المستقرئ لمؤلفات السيد الشيرازي يجد فيها تماسكًا ملحوظًا، يكشف عن عقيدة فكرية إسلامية رسالية ناضجة؛ هي رسالته في هذه الحياة، وهدفه وغايته في هذا الوجود، وقد طرح هذه العقيدة، أو حاول أن يصدح بها، في كل إنتاجاته العلمية، ومن يستقرئ هذه المؤلفات تتضح له ملامح هذه العقيدة التي يؤصّلها...
بقلم: د. محمود طرّادة
لكي يفي الباحثُ بمتطلبات هذا العنوان التأبيني، لا بدّ له من استقراء النتاج العلمي الكامل –أو على الأقل الغالب– للفقيد المحتفى به، حتى تأتي دراسته رصينة صادقة، غير أن كاتب هذه السطور لم يقم بذلك، إذا ما قيس عدد المصادر التي رجع إليها بعدد ما هو متوفر فعلًا من مؤلفات ومراجع، فالاكتفاء ببضع عشرات من الكتب -كما تمّ- لا يفي العنوان حقّه، بل يظل مجرد إثارات حول عنوان التأبين.
المستقرئ لمؤلفات السيد الشيرازي يجد فيها تماسكًا ملحوظًا، يكشف عن عقيدة فكرية إسلامية رسالية ناضجة؛ هي رسالته في هذه الحياة، وهدفه وغايته في هذا الوجود، وقد طرح هذه العقيدة، أو حاول أن يصدح بها، في كل إنتاجاته العلمية، ومن يستقرئ هذه المؤلفات تتضح له ملامح هذه العقيدة التي يؤصّلها تأصيلًا إسلاميًا، اعتمادًا على القرآن الكريم والروايات المعصومية، بحيث يُرجِع هذه العقيدة إلى أصولها وما استندت عليه من مصادر شرعية، وسوف تخرج – بعد استقرائك لهذه المؤلفات – بحقلٍ معجمي يضم مفاهيم مثل: الشورى، اللاعنف، الثقافة، الوعي، التعددية، الوحدة الإسلامية، وغيرها من المفاهيم التي تدور حول، أو تشكل فلكًا لعقيدته الإسلامية.
هذه العقيدة التي كانت تحرّكه، ويحرّك بها الآخرين، هدفت إلى طرح "صياغة جديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام"، وسعت إلى "الإصلاح"، ونشر "الفضيلة الإسلامية" و"اللاعنف"، وبيان "طريق النجاة"، والسير نحو "يقظة إسلامية"، و"ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين"، وقد كانت هذه العناوين وغيرها، ليست مجرّد شعارات، بل عناوين لمؤلفات كتبها بروحه وقلمه، عبّر من خلالها عن رؤيته، ورسّخ بها معالم مشروعه الفكري الرسالي، مع ما تتصف به مؤلفات السيد الشيرازي من:
- الحداثة والجِدّة، واستباق شطرٍ من الزمن؛ إذ يطرح قضايا وأفكارًا، ثم يتبين بعد مرور الوقت أن المجتمع كان وما زال بحاجة ماسّة إليها.
- التكامل بين التنظير والتطبيق، حيث تتعانق في مؤلفاته الرؤية الفكرية مع البعد العملي.
- إشاعة جوٍّ إيماني وثقافي، وخلق وهجٍ روحيٍّ، يتجلّى في روح كتاباته وأهدافه.
- التفرد والتميّز، وربما يصل في بعض المواضع إلى الإبداع والابتكار؛ كما يظهر في مؤلفات مثل: "فقه المرور"، "فقه النظافة"، "فقه العولمة"، "فقه البيئة"، "حقوق الحيوان وأحكامه"، وغيرها من الكتب التي تناولت قضايا معاصرة مثل السجين، والأقمار الصناعية، وتحديد النسل، بل وحتى كيفية استيعاب الحج لعشرة أو خمسين مليون حاج.
ويثير البعضُ مزاعمَ مجحفة عند رؤيتهم لعالِمٍ غزير العطاء، لا تخلو من التناقض؛ فإن لم يؤلّف، قالوا: لا قلم له، ولا علم عنده، وإن أكثر من التأليف، قالوا: إنتاجه بلا عمق! وهذه النظرة كثيرًا ما تعكس حالة سلبية أو ضيق الأفق، كما قال الله تعالى: "إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ" (آل عمران:120)، وكذلك قوله تعالى: "إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَّهُمْ فَرِحُونَ" (التوبة: 50).
وعلى فرض ذلك، أليس في مجرد نقل العلم، ونشر مفاهيم الفضيلة، وإحياء فكر أهل البيت عليهم السلام، مساهمة في خلق جو إيماني وثقافي يغزو كل بيت؟ حتى لو كان مجرد ناقلٍ للعلم، فإنه ينقل محاسن حديثهم عليهم أفضل الصلاة والسلام، وهو بذلك يشارك في أداء رسالة عظيمة، لذلك، لا يجوز التقليل من دور الآخرين أو إنكار إنجازاتهم، وكأنّ الإنجاز محصور في شخصٍ دون غيره، في حين أن كل إنجازٍ يبقى مهدّدًا ما لم يُقرَن بالإخلاص لله سبحانه وتعالى.
ما هي حقوق الناس من فكر السيد الشيرازي رحمه الله؟
تلك كانت مقدمة للحديث عن حقوق الناس وقضاء حوائجهم، فملف حقوق الناس ملف ضخم، وقد أصّل لهذه الحقوق في كتابه "هل للشعوب قيمة؟" على سبيل المثال لا الحصر، كما أصّل لقضاء حوائج الناس في كتابه "السبيل إلى إنهاض المسلمين"، وكتاب "السنن والآداب" الجزء الرابع من موسوعة الفقه، و"الفضيلة الإسلامية"، على سبيل المثال لا الحصر أيضًا.
أبرز حقوق الناس كما يظهر لمستقرئ مؤلفاته: حق العيش بسلام وعدل ومساواة، مكرمًا مصانًا، معانًا محترمًا في عقيدته ورأيه، محفوظًا في ماله ونفسه، حق الحصول على مقومات الحياة المادية والفكرية والعقدية، حق التعلم والعمل والحرية، وكل حق يتولد منه واجبات عديدة، كأن يُستشار ويستشير.
وفي سبيل انفعال هذا التنظير خارجًا، نطرح العديد من المنطلقات والمبادئ التي يجب التمسك بها، والأخذ بها، والاستعانة بها، والسير عليها، وهي:
أولًا: نشر الوعي الإسلامي والتثقيف واسع النطاق، مثل الوعي العقائدي، الاقتصادي، السياسي، الزراعي، الصناعي، بعد إزالة الحواجز النفسية، وصولًا إلى حد الرشد الفكري، اشتقاقًا من الآية: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ)، كل في مجاله: جهادًا، قلمًا، وعطاءً، إلى أن يتصف بالوصف التالي: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، ويقارن رحمه الله بين جهود المسلمين وجهود غيرهم، فبينما ترجم القرآن الكريم إلى 230 لغة، فإن "الكتاب الأحمر" لماو تسي تونغ له أكثر من 400 ترجمة، كذلك، يدعو إلى إعادة صياغة الذهنية الإسلامية باستخدام استراتيجيتَي الهدم والبناء، حيث يرى أن الوعي هو أول مقدمات التغيير.
ثانيًا: التنظيم، فهو بحد ذاته قوة، وأما بدونه فهناك ضياع وضعف، وقد أصّل له من خلال قوله تعالى: (مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ)، وقول الأمير عليه السلام: "ونظم أمركم"، وقول الزهراء عليها السلام في خطبتها: "وجعل.. طاعتنا نظامًا للملّة"، التنظيم الاستشاري، لا الاستبدادي. التنظيم التوعوي، والتنظيم الحديدي لا الصمني، والتنظيم الجماهيري الذي هو التحام الجماهير والمؤسسات، وكلها مفردات أكد عليها بتفصيل.
ثالثًا: التحلي بالآداب والأخلاقيات الرفيعة، مثل التعاون ونبذ الخلافات، الاستقامة، النزاهة، الصبر، التواضع، إتقان العمل، الشجاعة في الإقدام، انتهاز الفرص، الاعتراف بالخطأ، حفظ الأصدقاء، النظر من الزوايا الإيجابية، العفو، استيعاب الجميع، و"الإخلاص"، ومن ضمنها قضاء حوائج الإخوان، التي هي سبيل استقطاب الجماهير ورضاهم، وللسيد الشيرازي تعليق لطيف على رواية الصادق عليه السلام: "ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله له يوم القيامة مائة ألف حاجة من ذلك أولها الجنة"، حيث إن الإنسان في الجنة أبدي ونعمها لا تُحصى، ومن جهة أخرى حذر السيد الشيرازي من ثالوث التأخر: الغرور، العنف، وعدم منطق اليوم، والأخيرة مصادقها قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ)، وهو القائل: "إن كل من يلتزم بقانون السلم واللاعنف، لا مندوحة له إلا أن ينتصر في الحياة" (الشيرازي في كتابه "اللاعنف في الإسلام").
رابعًا: العمل الدائب الذي لا يعرف الكسل والملل، ولذلك، تصف فاطمة الزهراء عليها السلام الإمام علي عليه السلام قائلة: "مَكْدُودًا في ذاتِ اللّهِ، مُجْتَهِدًا في أمْرِ اللّهِ، قَرِيبًا مِنْ رَسُولِ اللّهِ سِيِّدَ أُوْلِياءِ اللّهِ، مُشْمِّرًا نَاصِحًا، مُجِدًّا كَادِحًا، وَأَنْتُمْ فِي رَفَاهِيَةٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَادِعُونَ فَاكِهُونَ آمِنُونَ"، مع عدم الاكتراث بالمثبطين، والهمة الرفيعة، وهو متوافق مع قول الإمام علي عليه السلام: "يطير المرءُ بهمته كما يطير الطائر بجناحيه".
خامسًا: التأهيل الذاتي؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يتقدَّم في مضمار الحياة دون امتلاك المؤهلات اللازمة، ويُضمُّ ذلك ملاحظة الكفاءات؛ فمن حق الإنسان أن تُلاحَظ كفاءته وتُوظَّف في المكان المناسب، ومن جهة أخرى أيضًا تحقيق الاكتفاء الذاتي.
سادسًا: تعظيم الشعائر؛ فقد جاء في "تقريب القرآن إلى الأذهان" في تفسير قوله تعالى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) أن الشعائر جمع شعيرة، وهي في الأصل الشيء الملاصق للبدن، والمراد بها هنا: الأمور المرتبطة بالله تعالى، وهو معنى عام يشمل كل ما ثبت بدليل خاص كالمناسك في الحج، أو بدليل عام، والمراد بـ"تعظيم الشعائر" هو التعظيم الناتج عن الملابسة –مجازًا– إذ تُنسب الشعائر إلى الله تعالى لعظيم شأنها، أما إضافة التقوى إلى القلوب، فذلك لأن حقيقتها فيها، وإن كان أثرها يظهر على الجوارح، فالتعظيم الحقيقي لا ينشأ إلا من تقوى القلب، أما ما يظهر على صورة التعظيم دون أن ينبع من تقوى، كالتقليد ونحوه، فلا يُعد تعظيمًا على الحقيقة، وقد أكّد رحمه الله على أهمية شعائر الله وعلامات الدين، كالصلاة والصيام والحج وغيرها، وكذلك تأكيده على أهمية الشعائر الحسينية التي كلّفته الكثير.
سابعًا: التمسّك بهدي العلماء؛ لأن "العلماء أسوة وقدوة"، ويُسترشد بهم في فهم الدين وسلوك طريق الاستقامة، وقد جاء في الدعاء المأثور: "سيّدي، لعلّك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحّيتني، أو لعلّك رأيتني مستخفًّا بحقّك فأقصيتني، أو لعلّك رأيتني معرضًا عنك فقلّيتني، أو لعلّك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو لعلّك رأيتني غير شاكرٍ لنعمائك فحرمتني، أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلّك رأيتني في الغافلين، فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلفَ مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني، أو لعلّك لم تُحب أن تسمع دعائي فباعدتني، أو لعلّك بجرمي وجريرتي كافأتني، أو لعلّك بقلّة حيائي منك جازيتني".
والمتأمل في هذا الدعاء يدرك كيف أن الإمام المعصوم عليه السلام قرن الغياب عن مجالس العلماء بذنوب عظيمة، وجعله في مصافّ الجحود، والكذب، والغفلة، ومجالسة البطّالين، حتى إنه اعتبره سببًا يُفضي إلى الحرمان والإقصاء، ما يدل على المكانة الرفيعة لهذه المجالس، وأثرها البالغ في تزكية النفس وتثبيت الإيمان، وأن ملازمة العلماء ليست مجرد تبعية، بل هي تمسّك بمنهج الهداية، واستضاءة بنور العلم والعمل.
ثامنًا: تربية الأجيال على السيادة؛ أي توجيههم نحو التميّز والانتشار في مختلف التخصصات، والسعي لبلوغ أعلى الدرجات العلمية، بل وتحفيزهم على المنافسة للحصول على الجوائز العالمية، ولا سيما في مجالات الفكر والكتابة والتدوين، فهي من ميادين التأثير الخالد، وقد كان السيّد الشيرازي أول من جسّد ما كان يدعو إليه، فهو صاحب فكرة تأليف "ثلاثة مليارات من الكتب"، ولم يكتف بالدعوة إليها، بل ساهم في العمل ضمن هذا المشروع العملاق، مستلهمًا رؤيته من عالم الأرقام وإمكاناته اللامحدودة.
تاسعًا: عندما ينشب خلاف، اجتهد لتحري الحقيقة "لكيلا تنازعوا"، إذا تم التمسك بالآراء فلا داعي للعداء، وإن ظهر العداء، فليكن ضمن حد معقول. وإذا تجاوز العداء الحد المعقول، فليكن من طرف واحد، وليعلم الآخر أن الشخص قد كظم نفسه ومجموعته.
عاشرًا: "اليقظة الكاملة" في جميع المجالات، والدائمة طوال الوقت، مع استثمار جميع الوسائل، كما جاء في كتاب نحو "يقظة إسلامية"، حيث دعا إلى الرؤية الكاملة، والاستراتيجية الواضحة، والتكتيك المتكامل، وتحمل المكاره والمصائب، مع الجمع بين اللين والحزم.
اضف تعليق