إسلاميات - الإمام الشيرازي

نظرة في الصفات الشخصية للإمام علي عليه السلام

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

تميَّز الإمام علي عليه السلام (بخطبه ورواياته ورسائله الشريفة الدالة على مدى علمه والذي لم يرد مثلها أصلاً عند بقية المسلمين ولا أحد من الصحابة، وهذا (نهج البلاغة) خير دليل على ما نقول، وكذلك إخباره عن شتى العلوم والحقائق بل والغيبيات بإذن الله تعالى...

(جُمِعت في شخصية أمير المؤمنين عليه السلام صفات لم تُجمع في أحد قبله ولا بعده)

الإمام الشيرازي

كثيرة هي الأقلام المتميزة التي انشغلت في صفات وشخصية الإمام علي عليه السلام، وكثيرة جدا تلك الكتب والمجلدات التي أبحرت في سيرته، ومخرت عباب بحوره العلمية والدينية والأدبية والسياسية، ولا يزال باب الحاضر وبوابات المستقبل مفتوحة على مصاريعها لكي تنهل من هذا المنهل الذي قلَّ أو انعدمَ نظيره، لما له من خصوصية في الصفات والشخصية ومعالمها التي تؤكد تفرّد الإمام واختلافه وتميزه عن سواه في جوانب عديدة.

شخصية الإمام علي تتجمع فيها الأضداد، وهذا أمر نادر جدا في الكينونة البشرية، ولكن من أعظم ما تحقق في سِفر الإمام إنه جمع بين الصفات التي لا يمكن جمعها في قلب واحد وروح واحدة، ولكن الإمام جمع مثلا في شخصيته الشجاعة بأعلى درجاتها والرأفة بأعمق مستوياتها، فكيف تم مثل هذا الاجتماع الذي يكاد أن يكون مستحيلا؟، إنها روح العدل التي تشبَّع بها، ونهل منها وتربى عليها، وانغرست في روحه كأنها جزءا من كينونته وشخصيته.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول في كتابه القيِّم الموسوم بـ (المعصومون الأربعة عشر عليهم السلام/ حياة المعصوم الثالث):

(قدّم الإمام (صلوات الله عليه) صوراً نادرة في العدالة تفتخر البشرية حتى اليوم بها وفي مجال الحريات لم يشهد التاريخ عهداً أعطيت فيه الحريات وتنعّم الناس فيه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، كما شهده في عهد أمير المؤمنين عليه السلام، حيث أتاح الحريات في شتى الجوانب ولمختلف الناس حتى لأكبر معارضيه، وقدم للعالم الصورة الناصعة عن الحريات الإسلامية الأصيلة).

ومن صفاته التي ميَّزت شخصيته عن الآخرين، ذلك المنجَز الخطابي العلمي الكبير، يتقدمه ذلك المؤلَّف العظيم (نهج البلاغة) بمضمونه المتفرد الذي يضم خيرة الخطب والروايات التي لم تتكرر على مر التاريخ، وهذا يؤكد علمية الإمام علي عليه السلام، حيث يصفه معلّمه رسول الله صلى الله عليه وآله بأنه أعلم الناس طرّأ.

التصدي لتيارات التشويه والانحراف

هذه الشهادة العظيمة وحدها تكفي لكي تكرّس المكانة العظمى التي تحتلها شخصية الإمام علي عليه السلام، بالإضافة إلى الأدلة والشواهد التي يمكن أن نستقيها من سيرته سواء تلك السنوات الأربع التي استغرقها حكمه الخاطف، أو رحلته الشاقة والمليئة بالمخاطر لكي يُسهم في الدفاع عن الإسلام والمسلمين ويتحقق النصر الخالد على جميع المناهضين.

ولا ننسى أن الصفة العلمية جعلت شخصية الإمام علي في الصف المتقدم ومن المتصدرين لترسيخ العقائد والأحكام الإسلامية، والتصدي لتيارات الانحراف والتشويه التي كان مصدرها المنحرفون المتطرفون في عقائدهم، حيث حاولوا طمس القيم الإسلامية وتشويه التعاليم الإسلامية التي نشرتها الرسالة النبوية، ولهذا كانت علمية الإمام بالمرصاد لهؤلاء البغاة الذي يخشون العلم، ويسعون لتدمير الإسلام، لذا أوقفهم الإمام عند حدّهم بالعلم قبل سواه.  

يقول الإمام الشيرازي:

(كان أمير المؤمنين عليه السلام أعلم الناس وأفقههم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والشواهد على ذلك كثيرة تفوق الإحصاء، منها: تصريح النبي صلى الله عليه وآله بأعلميّته على الأمة حيث قال: أعلمكم علي. وقال أيضا: علي أعلمكم علماً وأقدمكم سلماً).

وفي الحقيقة تبقى علمية الإمام علي هي العلامة الفارقة التي تميزّه عن غيره، وتميّز شخصيته أيضا عبر التاريخ الإسلامي، عن الكثير ممن سعى في البحث والغوص في العلوم، لكنه ما قدمه الإمام فاق الكثير ممن أنجزوا وقدموا، وهذا التفوق له أسبابه الكثيرة والكبيرة.

فالإمام علي عليه السلام تعلّم ونهل علميته من النبي صلى الله عليه وآله، وهذا دليل عظيم على تميز الشخصية العلمية للإمام، وعندما يقول الرسول: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)، فماذا يعني هذا القول العظيم؟، فمن لا يدخل مدينة العلم من بابها سوف يبقى خارج أسوارها ولا يحصل على شيء من العلوم التي تضج فيها مدرسة الرسول صلى الله عليه وآله.

وأيضا تعلّم الإمام من معلّمه الأول رسول الله صلى الله عليه وآله، ما لم يحصل عليه بشر على الإطلاق، وهو عالم الغيب الذي لا يمكن للبشر العادي أن يخترق أسواره، وهناك أيضا بعض الحقائق التي من المحال الحصول أو الوصول إليها، تمكن الإمام من الوصول إليها عبر علاقته الروحية والعقائدية والدينية وحتى العلمية مع رسول الله صلى الله عليه وآله.

ولهذا عكف الإمام علي سنوات متواصلة يبحث في علمية اللغة وتأثيرها ومعانيها، وما تقدمه الآداب من مضامين وثقافات وأفكار يمكن أن تغيّر وعي الناس وعقلياتهم وتأخذ بأيديهم نحو جادة الصواب، فجاء خطبه ورواياته وكتاباته عبارة عن مصابيح لغوية لا تنطفي، تحمل مضامينها الفكرية عاليا، وتقدمها لكل من يجنح نحو التفوق والعلمية العالية  

لذلك تميَّز الإمام علي عليه السلام (بخطبه ورواياته ورسائله الشريفة الدالة على مدى علمه والذي لم يرد مثلها أصلاً عند بقية المسلمين ولا أحد من الصحابة، وهذا (نهج البلاغة) خير دليل على ما نقول، وكذلك إخباره عن شتى العلوم والحقائق بل والغيبيات بإذن الله تعالى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حقه: أنا مدينة العلم وعلي بابها) كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي.

الشخصية التي جُمِعتْ فيها الأضداد

ومن الصفات العظيمة في شخصية الإمام علي الزهد وهو من الملَكات التي لازمت شخصية الإمام علي عليه السلام، لدرجة أنه أصبح مضربا للأمثال في مجال الزهد ونبذ الدنيا ومغرياتها، فهو الذي دخل (بيت السلطة) بجلبابه الذي لم يفارق جسده إلا نادرا، وجعل من الناس عليه شهودا في حال تغيّرت أحواله المادية نحو الأفضل، واكتنز الأموال وسواها.

لقد جعل من الأمة (حكَما) عليه إذا تغيّرت أحواله وأوضاعه عند خروجه من السلطة، وبالفعل عندما غادر خرج بذلك الجلباب الذي دخل فيه للسلطة، على العكس من حكام ومسؤولي وقادة المسلمين في البلدان الإسلامية، فما أن يحصل على منصب حتى يجعل منه منجما للسرقة والانتفاع له أولا ولأولاده وأقاربه والمقربين منه، بينما تُضرب كل القوانين والأحكام والأعراف والقيم عرض الحائط من قبل هؤلاء الفاشلين. 

يقول الإمام الشيرازي: لقد (قضى أمير المؤمنين عليه السلام حياته كلها في الزهد والعزوف عن ملذّات الدنيا والانشغال بالآخرة حتى صار زهده مضرباً للأمثال، ولا يكاد أحد أيّاً كان أن ينكر زهد الإمام علي عليه السلام سواء أيام حكومته أم قبلها).

ولا ننسى أن الصفات المتضادة كلها تواجدت في شخصية الإمام علي عليه السلام، مما أثار إعجاب الكثير من الشخصيات الأدبية والفكرية المعتبرة، فوجدت في ذلك نوعا من التميز ونموذجا فكريا وأدبيا فاعلا ومؤثرا ومفيدا للقادمين، ومضربا للأمثال، ومنهم الشعراء المعروفين في تاريخ الأدب العربي الذين كتبوا أجمل القصائد والمطوّلات في حق سيد البلغاء، وكاتب أعظم الكتب البلاغية في تاريخ العربية ألا وهو (نهج البلاغة).

لهذا يقول الإمام الشيرازي:

(جُمِعت في شخصية أمير المؤمنين عليه السلام صفات لم تُجمع في أحد قبله ولا بعده، وقد جمعت فيه عليه السلام الأضداد من المكارم، وإلى ذلك يشير صفي الدين الحلّي:

جُمِعَت في صفاتك الأضداد ..... فلهذا عزت لك الأنداد

زاهد حاكم حليم شجاع ......... ناسك فاتك فقير جواد

شيم ما جمعن في بشر قط ..... ولا حاز مثلهن العباد

خلق يخجل النسيم من اللطف...وبأس يذوب منه الجماد

جل معناك أن يحيط به الشعر وتحصي صفاته النقاد).

هذه نظرة سريعة حاولنا فيها أن نستجلي جانبا لا غير، من شخصية الإمام علي عليه السلام، فهذه الإطلالة ليست سوى ومضة خاطفة، حاولنا من خلالها أن نطالع شيئا من هذه الشخصية الخالدة التي لا تتكرر، لاسيما ونحن نعيش في هذه الأيام ذكرى استشهاده (عليه السلام)، سائلين المولى عز وجل أن يجعلنا من ذوي الشخصيات المحبّبة إليه. 

اضف تعليق