إسلاميات - الإمام الشيرازي

الأديان والحضارات ومهمة تهذيب الإنسان

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

يحتاج عالمنا اليوم، خلق نوع شديد من التوازن بين المادي والمعنوي والفكري، ويجب عدم تبنّي المادي وحده، لأن الأمور سوف تؤول إلى حالة من الاختلال العالمي لا ينجو منه أحد حتى أصحاب النظرية المادية والمروجون لها، يجب الانتباه الشديد إلى صنع معادلة عالمية تقوم على التوازن بين نمو العالم ماديا ونموه عقليا وروحيا وفكريا...

(كلما تقدم الإنسان في الحضارات المادية، تعدَّدتْ أهدافه واستولى على الطبيعة وأفسدها)

الإمام الشيرازي

عندما نتأمل في كلمة (حضارة أو دين)، ونبحث في معناها وغايتها، فإننا نستشف من مفردة (الحضارة) فعل التحضّر ونستكشف صفة الإنسان الحضاري، وهي صفة تمنح البشر رفعةً في السلوك والتعامل مع الآخرين ومع ذاته أيضا، ولهذا يوصَف مثل هذا الإنسان بالمتحضّر، ولا يختلف ذلك كثيرا عندما نُجري نفس البحث في كلمة (دِين)، حيث يهدف إلى تهذيب الإنسان، ويجعل منه كائنا خلوقًا مهذبًا في تعاملاته كلَّها.

ولكن هنالك تجارب في الحضارة والدين أخفقت في انتشال الإنسان من حالته الدونيّة، فبقي مجردًا من الأخلاق، وخاليا من الإنسانية، ومثيرا للنزاعات، مما يجعل قضية التعايش في مأزق، ويهدد السلم الأهلي ويجعل هدف السلم والسلام بعيد المنال، ولكن لابد من أن نؤكد على أن هناك تجربتين في التاريخ الإسلامي تؤكد أن صنع الإنسان المتحضر حصل بالفعل.

هاتان التجربتان تتجسدان في حكومتيّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والإمام علي عليه السلام، حيث العدالة الاجتماعية بلغت أعلى درجاتها، وحماية الحقوق، وإنصاف الناس وضمان حقوقهم، هذه كلها دلائل عن صنع المجتمع المتحضر، ونجاح الإسلام في النهوض بعقلية الإنسان وسلوكه، ولكن ليست الحضارات كلها ناجحة، ولا الأديان تساوت في جهودها ومساعيها في تهذيب الإنسان.  

لذلك يتساءل الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) قائلا: (هل استطاعت الحضارات والأديان من تهذيب الإنسان؟) كما ورد ذلك في كتابه القيِّم (الفقه: السلم والسلام الجزء الثاني).

ثم يضيف الإمام: (إن الهدف الذي يتوخاه الإسلام ويسعى إليه هو تهذيب الإنسان وتمكينه من العيش في هذه الحياة الأولى والحياة الآخرة بأمن وسلام، وقد تحقق ذلك فترة حكومة القوانين الإسلامية التي طبقها رسول اللـه صلى الله عليه وآله، والإمام أمير المؤمنين عليه السلام).

الإخفاق في بناء المجتمع المتحضّر

ومن الملاحظات التي أفرزتها المتابعات التاريخية المختصة، أن جميع الحضارات أخفقت في بناء المجتمع العالمي المتحضّر، بل صفحات التاريخ غالبا ما تتحول إلى شاشات عملاقة في صفحات السجلات لتعرض علينا مجازر البشرية كلها، وتلك الحروب التي حُزَّتْ فيها مئات الملايين من الرقاب بسبب التطرف والكراهية ونبذ الآخر.

وهذا لوحده دليل على فشل تلك الحضارات الغربية أو سواها، في السابق، وفي الحاضر أيضا، ليست هناك حضارة تمكنت من تأمين العيش الكريم للناس مع حفظ الحقوق، واعتماد القيم التي دونها التاريخ عن حكومتي الرسول والإمام عليه (صلوات الله عليهما)، لذا نلاحظ أن الجهود التي بُذلت في هذا المجال لم تصل بالبشرية إلى تثبيت ركائز العدل والسلم.

يقول الإمام الشيرازي:

(كذلك سائر الحضارات والأديان تدّعي ذلك وتسعى إلى العيش بسلام، ولكن لم تصقل سلوك الإنسان وتروض حاجاته ولم تهذب طبيعته تهذيباً كاملاً حتى في عصرنا الحاضر، ولم تستطع تحقيق أسباب السلام لـه على هذه الأرض).

بالطبع هنالك أسباب تقف وراء فشل هذه الجهود لتهذيب النفوس والعقول والقلوب أيضا، وقد تم تشخيصها بشكل علمي واضح، وأكبر الأسباب وأشدها تأثيرا ذلك التقدم المادي الهائل الذي أحرزته الحضارة في العصر الحالي، وهذا يؤدي إلى تراكم الثروات، وتزايد طموح الإنسان نحو الاستحواذ، فتنتعش فيه نزعة الامتلاك والاستهلاك معا.

هذا الطموح المتزايد والاستحواذ المتنامي حرك في داخل الإنسان نزعة الاستيلاء على الموارد الطبيعية بمختلف أنواعها وكمياتها، فراح الإنسان الذي صنعته المادية الغربية يغوص أكثر فأكثر في إفساد الطبيعة والعبث بالموارد، وتكريس الاكتشافات المتطورة لصالح التطور المادي في مختلف المجالات، مثل مضاعفة موارد الطاقة وتكنولوجيا المعلومات والعمران في قضية تشييد الأبراج وناطحات السحاب، وفي الطرق والجسور العملاقة ووسائط النقل الضخمة، وتكوين الشركات العابرة للقارات والمتعددة الجنسيات.

هذا النمو المادي الصاعق جعل الإنسان يستهلك أكثر مما يحتاج، ويتنكر للقضايا الروحية ويهمل الجوانب المعنوية ويغرق يوما بعد آخر في الأوحال المادية الاستهلاكية، فأخذ إنسان الحضارة الراهنة يطلب أكثر مما يحتاج بكثير، مما أدى إلى تنوع الصراعات والصدامات واستفحالها. 

ويشير الإمام الشيرازي إلى هذه الأسباب في قوله: 

(كلما تقدم الإنسان في الحضارات المادية وزادت معارفه، تعددت أهدافه واستولى على الطبيعة وأفسدها أكثر فأكثر، وزاد حرصه وتشعبت مسالك هذا الطموح، ولذا يطلب الإنسان أكثر من القدر المحتاج إليه، حيث قال سبحانه: الّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدّدَهُ)، سورة الهمزة، الآية 2.

ومما لوحظ عن الإنسان المادي أنه يطمح بكل شيء، ولا يكتفي بالحصول على الحاجات الحيوية، بل هو يريد أن يمتلك كل شيء، يريد ما يحتاجه وما لا يحتاجه، وهذا المرض تسببت به الحضارة المادية، التي أهملت التطور الفكري والعقلي والمعنوي للإنسان وركزت على الاشكال البنائية المختلفة، وعلى الصناعات التي تُبهر بصر الإنسان وتجعله ينساق وراء المظاهر ويترك المضامين الداخلية العميقة والمؤثرة.

تنمية العقول وتطييب النفوس

وهذا بالضبط هو السبب الذي جعل الحكام يصِلون في النهاية إلى قمة هرم الطغيان، لأنهم في البداية يطمحون بما يحتاجونه، ولأنهم مغرمون بالقضايا المادية المبهرة، فإنهم يواصلون رغباتهم، ثم تأخذهم نفوسهم نحو الابحار في الملذات، وهكذا تفتح لهم الأشكال المادي أذرعها وتأخذهم في الأحضان فيصبحون طغاة وينتهكون حرمات شعوبهم، وتتشعب لديهم خاصية الشراهة الاستهلاكية المادية القاهرة.

(فالإنسان بالإضافة إلى احتياجاته للشؤون الحيوية، يريد أن يزداد في كل شيء، حتى مما لا يحتاج إليه إطلاقاً، إلى أن يصل مرحلة الطغيان، كما نشاهد ذلك عند غالب الحكام) كما يؤكد الإمام الشيرازي.

ولكن بالنسبة للمبادئ والتعاليم التي حفل بها الإسلام وتضمنتها النصوص القرآنية والروايات والأحاديث الشريفة لأهل البيت عليهم السلام، سعت بقوة إلى تنمية الجانب المعنوي وركزت على النزعة الإنسانية، وتنمية العقل وتطييب النفوس والقلوب، حيث الناس جميعا في المنظور القرآني لا يختلفون عن بعضهم.

العدالة هي التي قام عليها الإسلام، والهدف دائما هو السلام، والتعايش السلمي، وطرد حالات الكراهية، كي يكون المجتمع الإسلامي بل العالمي كله عبارة عن أسرة متحابة متعايشة متعاونة وحافظة للحقوق والحريات بشكل متبادَل.

لذا يقول الإمام الشيرازي:

(أما الإسلام فقد عمل على تهذيب الإنسانية بأكملها، وسموها ورفعتها، ولأجل وصول الإنسان إلى شاطئ الأمان والسلام، لأن الناس في نظر القرآن الكريم والسنة المطهرة أسرة واحدة متعاونة متكاملة، وكلهم أُخوة).

منظومة المبادئ التي حرص الدين على ترسيخها بين الناس، هي نفسها حزمة القيم التي يمكن للناس إذا اعتمدوها في حياتهم وعلاقاتهم، تنتشلهم مما تسببت به الحضارة المادية، كونها غير متوازنة بل هي تكره التوازن، على العكس تماما من الإسلام الذي يحب الحياة، لهذا يقوم على المحبة واللاعنف والصفح ومجموعة من القيم التي تصنع الحياة الآمنة المسالمة، كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي:

(من هذا المنطلق قرر الإسلام مبادئ العدالة والمساواة والإخاء والحرية والأمن والرفاه للجميع. وأكد على ذلك كثيراً، لأنّ الإسلام يحب الحياة ويحرص على الأمن، ويؤكد على السلم والسلام).

الخلاصة يحتاج عالمنا اليوم، خلق نوع شديد من التوازن بين المادي والمعنوي والفكري، ويجب عدم تبنّي المادي وحده، لأن الأمور سوف تؤول إلى حالة من الاختلال العالمي لا ينجو منه أحد حتى أصحاب النظرية المادية والمروجون لها، يجب الانتباه الشديد إلى صنع معادلة عالمية تقوم على التوازن بين نمو العالم ماديا ونموه عقليا وروحيا وفكريا حتى تتخلص البشرية من حالة الاحتقان التي تهدد كل ما بناه الإنسان بالدمار والفناء.

اضف تعليق