يجب أن يكون اللاعنف الذي يقترحه الإمام الشيرازي ويشجع عليه، هو الهمّ الأول للدولة، والسياسة الأهم لإدارة شؤون الدلة والناس، نزولا عند الفرد، فالإنسان باعتباره كيانا مستقلا وذاتا متفرّدة لها حدودها وخصوصيتها، هي أيضا مطلوب منها أن تعتمد اللاعنف أسلوبا لمواصلة مجريات الحياة...

حلم يمتد في عمق التاريخ، حلم راود الإنسان في اللحظات الأولى لوجوده، فحوى هذا الحلم أن يعمّ السلام العالم، وتعيش البشرية في حالة من الوئام الراسخ، بعيدا عن كل أشكال العنف، ليس العنف المادي وحده، ليس العنف الذي يؤذي الجسد وأعضاءَه كالجذع والأطراف وسواها، وإنما كل أنواع العنف الأخرى مثل العنف اللفظي، والعنف النفسي.

كتب المفكرون والفلاسفة كثيرا من الأفكار والأطروحات والمشاريع التي تهدف إلى وضع حد للشراسة البشرية وهي تكتسح الأرض، وغاص العلماء الإيجابيون في بطون الفلسفة والفكر والأديان، وقدموا مقترحاتهم ورؤاهم ونصائحهم إلى قادة الدول العظمى، وإلى صنّاع السلم والحرب، ومن بين هؤلاء الكبار في فكرهم الإنساني المتوقد شخص الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله).

فقد خصص الإمام الشيرازي الكثير من وقته ومن فكره ومن نشاطاته وركزها على فكرة (اللاعنف)، وقدم في هذا المفهوم نظرية كاملة، طرحها على الملأ، علماء ومفكرين ونقاد ومختصين، وكان ولا يزال الهدف من هذه النظرية نشر اللاعنف كأسلوب حياة، لا يتعلق بالدول وحدها، ولا الأمم وحدها، وإنما يشمل الجميع من دون استثناء.

الأسرة يجب أن تعتمد اللاعنف في إدارة حياتها ونشاطاتها وعلاقاتها داخل الأسرة وخارجها، ومثلها بالضبط الدولة، يجب أن يكون اللاعنف الذي يقترحه الإمام الشيرازي ويشجع عليه، هو الهمّ الأول للدولة، والسياسة الأهم لإدارة شؤون الدلة والناس، نزولا عند الفرد، فالإنسان باعتباره كيانا مستقلا وذاتا متفرّدة لها حدودها وخصوصيتها، هي أيضا مطلوب منها أن تعتمد اللاعنف أسلوبا لمواصلة مجريات الحياة.

الترابط التام بين الاستشارة واللاعنف 

ركز الإمام الشيرازي في نظريته هذه على جوانب عديدة وأساسية، وربط بين اللاعنف والاستشارة، والابتعاد الكلّي عن الإكراه، فأينما يوجد اللاعنف كأسلوب إدارة وحياة، يجب أن يكون هناك أسلوب رديف هو الاستشارة، والتشجيع على مبدأ الشورى واعتماده لتصميم السلطة وهرمها الإداري الحاكم، بالإضافة إلى أهمية انتشار هذا الأسلوب في جميع مرافق الحياة، وليس اقتصاره على السلطة السياسية وحدها.

فمبدأ الشورى والانتخاب يجب أن يكون لصيقا باللاعنف، لأن الأخير لا يمكن ترسيخه ونشره بين الدول وأنظمتها السياسية إلا عبر الربط بين اللاعنف والاستشارة، كذلك يجب أن تتحول قضية الانتخاب إلى منهج حياة شاملة، بمعنى لا يمكن لمؤسسة إدارية أو منظمة أو كيان يحتاج إلى ترتيب إداري متدرّج لا يمكن له أن يتخلى عن منهج الانتخاب.

في الجامعة مثلا يجب أن تكون هناك انتخابات لاختيار القيادات، وفي المدرسة كذلك، حتى يتعلم الطلبة في سن مبكر على ممارسة الانتخاب كطريقة لتنظيم السلطة، وإحقاق الحق، وفقا لما يختاره الناس (الناخبون)، وهذا ما يدعو إليه الإمام الشيرازي لكي يتم تثبيت أركان اللاعنف في المجتمع من النواحي السياسية والإدارية والاجتماعية.

يقترح الإمام الشيرازي في نظرية اللاعنف أن لا تكون هناك قطيعة بين المختلفين، وأن يكون الحوار هو الوسيلة الأولى والأهم والوحيدة لحل المشكلات والنزاعات والاختلافات سواء بين الدول أو الشعوب، والجماعات، وحتى بين الأفراد، يجب أن يكون الحوار هو الوسيلة الأولى والأهم لاحتواء النزاعات بجميع أشكالها، وهذا هو الركن الأهم من أركان نظرية اللاعنف للإمام الشيرازي، كذلك يقترح عدم إجبار الطرف الآخر على تغيير موقفه بالقوة، وإنما يجب أن يتم توضيح الاختلاف عبر وسائل الحوار لا غير.

الإقناع قبل التنمّر والإجبار

ويرى الإمام الشيرازي أن أية محاولة لإجبار الطرف المختلف على تغيير أفكاره هي نوع من أنواع العنف ضده، لذلك هو حر في أن يبقى على أفكاره، ولكن يحق لك أن توضح له رأيك المختلف بعيدا عن استعمال القوة أو الإكراه للقبول به أو فرضه عليه، ويرى الإمام الشيرازي في هذه الطريقة السلمية تثبيتا لمنهج ونظرية اللاعنف، وأن أية محاولة لإجبار الإنسان على تغيير ما يؤمن به بالقوة، هو عنف غير مقبول ضده.

وقد أكد الإمام الشيرازي على أهمية نشر اللاعنف على المستوى التثقيفي أولا، يرافق مثل هذه الحملات التثقيف على منهج الاستشارة والانتخاب، وزرع هذه الثقافة عند الأطفال بدءًا من مرحلة الابتدائية صعودا إلى المراحل الأخرى، فيشب الطالب على مثل هذا المنهج التحرري، ممثلا في حرية الاختيار والانتخاب، وينمو معه هذا المنهج بعد أن ينتقل إلى الجامعة، ومن ثم إلى مؤسسات الدولة الأخرى.

هذان القطبان، اللاعنف والاستشارة، يشكلان دعامتين أساسيتين لصنع المجتمع الخالي من العنف، حيث يتعلم الناس أسلوب الانتخاب في اختيار الرؤساء والقادة والحكام، وحتى اختيار المدراء يمكن أن يتم عبر أسلوب الانتخاب، علما أن هذه الطريقة وهذا المنهج يخلّص الدولة والمجتمع من مشكلة الصراع على السلطة، وهي المشكلة التي غالبا ما تكون مصدر وبؤرة النزاعات فيما بين المختلفين والمتصارعين.

ينصح الإمام الشيرازي دائما بتجنب الغلظة، والقسوة، والغضب، والميل الدائم نحو الصفح واللين، واعتماد العفو في الاختلافات الجماعية والفردية أيضا والأسرية، هذه الصفات تتناقض مع اللاعنف، وتعمل بالضد منه، وبالتالي تضاعف من فرص النزاعات والمشاكل والاختلافات، لهذا يجب التخلي عن حالات الشد والإصرار والتمسك بالموقف الحاد، والعودة دائما إلى فطرة وطبيعة الخلق الإنساني التي تأخذ بيده نحو السلم والسلام.

وختاما ونحن نعيش ذكرى الإمام الشيرازي السنوية الجديدة، فإن علينا أن نستذكر هذه النظرية العظيمة (نظرية اللاعنف) التي تقترح حلولا كبيرة وكثيرة لمعالجة المشكلات العالمية التي يعيشها العالم (المتنمّر على نفسه) اليوم، ولابد أن نفهم بأن ما تركه لنا الإمام الشيرازي من إرث فكري متنوع وغني وميسور وفعال، يمكن أن يجد فيه المعنيون والمسؤولون تلك الحلول والمقترحات الصائبة التي يمكن أن تجعل من صورة العالم وجوهره أفضل وأجمل.

اضف تعليق