عمله مصالح كان يستفيد منها إن استشار الناس، فأي تأخر أكبر من هذا التأخر).
كذلك من المرجّح أن بعض السياسيين لا يعرفون أنهم بهروبهم عن الاستشارة، ومحاربتهم للنظام الاستشاري، يعملون ضد أنفسهم ومستقبلهم السياسي، بالإضافة الى حرمان المجتمع من بناء النظام المتحرر، من هنا نلاحظ أن الامام الشيرازي يؤكد على: (أن المستبد يُسيء إلى نفسه وإلى عمله قبل الإضرار بالآخرين، من حيث يزعم أنه يحسن إليهما، وهي حالة في النفس قبل أن تكون مظهراً خارجياً، لذا فمن اللازم أن يعتاد الإنسان الاستشارية في كل صغيرة وكبيرة حتى تكون ملكة له).
مآرب فردية وحزبية ضيقة
هناك حكام بطبيعتهم، يكرهون المنهج الاستشاري في ادارة الحكم، وتلبية لتكوينهم النفسي، يرغبون بقهر الناس وتحقيرهم واستعبادهم، إنها نزعة مريضة تتواجد لدى الطغاة والسياسيين الذين يؤثرون أنفسهم على الأمة، لذلك يهدف هؤلاء الى تحقيق مآرب ومنافع فردية او فئوية او حزبية ضيقة الآفاق، ويرى في الاستشارة، منهجا مضادا له، فيقصي الآراء والافكار الاخرى، بسبب سعيه الى الاستئثار بالمزايا التي يتيحها له المنصب او السلطة ومزاياها التي غالبا ما تكون على حساب الشعب.
علما أن الامام الشيرازي عايش مثل هؤلاء الساسة الرافضين للمنهج الاستشاري، وقد أشار سماحته الى ذلك عندما قال: (إنّ جملة من حكّام المسلمين اعتادوا الاستبداد والاثرة، وهضم حقوق الآخرين، وسجن الناس، وتسفيرهم وتعذيبهم، والتكلم مع الناس باستعلاء وغرور).
وهكذا ليس ثمة طريق آخر لتحقيق مآرب الحكومات الفاشلة سوى الاستبداد والقهر والظلم وحرمان الفقراء من أبسط حقوقهم لإضعافهم وإذلالهم حتى لا يفكرون بحقوقهم وحرياتهم التي تهدد سلطة الحكومات الفاشلة، لذلك يقارع هؤلاء الساسة الفاشلون المنهج الاستشاري، فيبدأ الصراع بين الحكومة والشعب الذي يكون ضحية للحكومة المستبدة، حيث يتعرض المعارضون الى شتى انواع التعذيب والقتل والتشريد وما شابه.
كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي: إن (جملة من حكومات بلاد الإسلام تكون سَـبُعاً ضارياً على شعوبها، كما وصف أمير المؤمنين عليه السلام وقال: ولا تكن سبعاً ضارياً).
أما الإجابة عن السؤال حول الأسباب التي تقف وراء تحول بعض القادة السياسيين الى معاداة المنهج الاستشاري (الديمقراطي)، ويفضلون القمع على تحقيق اهداف الشعب في التحرر والتطور والازدهار، فإن السبب الأول هو ضيق الافق الفكري والانساني الذي يطغي على قادة الحكومات الفاشلة، فبدلا من اعتماد النظام الاستشاري الذي وضع الاسلام أسسه السليمة، والذي يخدم الطرفين الحاكم والمحكوم بصورة عادلة ومتساوية، نلاحظ أن بعض القادة السياسيين في مجتمعاتنا يعتمدون القمع والاستبداد طريقا لبناء سلطتهم الزائلة وليس دولتهم الدائمة!.
اضف تعليق