في البحث عن النجاح والتفوق في الحياة، لا تغفل الشعوب والأمم عن هذه الركائز الثلاث، وعوامل اخرى تساعدها في طيّ مراحل التقدم نحو اهدافها السامية، بل ان البحث عن المال والعلم والحكم من بديهيات الفطرة الانسانية، وقد اشار القرآن الكريم الى هذه الحقيقة التكوينية، فقد جاء في آيات عدّة إشارة الى تعلّق الانسان بالمال، والرغبة في التسيّد والحكم، وايضاً حبه للإطلاع والمعرفة والخروج من ظلام الجهل والتخلف.
وقد ذهبت بعض الشعوب الطامحة مشاوير بعيدة بحثاً عن الحياة الأفضل، وهي تتعكز على إحدى هذه العوامل او اثنين منها، او اتخاذ واحدة في مرحلة، والاخرى في مرحلة لاحقة. والنتيجة أنها حصلت على الثمار المتمخضة من استثمار المال، او استثمار العلم، وكذلك القيادة والحكم، فمن المال أقيمت المشاريع العملاقة والمصانع الضخمة، وبالعلم نرى ونلمس التطورات الصاروخية في مجالات شتى، مثل الطب والاتصالات والطرق وغيرها، أما عن القيادة والحكم، فهذه الديمقراطية أمامنا بتجاربها الناجحة والفاشلة في العالم، حيث قدمت المدرسة الفكرية الغربية نموذجاً للمشاركة الجماهيرية في الحكم والإدارة.
فاذا كان العالم قد توصل الى هكذا نجاحات باهرة من وراء هذه الركائز، فما الذي يجعله يئن ويشكو بصوت عالٍ وبالارقام، من انحرافات في السلوك الانساني وحروب كارثية وانتشار الأوبئة الفتاكة...؟
سماحة المرجع الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "السبيل لإنهاض المسلمين"، يدلنا، ليس فقط على هذا المثلث الحضاري، إنما يدعونا كما يدعو العالم الى التكاملية في هذه العوامل والركائز الثلاث، فلابد من وجودها معاً، فهو يمثلها بـ "الماء والهواء والنور"، بمعنى؛ لا يستغني لإنسان عن أحد هذه العناصر الحياتية بأي حال من الاحوال. وهذا ما يتعلق بحياة الانسان الفرد، فما بالنا اذا كانت القضية متعلقة بمصير شعب بأكمله وأمة مترامية الاطراف؟
بالنسبة للقيادة، وهي من المفاهيم الجوهرية في المدارس الفكرية بالعالم، كتب وبحث ونظّر فيها الكثير، على أمل أن تتبلور فكرة عملية ناجحة يعتمد عليها الانسان، الفرد المجتمع ويطمئن اليها في حاضره ومستقبله، ففي الوقت الحاضر، نلاحظ في العالم بأسره، تجارب "الديمقراطية"، بيد أن نسب التطبيق الصحيح هي التي تميّز هذه الدولة عن تلك، وترفع هذه عن الاخرى في صدقية العمل بهذا المفهوم والنظرية، ففي كل بلد، مهما أدّعى وقال، نسبة معينة من الديكتاتورية والتسيّد بغير وجه حق على الجماهير، وهذا ما نلاحظه حتى في الولايات المتحدة، التي تدّعي أنها راعية "الديمقراطية" في العالم. أما عن الدول في العالم الثالث وفي البلاد الاسلامية، فان الديكتاتورية تمثل السمّة الاولى للحكم فيها.
من هنا؛ نجد سماحته يدعو للبحث عن علل نشوء الديكتاتورية والاستبداد، وذلك في كثرة المؤسسات الحكومية والعدد الهائل من الموظفين غير العاملين، وحزم القوانين غير الضرورية والمقيدة للحريات. فالدوائر الحكومية "كما نعلم – يقول سماحته- تكبت حركة الانسان وحريته، كما يجب ان تكون القوانين بالقدر المضطر إليه، فانه كلما كثرت القوانين حدّ من نشاط الانسان وتقدمه. فاللازم ان تكون القوانين والدوائر بالقدر الضروري لحفظ العدالة والنظام والتقدم...". فهذا هو الهدف المفترض من الطموح الى القيادة والحكم، لدى أي سياسي، سواءً كان مستقلاً أو يعمل ضمن تنظيم سياسي.
ولعل هذا يفسّر لنا سر اعتماد الأنظمة الديكتاتورية على الحالة "البيروقراطية" وتشكيل جيوش من الموظفين بدرجات مختلفة ومسمّيات عديدة، بحيث يشهد الناس أنماط وأحجام من الديكتاتورية في قالب أشخاص خلف الطاولات تارةً بمسمّى "المعاون" أو "المدير" أو "مسؤول القسم" و... هكذا، بل حتى الموظف البسيط، نلاحظه في بعض الاحيان يقتمّص شخصية الحاكم المطلق، صاحب الكلمة التي يفترض ان تسود ويلتزم بها المراجعون والناس.
أما المال، وهو العنصر المثير الآخر في حياة الشعوب والأمم، فانه الضالة الكبرى في تحديد المصائر وكيفية حياة الانسان. وقد كتب العلماء والمفكرون عن مسألة الاستئثار بالمال والثروة من قبل افراد او شركات او مجموعات وحتى عوائل صغيرة في مقابل جموع العاطلين عن العمل والباحثين عن لقمة العيش وفرصة العيش الكريم.
وقد كتب سماحته في هذا الموضوع كثيراً، وفي سياق حديثه عن تطبيق فكرة "النظام الاسلامي" في الكتاب المشار اليه، يدعو سماحته الى أن يكون أي انسان، قادراً على الحصول على المال حسب قدراته وكفاءاته، لا أن يكون المال حكراً على فئة او شخص معين، حتى وإن لم يكن مؤهلاً لذلك، كما نلاحظ ذلك بالأسرة الملكية وأبناء الوزراء والرؤساء في الانظمة الجمهورية. وهذا ما لا نشهده بالشكل الكامل والصحيح في أي بلد بالعالم، حتى البلاد الرأسمالية المدعية الديمقراطية، فان فرص الحصول على المال ليست متساوية، وهذا يصدق على القيادة والعلم ايضاً. فليس أي شخص بامكانه الدخول الى الجامعات ومواصلة الدراسة الاكاديمية، كما ليس بوسع أي شخص خوض الانتخابات البرلمانية او الرئاسية، حتى في اميركا واوربا، إذ نلاحظ إنفاق ملايين الدولارات من هذا الثري وذاك التاجر على الحملات الانتخابية لشراء الاصوات وخلق الأجواء الدعائية.
من هنا؛ نجد أن الحالة التكاملية بين هذه العناصر هي ضالة الشعوب – بالحقيقة- والامام الشيرازي يؤشر الى الحل في "الإسلام فانه يوفر الاجواء الصالحة للنمو الممكن لكل افراد المجتمع، علماً ومالاً وحكماً...". كما هي ضالة شعوب تعاني الأمرين؛ وجود المال والثروة والعلم والقيادة، وايضاً من مساوئ كل هذه العناصر الثلاث...! مثل العراق؛ فلديه الثروة الهائلة كما يمتلك العقول وايضاً القادة السياسيين، لكن المشكلة في افتراق كل عنصر وركيزة عن الاخرى. فتارةً نلاحظ البحث عن القيادة، في فترة الانتخابات وحسب، ثم تأتي فترة الحديث الساخن عن المال والموازنة وعائدات النفط والتعويضات والامتيازات و.... وربما يكون الحديث عن العلم والتقدم والتطور أشبه بالمنسي، وإن جرى الحديث عنه فانه بين جدار صالات الاجتماعات والمؤتمرات، حيث الكلام والكلام وحسب...
اضف تعليق