إن مهمة عقول الريادة المستقبلية فكّ رموز المستقبل، وجعل الناس يميزون بين القادم الصالح والطالح، والخطر والأخطر، بين الجيد والرديء، وتحويل الجيد إلى أجود، أو تلافي الأخطار، أو تحديد وتحجيم آثارها، إضافة إلى ذلك فإنها تمنح الناس مفاهيم جديدة ومفيدة، تساعدهم على التعامل مع عالم سريع ومتطور...
(على الإنسان أن يكون سعيه منصباً لمعرفة آفاق المستقبل والأهداف الكبيرة،
وليس الأهداف الصغيرة التافهة) الإمام الشيرازي
يؤشّر علماء النفس ظاهرة واضحة قوامها الخوف من المستقبل، موجودة عند الناس بمستويات متفاوتة، أحيانا يكون مستواها عاليا أو متوسطا أو قليلا، فلماذا يخاف الإنسان من المستقبل، ما هي الأسباب التي تقف وراء ذلك؟، وما الخطوات اللازمة لمعالجة هذه المشكلة التي تجعل من حياة الناس غير مستقرة؟
إن الخوف من المستقبل يتحدد في علاقة طردية مع قلة الوعي والمعرفة، بمعنى كلما قلَّت معرفة الإنسان ووعيه، زادت مخاوفه من المستقبل، فلا يستوي هنا الإنسان العارف المتعلم مع الإنسان الجاهل الذي لم تتوفر له فرصة التعليم أو أنه تقاعس في البحث عنه، ولم يعلّم نفسه سواء بطريقة ذاتية أي بجهدهِ الشخصي، ولا عن طريق ما توفره الحكومة ومؤسساتها التعليمية من فرص للتعليم والتوعية العلمية أو غيرها، ولكن من المسؤول عن تعليم الناس؟
فهناك الكثير من الناس في مجتمعاتنا لا يزالوا يعانون من الأميًّة بحيث معظمهم لا يقرأ ولا يكتب الحروف الهجائية، في حين وصلت نسبة الأمية الإلكترونية في كثير من البلدان إلى الصفر، بمعنى أن الجميع يكتب اللغة العادية ويتقن التعامل الإلكتروني في المنصات المختلفة قراءة وكتابة، لهذا فإن الخوف من المستقبل يكون حاضرا مع الجهل وقلة التعليم، وهذا يعني أن الطبقة المتعلّمة يجب أن تنقل علمها للناس حتى يغادروا خوفهم.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، ترك لنا مؤلَّفا في غاية الأهمية عنوانه (فقه المستقبل)، له علاقة ماسّة مع المستقبل ويبحث في أسراره، حيث يقول الإمام في كتابه هذا:
(إن مسؤولية الطبقة الرائدة في المجتمع هي توعية الناس، وفتح عيونهم لحقائق المستقبل؛ لأنهم بذلك سيمنحونها الثقة وسيصنعون فيها العزيمة، والاستعداد لخوض غمار الصراع المرير مع تحديات المستقبل. وستكون الثقة والطمأنينة والسكينة بديلاً عن الخوف، والفزع وتوتر الأعصاب التي يعيشها كل إنسان يجهل مستقبله).
إذن في حال فهم الإنسان المستقبل، سوف يبتعد عن الخوف، وتقلّ نسبته عنده، وهذه في الحقيقة مهمة العقول الريادية التي يمكنها أن توضح للناس ما هو الصالح والطالح في القادم من الحياة، كذلك يمكنها أن تعمل على تحويل الرديء إلى جيد، بعد أن تفهم وتكتسب الخبرات التعليمية والعملية التي تجعلها قادرة على استقراء المستقبل انطلاقا من الحاضر.
عدم الاستسلام للعوائق والعقبات
كذلك تتصدى العقول الريادية لمهمة تعليم الناس بالقدرة على التغيير، ومجاراة ما يحدث في العالم من تغيير سريع، فيتعلمون المسميات والمصطلحات والمفاهيم والأفكار الجديدة، بحيث يمكنهم السير في مسافة واحدة مع التجديد الحالي والمستقبلي، ولا تكون هناك مسافة بعيدة بينها وبين المجتمعات الأخرى.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن مهمة عقول الريادة المستقبلية فكّ رموز المستقبل، وجعل الناس يميزون بين القادم الصالح والطالح، والخطر والأخطر، بين الجيد والرديء، وتحويل الجيد إلى أجود، أو تلافي الأخطار، أو تحديد وتحجيم آثارها، إضافة إلى ذلك فإنها تمنح الناس مفاهيم جديدة ومفيدة، تساعدهم على التعامل مع عالم سريع ومتطور).
وهناك بعض القضايا يجب أن يؤمن بها الناس، فالمستقبل ليس ثابتا أو غير قابل للتغيير، بل العكس هو الصحيح، وهناك بدائل وحلول لا حصر لها، لكن المطلوب من الإنسان أن لا يعجز أو يتوقف أو يستسلم للمشكلات والمصاعب التي تقف حجر عثرة في طريقه، خاصة إذا كان يمتلك الإصرار على التعلّم وكسب القدرات والخبرات.
بحيث يمكنه التعامل مع المفردات المجهولة للمستقبل من خلال إتقان طريقة الاستقراء بعد الدخول في محاولات جادة وطويلة ومتكررة لقراءة المستقبل وأسراره وصوره المختلفة، بحيث يكون الإنسان قادرا على فهم مفردات المستقبل ويتعامل معها بالطريقة الصحيحة ويختار منها ما يناسبه ويضع أقدامه على الجادة الصواب.
هذا ما يؤكده الإمام الشيرازي في قول:
(إن المستقبل ـ عادة ـ ليس ثابتاً، ولا هو نهائي الشكل لا يمكن تغييره، بل هو مُشتمل على مجموعة من البدائل التي يضعها الإنسان أمامه، والتي يستطيع أن ينفذ إلى مفرداتها، فيختار ما يراه صالحاً منها).
ولا شك بأن التمرّن والتعلّم واكتساب الأفكار الجديدة، ومحاولات التعلّم غير المحدودة، تفتح للإنسان آفاق التراكم الخبروي، فيحصل على المعلومات المستقبلية التي تجعله يقرأ المستقبل وكأنه يعيش فيه، فيرى تفاصيله، ولا يفاجئه شيء مستقبلي غامض، أو صدمة لا يمكنه مواجهتها، بل سوف يتعلّم جيدا التعامل الصحيح مع مفردات المستقبل.
وهكذا يكون هذا الإنسان فاهما متعلّما بشكل جيد، وواعيا لما يدور حوله، ولما يمضي إليه، حيث تكون أبواب المستقبل مفتوحة له، فلا يشعر بصدمة مستقبلية صارمة، باعتباره قرأ مفردات المستقبل بصورة مسبقة وفهمها وتوقّع حدوثها، فلا يكون عرضة للمفاجئة، وهذا ما يبعد عنه الشعور بالخوف لأنه فهم ما كان يجهله في المستقبل.
حيث يقول الإمام الشيرازي موضّحًا هذه النقطة:
(التغيرات الصغيرة التي حولنا تصبح بمرور الزمان كبيرة، حالها حال الأمطار التي تبدأ بقطرات، ثم تصبح جداول، وتنتهي إلى سيل عارم، وبذلك الاختيار يصبح الفرد مُصاناً، ومحصناً لا تزلزله صدمة المستقبل، ولا تثنيه متغيراته).
خطوات لبلوغ الأهداف المستقبلية
إن تحقيق النتائج المستقبلية الجيدة، تحتاج إلى مثابرة، وتقديم الجهود التي تضمن للإنسان وصوله إلى ما يريد ويخطط له، وفي أي مجال يرغب النجاح فيه، ففي مجال الدين يمكن أن يدرس ويتعلم ويصل إلى ما يريد، وفي المجالات الأخرى أيضا، ولكن عليه أن يكون مستعدا لبذل المزيد من الجهود، لاسيما ما يتعلق في قراءة المستقبل.
ولكن في كل الأحوال يمكن للإنسان بلوغ الأهداف المستقبلية التي يرسمها بشرط أن يسير إليها وفق تخطيط سليم، يقرأ المعوقات جيدا، ويخطط لتجاوزها بنجاح، ولا توقفه المشكلات والمفاجآت التي قد تعترض طريقه هنا أو هناك. وكما يقول الإمام الشيرازي:
(وهكذا بالنسبة إلى من يتعلم العلوم الدينية حتى يصبح فقيهاً أو مُدرّساً أو كاتباً أو خطيباً، فإنه يتعب ويسهر ويكدّ ويجتهد، وأحياناً يجهد نفسه خمسين سنة فيما لو طلب المرجعية. وهكذا المُزارع يتعب ويجهد نفسه مدة طويلة أو قصيرة بانتظار الثمار، كذلك على العقلاء أن يفكروا و يخططوا لمستقبل أممهم وشعوبهم القريب المدى والمتوسط والبعيد).
إن مصاعب الحاضر متشعبة جدا، وهي في الغالب تجعل الإنسان في حالة مواجهة مع الخوف من الفشل، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمستقبل وما يخفي في طياته للإنسان، لذا يجب التفكير بالمستقبل بجدية تامة، أما النتائج فهي تأتي دائما بحسب ما يقدمه الإنسان من مقدمات حيث تأتي النتائج متوافقة مع حجم وطبيعة هذه المقدمات.
ولعلنا نتفق على أن الطالب الذي يخطط أن يكون طبيبا، عليه أن يعد نفسه لهذا الهدف، وفي هذه الحالة فإن أبواب المستقبل سوف تنفتح له، وأن الخوف من المجهول لن يكون عائقا أمامه، لأن التعلّم والوعي لا يسمح للخوف من المستقبل أن يكون حاضرا في العقول الريادية المتميزة.
لهذا يقول الإمام الشيرازي:
(الخلاصة: إن العقلاء كافة بحكم العقل لابدّ أن يفكروا بالمستقبل، فكما أن طلاب الطب والهندسة والتكنولوجيا وغيرهم، يواظبون على الدراسة ست سنوات أو أكثر حتى يصلوا لأهدافهم، والتي منها خدمة الناس، والسعة في الرزق، والراحة في العمل، هذا ما ينبغي أن يقوم به العقلاء).
وهكذا علينا أن نتعامل مع المستقبل على أنه شيء طبيعي غير مجهول، وعلينا أيضا أن نواجه أسراره كلها، ولا نسمح للخوف أن يتسلل إلى قلوبنها أو نفوسنا، فنحن على استعداد دائم كي نتعلم الجديد، ونواكب جميع ما يستجد في ساحة الحاضر لكي نفهم المستقبل ونقرأه جيدا، وبالتالي لن يكون هناك مكانا للخوف بيننا، بل سوف تُفتَح بوابات الولوج نحو آفاق المستقبل المضيء.
اضف تعليق