تبحث الأمم والشعوب الحية عن عوامل مبتكرة تساعدها على التقدم دائما، وتبذل كل ما في وسعها كي تلج بوابات التطور وتفتح أمامها آفاق لا حدود لها، من خلال انتهاز الفرص المتاحة التي تساعدها في تنشيط المشاريع التنموية وتسرع في انجازها، وتنقلها من المجتمعات الاستهلاكية، الى المنتجة، وعندما يتحقق هذا الشرط أو هذه النتيجة، فإن الفقر يغدو في خبر كان، والبطالة تغلق أبوابها، وتُبنى الدولة على أسس اقتصادية معاصرة.
في مؤلَّفاته التي قاربت او فاقت الألف، يحث الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، على أهمية الابتكار في مضاعفة الموارد التي تجعل التنمية الاقتصادية تحت اليد، ولذلك قدم سماحته للمعنيين من أصحاب القرار في الدول الإسلامية، الكثير من المقترحات والحلول العلمية والعملية، ولم يكتف سماحته عند هذا الحد، بل أسهم في تطبيق هذه الأفكار عمليا، عندما قام سماحته بالتوجيه والإشراف على انجاز مئات المؤسسات التي أسهمت في تنشيط الاقتصاد من خلا أعمالها المختلفة.
وغالبا ما كان سماحته يوجّه بانتهاز حلول شهر المحرم، وذكرى عاشوراء، من اجل تنشيط المشاريع الاقتصادية، وتحريك الأعمال والمشاريع التنموية او تأسيسها، للاستفادة من هذه الذكرى، وتأثيرها الكبير على المسلمين كي يكونوا اكثر استعدادا لتقديم الأموال التي تساعد المعنيين من المسؤولين على تنشيط المشاريع التنموية المختلفة.
فمن النصائح والأقوال التي نجدها في كتاب (الاستفادة من عاشوراء)، للامام الشيرازي نقرأ حول هذا الموضوع ما يلي: (يمكن الاستفادة من ذكرى كربلاء في تحسين الشؤون الاقتصادية للمسلمين فإنّ: (من لا معاش له لا معاد له) والاقتصاد الناجح إنّما يكون بالاكتساب والاستثمار والزراعة والتجارة والصناعة، فمن الضروري أن يحرَّض الناس على الاكتساب ويشجعوا على النشاط والهمّة والتوسع في الأعمال، وهذا يؤدي الى تقليل نسبة البطالة بين صفوف المسلمين وغيرهم).
ومن الظواهر المؤسفة التي رصدها الإمام الشيرازي في المجتمع الاسلامي، محاولات التشبّه بالغرب اقتصاديا، من خلال وضع الاموال في البنوك ومن ثم العيش على الفوائد (الربوية)، وهو اسلوب غربي سائد في الثقافة الغربية، انتقل للأسف الى المسلمين، مما يشكل ظاهرة خطيرة على الاقتصاد، ينبغي الوقوف ضدها ومنعها من الانتشار، كونها تسهم في البطالة وزيادة الاستهلاك، كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع: (إن التمسّك بالثقافة الاقتصادية الغربية بخصوص وضع الأموال في البنوك والعيش على فوائدها الربوية ـ كما يصنعه البعض في بلاد الإسلام ـ فذلك يزيد من البطالة ويسبّب نقل الناس من قطاع الإنتاج إلى قطاع الإستهلاك).
من مهام المجالس الحسينية
لم يقتصر دور المنبر الحسيني والخطيب الحسيني على الجانب الوعظي، أو التربوي والديني والعقائدي والاخلاقي، بل اشتهر كثير من الخطباء بعلميتهم، وتطرقهم الى مختلف العلوم والمجالات، إذ لابد أن يتصدى المجلس الحسيني لمهمة تنشيط الجانب التنموي للاقتصاد في الدول الاسلامية، ولذلك كان ولا يزال للمجلس الحسيني دور مهم وكبير في نشر ثقافة اقتصادية تساعد بقوة على تحقيق قفزة في المشاريع التنموية بالدول والمجتمعات الاسلامية، ولذلك نلاحظ أن الخطيب المتنوع أو ما يسمى بالموسوعي، والباحث عن العلم بصورة دائمة، غالبا ما يشبع مجلسه بالأفكار الاقتصادية والعلمية البنّاءة.
وغالبا ما يرافق هذا الابتكار والوعي في الافكار، حملات فكرية أخلاقية مناهضة للانحراف بأنواعه كافة، إذ ما فائدة الوعي الاقتصادي في مجتمع غير محصّن أخلاقيا ودينيا وتربويا، لذا فإن المهمة الاقتصادية التي ينهض بها المجلس الحسيني، ينبغي أن ترافقها في نفس الوقت مهمة الارتقاء بالمبدأ والعقيدة والاخلاق.
يقول الامام الشيرازي في كتابه القيّم الذي يحمل عنوان (الاستفادة من عاشوراء) حول هذا الجانب: (للمجالس الحسينية مهام عديدة فهي تعمل على تقويم الانحراف وهداية الناس إلى الحياة السليمة.
ومن الفعاليات الاقتصادية المهمة التي ينبغي التخطيط لها في شهري محرم وصفر، هي انتهاز الفرصة لجمع التبرعات والمساعدات المالية والعينية التي تعين الفقراء والمعوزين على مواجهة ظروف الحياة الصعبة التي يواجهونها لأسباب وظروف خارجة عن قدراتهم، على أن تكون هناك مشاريع ومبادرات اقتصادية مدروسة تسهم في وضع الحلول التي ترتقي بأوضاعهم ودخلهم المادي، فضلا عن الارتقاء بمستوى وعيهم وثقافتهم، لكي يسهم ذلك في تقليل نسبة الفقر في البلدان الدول الاسلامية الى أدنى حد ممكن.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع: (من المناسبات المهمّة التي يتوجه فيها الناس إلى الله ولنجاة عباد الله الفقراء والمساكين، شهر محرّم وصفر، لذلك يجب استثمار هذا الموسم لجمع التبرّعات للمنكوبين والفقراء والمعوزين من المسلمين وغير المسلمين).
استثمار التبرعات والخمس والزكاة
إن الفقر الذي يعاني منه المسلمون، ليس لأنهم لا يمتلكون الثروات والأموال، بل يكمن السبب في انتشار الفقر بينهم، في قادتهم وحكوماتهم وأنظمتهم السياسية التي غالبا ما تهمل الشعب، وتفرط بثرواته للأجنبي مقابل بقائها في السلطة، وهو عيب سياسي ومرض لازم حكام المسلمين عقودا بل قرونا متعاقبة.
ومع ذلك ورد في الشريعة ما يحفظ ماء وجه المسلمين، من خلال نظام تكافلي تعاوني منتظم ودقيق وواضح، ولا يجهد أحدا، ألا وهو نظام الخمس والزكاة، فهو نظام دقيق وسهل التطبيق، يسهم بصورة فعالة في تحسين الواقع الحياتي لفقراء المسلمين، لذلك تأتي ذكرى عاشوراء كفرصة لمضاعفة جمع هذه التبرعات الشرعية.
كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي بكتابه نفسه: (ينبغي استثمار هذا الموسم لجمع الحقوق الشرعية من خمس وزكاة لصرفها في مواردها، من تقوية الحوزات العلمية والمؤسّسات الإسلامية ومن الضروري على الخطباء والمبلّغين تحريض الناس بالوصيّة بـ (الثلث) للأمور الخيرية والمؤسسات الإسلامية ثقافية كانت أو صحية أو مهنية أو غيرها).
وفي الحقيقة لا يكفي أن نبادر في مضاعفة التبرعات فقط، وانما هناك خطوة لاحقة تضاهي أهمية توفير الأموال والتبرعات لدعم الفقراء، وهي تتعلق بالكيفية التي يتم فيها صرف هذه الاموال، فهي ينبغي أن تخضع لقانون (الأهم ثم المهم)، بمعني يجب أن يتم صرف هذه المبالغ، على مشاريع تخضع أولوية الإنجاز فيها الى (الأهم) أولا، ومن ثم يأتي دور المهم في التنفيذ.
وعلى المعنيين بمضاعفة المشاريع الاقتصادية لانتشال المسلمين من الفقر، أن يضعوا في حساباتهم، تقديم المشاريع طويلة الأمد او ما يطلق عليها بالإستراتيجية، فمثل هذه المشاريع تسهم بصورة كبيرة في القضاء على الفقر، مع اهمية مراعاة الاحتياجات الآنية بطبيعة الحال، كما نلاحظ ذلك في قول الامام الشيرازي:
(من الأمور المهمّة التي يجب ملاحظتها في صرف التبرّعات قانون: (الأهمّ والمهمّ / والحسن والأحسن) فمثلاً جمع التبرّعات للفقراء والمحتاجين، قد يعطى بصورة نقدية آنيّة، وقد يعطى نماؤه بعد أن يوضع رأس المال في المضاربة أو يشترى برأس المال الأملاك للانتفاع من إيجارها أو يستأجر للفقراء منازل ليسكنوا فيها أو يشترى لهم دور توقف لسكناهم ماداموا فقراء ولا شك أن الثاني بأقسامه ـ إن أمكن ـ أفضل من الأول، وجاء في المثل: إعطِ لإنسان ثمن سمكة تشبعه يوماً، وإعطه شبكة صيد تشبعه عمراً).
اضف تعليق