النهج العبادي للإمام زين العابدين (ع)

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

غرس الإمام قيمة من القيم العليا في قلوب الناس، عندما علّمهم ودرّبهم على تحطيم الغرور في دواخلهم وأنفسهم، وعلّمهم على أن الأعمال الكبيرة التي يقوم بها الإنسان يجب أن لا تدفع به نحو الغرور، ومنها العمل العبادي المتواصل، فيجب ان لا يُصاب الإنسان بالغرور لأنه يؤدي أعمالا عبادية كبيرة وكثيرة ومتواصلة...

(النهج العبادي الذي خلَّفه الإمام زين العابدين عليه السلام

خير نهج للارتباط بالله عزّ وجلّ) الإمام الشيرازي

يؤكد لنا التاريخ الإسلامي بأن أمة الإسلام مرّت بظروف في غاية الخطورة، سواء في وجود الرسول صلى الله عليه وآله، أو بعد رحيله، وقد تطلب إصلاح الأمة ودرء خطر تلك الظروف القاهرة جهودا عظيمة، تصدى لها ائمة أهل البيت عليهم السلام، ودفعوا عن الأمة اخطارا لا حدود لها، لاسيما في ظل الحكومات القمعية التي عملت على نشر الفساد والظلم.

ومن بين الأئمة المعصومين عليهم السلام، نستقرئ ونستطلع ذلك الدور الجبار الذي قام به الإمام زين العابدين، لكي يحمي الإسلام من قبضة المجون والقهر والفساد، فقام عليه السلام بوضع النهج العبادي الذي سعى من خلاله لحماية العقول والقلوب من الغرق في مستنقعات الانحراف التي أسّست لها ودعمتْها أنظمة الحكم الأموية.

واشتمل هذا النهج العبادي خطوات شكلت خرائط عمل واضحة المعالم، يهتدي بها المسلمون إلى اختيار الطرق والخطوط الصالحة لحفظ الدين، والابتعاد عن الخداع والزيف الذي مارسته الحكومات الاموية القمعية واحدة تلو الاخرى، لهذا تصدى الإمام زين العابدين لجميع الخطط السامة التي استهدف المسلمين ودينهم وإيمانهم، وكان الإمام في وقته مرجعا شاملا للمسلمين يرجعون إليه في كل شيء، وليس في جانب واحد محدّد.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (المعصوم الخامس: الإمام الحسين بن علي عليهما السلام): (لا يمكن حصر دور الإمام عليه السلام في بعد خاص لأنه كان المرجع للمجتمع في جميع أموره).

النشاط العبادي الدؤوب

أما النهج العبادي للإمام السجاد عليه السلام، فقد تضمن عدة خطوات واضحة، ليس فيها غموض أو تعقيد، وما على المسلمين سوى الاطلاع العميق عليها، لكي يفهموها جيدا، ويستوعبوها، ويتعلموها بالصورة الصحيحة والدقيقة، وأول هذه الخطوات (الجدية التامة والنشاط الدؤوب في العبادة، وعدم التراخي في هذا الجانب مطلقا.

فالمسلمون جميعا يجب عليهم مواصلة الأعمال والانشطة العبادية المختلفة، بشكل متواصل وبجدية عالية، من دون ملل او كلل، لأن هذه الجدية دليل على قوة الإيمان والتقوى، وهذا ما أكد عليه الإمام زين العابدين عليه السلام، وطالب الجميع بعدم التساهل في هذه النقطة كونها ركيزة عبادية في غاية الأهمية.

وقد ذكر الإمام الشيرازي حول هذه الخطوة قائلا:

(تميّز الإمام زين العابدين بالجد والنشاط في العبادة والتقرّب إلى الله عزّ وجلّ بالأعمال الصالحة وعدم الاتّكال على الحسب أو النسب. فعن الصادق عليه السلام، قال: كان علي بن الحسين عليه السلام شديد الاجتهاد في العبادة، نهاره صائم وليله قائم).

وفي خطوة أخرى مهمة أيضا، غرس الإمام قيمة من القيم العليا في قلوب الناس، عندما علّمهم ودرّبهم على تحطيم الغرور في دواخلهم وأنفسهم، وعلّمهم على أن الأعمال الكبيرة التي يقوم بها الإنسان يجب أن لا تدفع به نحو الغرور، ومنها العمل العبادي المتواصل، فيجب ان لا يُصاب الإنسان بالغرور لأنه يؤدي أعمالا عبادية كبيرة وكثيرة ومتواصلة.

وقد كرّر الإمام زين العابدين عليه السلام، أما عامة الناس، بأن عبادته لا تصل إلى مستوى عبادة جدّه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، أو جده أمير المؤمنين عليه السلام، وفي هذا التصريح ضربة قوية للنفس وصفعة قوية أيضا للغرور الذي قد يجد له مكانا هنا أو هناك في قلوب ونفوس بعض المسلمين، لكن هذا الأمر غير مقبول عن الإمام وعلّم جميع مريديه وطلبته ومؤيديه على نبذ الغرور كليًّا.

حيث يقول الإمام الشيرازي: 

(كان الإمام السجاد عليه السلام يربّي الناس عملياً على عدم الغرور بالأعمال واستكثارها، لذا كان عليه السلام كثيراً ما يذكر عبادة أجداده الأطهار عليهم السلام ويستصغر عبادته أمامها، ويردّد قائلاً: أين عبادتي من عبادة جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله أو عبادة جدّي أمير المؤمنين عليه السلام).

ومن الخطوات العبادية التي اشتملت عليها خرائط النهج العبادي للإمام زين العابدين، زرع الشعور بالتقصير في نفوس وقلوب المؤمنين بخصوص أداء حق الله تعالى من العبادات، فكلما يقدمهُ الإنسان المؤمن من أنشطة عبادية لله عزوجل، يبقى أقل مما يتطلبه المستوى العبادي بدرجة أعلى واكثر وأعمق وأشمل حين تتعلق بما يقدمه العابد إلى الله تعالى.

العفو والصفح عن الآخرين

هذا ما كان يتميز به الإمام زين العابدين عليه السلام في أدائه للأنشطة العبادية، حيث يدعو المسلمين إلى الشعور بالتقصير في هذا الجانب، حتى يتولد لهم الحافز الكبير والمتواصل لبلوغ الدرجة العبادية التي توازي أو تقترب مما يريده الله تعالى من عباده.

لذا يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة:   

(من صفات عباد الله أنهم يشعرون بتقصيرهم أمام الله وعدم أداء حق الله عزّوجلّ. يقول الزهري: دخلت مع علي بن الحسين عليه السلام على عبد الملك بن مروان، قال: فاستعظم عبد الملك ما رأى من أثر السجود بين عيني علي بن الحسين عليه السلام، إلى أن قال: فقال علي بن الحسين عليه السلام: كلّ ما ذكرته ووصفته من فضل الله سبحانه وتأييده وتوفيقه).

الخطوة الأخرى وهي تتعلق بجانب الأخلاقيات، ويظهر هذا الجانب جليًّا في سيرة الإمام السجاد عليه السلام، فالأخلاق الحسنة هي واحدة من أهم الخطوط التي تخللها النهج العبادي للإمام، بحيث قدّم جهودا تعليمية كبيرة في مجال تعليم المؤيدين والطلبة والأتباع والمقرّبين للقيم الصحيحة، والأخلاق الكريمة التي يجب ان يتحلى بها المؤمن الحقيقي.

كذلك يتضمن النهج العبادي مسألة العفو عن الآخرين الذين يخطئون، والتأكيد على عدم رد الإساءة بمثلها، وذلك ترسيخا لنهج التسامح بين المسلمين، وزيادة في تماسك وصلابة المجتمع الإسلامي، وهذا درس آخر يأتي ضمن النهج العبادي للإمام، وما على المسلمين حاضرا ومستقبلا إلا الالتزام به وتطبيقه أملا بإصلاح أنفسهم وأمتهم ومجتمعهم.  

حيث يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:

(من الأُمور المهمّة التي كانت واضحة في سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام التأكيد على الأخلاقيات، ومنها: العفو عن الآخرين عند إساءتهم، وعدم الردّ بالمثل). 

أيضا من خطوات النهج العبادي (الحلم وكظم الغيظ)، وهي صفة عظيمة من الواجب على المسلمين ان يتحلوا بها، وقد ضمنها الإمام (عليه السلام) في نهجه العبادي، لأن الصفة المهمة التي يجب أن يتحلى بها المؤمن بالإضافة إلى الصفات المهمة الأخرى هي الحلم وكبح جماح العصبية في السلوك أو اللفظ، لأن العابد المؤمن الحقيقي يجب أن يكبح الغضب ويكف عن السلوك المتوحش أو القاسي.

كذلك يجب السيطرة على رد الفعل الغاضب، ومسك الاعصاب، وتحديد ردود الأفعال التي تنتج عن الغضب الفوري أو ردود الأفعال الحادة، وقد ثبّت الإمام زين العابدين هذه الخطوة حتى يتعلم المسلمون كيف يسامحون ويعفون ويصفحون بعضهم عن بعض في سلوك إسلامي إنساني يشمل الجميع وهو أيضا درس بليغ للمسلمين اليوم وغدا، كذلك عليهم رد العمل القبيح بنقيضه، اي بسلوك إنساني جيد.

الإمام الشيرازي أكد على هذه النقطة في قوله:

(كان الإمام زين العابدين عليه السلام، آية في الحلم وكظم الغيظ حتى مع ألد خصومه. فهو من أهل بيت شيمتهم الحلم، وخُلُقهم الصفح، وردّ السيئة بالحسنة).

وبهذا فنحن اليوم أمام نهج عبادي في غاية الوضوح، ويمكن تطبيقه من قبل جميع المسلمين، خصوصا أولئك الذين يعلنون الانتماء إلى مدرسة ومبادئ أهل البيت عليهم السلام، فمن باب أولى عليهم جميعا أن يسيروا في هذا النهج حتى تكون أمتنا أفضل وأقوى وتتماسك أكثر وتقدم الدروس الإنسانية العظيمة للأمم الأخرى، نحن يمكننا أن نفعل ذلك لكن بشرط الالتزام بالنهج العبادي السهل و الواضح والمريح للإمام زين العابدين عليه السلام.

اضف تعليق