تمسَّك المسلمون بالأخلاقيات المثالية، فقد كانت الأخلاقيات النموذجية سائدة سواء فيما بين المسلمين هم، أو حتى مع العدو، أو في أنفسهم، وكان ذلك سببا بدخول الناس في دين الله أفواجاً، فإن الإنسان بطبيعته يلتف حول ذوي الأخلاق الرفيعة، بينما يتبرأ الناس من الذين لا أخلاق لهم...
(العامل الأول للتقدم هو تجنّب الملذّات التي تعيق الانطلاق نحو التقدم)
الإمام الشيرازي
تؤكد سجلات التاريخ على أن هناك مرحلة مشرقة في التاريخ البشري، تمثلت بانتشال الإنسانية من الظلمات إلى النور، والذين قاموا بهذا الجهد العملاق هم المسلمون، فحين انبثقت الخطوة الأولى للرسالة النبوية الإسلامية، كان العالم كله بما فيه الأمم الأقوى آنذاك (الرومانية والفارسية وغيرهما)، يغطّ في سبات عميق، يتراكم عليه الجهل والظلام.
وحين ظهرت أولى بوادر الرسالة الإسلامية، تحول الواقع البشري الخطير إلى النقيض من ذلك، حيث بدأ المسلمون ينشرون العلم، والعدل، والقيم السليمة، وبدأت إشعاعات النور تخترج لجج الظلام، فتنقشع أكداس الجهل عن العقول، وصار العلم والمنافسة على اكتسابه حالة عامة، وصلت إلى الأمم كلها، فانتقل الناس من الجهل إلى العلم.
أما الجهة التي حققت هذا المكسب العظيم، فكانت تتمثل بانبثاق الرسالة النبوية المحمدية، ونشر إشعاعها إلى أقصى أرجاء العالم، وكانت هناك جملة أسباب وعوامل أسهمت بشكل كبير في تمكين المسلمين من انتشال الناس من جهلهم وسباتهم وكسلهم، وفي هذا المقال نحاول أن نلقي الضوء على هذه الأسباب والعوامل المساعِدة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يشير في كتابه القيّم الموسوم بـ (الصياغة الجديدة)، إلى هذه الأسباب والأمور، فيقول:
(هناك جملة من الأمور أدت إلى تقدم المسلمين ذلك التقدم الهائل وإنقاذهم للعالم من براثن الكفر والجهل والمرض والغفلة والفوضى والحروب التي شملت العالم قبل بزوغ الإسلام. ومن إعادة العالم إلى الاستقرار والرفاهية والحرية لابد من تحلّي المسلمين بالصفات التي ذُكرت في القرآن الحكيم في مئات الآيات، وفي السيرة الطاهرة في آلاف الروايات).
أما تفصيل هذه العوامل، فإنها تعود أولا إلى أن المسلمين الأوائل الذين تصدوا للمهام والأهداف الكبيرة، تكروا ملذّات الدنيا وراء ظهورهم، وم يلتفتوا إليها، وكانت هذه هي الخطوة الأهم التي مهدت للمسلمين النجاح في أداء دورهم الإنساني الكبير، الذي تمثل بإنقاذ العالم من واقعه المؤلم آنذاك، فالسبب هو أن المسلم كان يهتم بإنقاذ الناس أكثر من أي شيء آخر.
تداعيات الانشغال المادي على الإنسان
أما بعد أن رحل ذلك الجيل الخالد من المسلمين العظماء، وحلّ محلهم من يهتم بالدنيا وملذاتها، ولا يعنيه شؤون الناس ولا يفكر في إنقاذهم، فإن عجلة التقدم عادت إلى الخلف، وتأخر المسلمون، وخسر العالم فرصة ديمومة موجات التنوير التي بدأ الإسلام بإطلاقها، ونقل العالم والبشرية كلها من الظلمات إلى النور.
الإمام الشيرازي يقول في هذا المنحى:
(العامل الأول للتقدم هو تجنّب الملذّات التي تعيق الانطلاق نحو التقدم، فالمسلم كان يتجنب هذه الملذات، فلا يهتم بالحياة بقدر اهتمامه بإنقاذ الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ونذكر هنا هذه الآية التي وردت في القرآن الحكيم قال سبحانه: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون) (التوبة: 20).
كذلك كان المسلمون متمسكين بأحكام الله، وملتزمين بشكل تام بوضع جميع أعمالهم ضمن الجهاد في سبيل الله، فكان المسلم آنذاك يشدد على إطاعة الله ورسوله، ويرفض بشكل قاطع الانحدار في وحل الملذات الدنيوية البائسة، وهكذا كانت جميع الأعمال وكل ما يصدر من أولئك المسلمين الأفذاذ يراعي الأحكام الشرعية، ويلتزم بمراعاة القبول الإلهي بكل ما يصدر عنهم، لهذا حققوا النجاح الكبير والتميز على الآخرين.
يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة:
(يجب على الإنسان المسلم أن يجاهد في سبيل الله، ولا يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة يلج إليها ويخرج منها، بل لابد أن يكون دخوله وخروجه إلى حكم الله ومن حكم الله سبحانه وتعالى، فأعماله كلها يجب أن تكون حسب القوانين الإسلامية فقط).
والحقيقة لم يكن الإيمان الذي يملأ قلوب أولئك المسلمين شكليا أو ظاهريا، بل هو إيمان حقيقي نابع من فهم وتحليل ومعرفة وإقناع، ومن ثم الإيمان المطلق، لهذا كان الهدف الأهم عند أولئك المسلمين هو هدف الإنقاذ، وهذه المفردة تشمل كل شيء في الحياة، فالمسلم كان يتحلى برغبة حقيقية ومؤمنة كي ينقذ كل من يستحق الإنقاذ.
وفي ذلك الوقت كانت جموع المسلمين تنطلق في جهات الأرض الأربع، لتنشر كلمة الله، وكلمة الحق، وصوت العدالة، ونشر العلم والمعرفة، واكتساح طبقات الجهل بالنور الإسلامي المتوقّد، لتنعم البشرية كلها بالطمأنينة والسلام والأمن القائم على العدالة والمساواة بين بني البشر، هذه الرغبة الصادقة بالإنقاذ هي التي ميزت المسلمين وجعلتهم في صدارة الأمم آنذاك.
لذا يؤكد الإمام الشيرازي على أن المسلمين: (كانت ليهم الرغبة الصادقة في الإنقاذ، فقد كان المسلمون يتحرقون شوقاً لإنقاذ المستضعفين ونشر كلمة الله في الأرض).
الانبعاث الحضاري من جديد
ثم يأتي سبب كبير ومهم أيضا، وهو عامل أسهم بفاعلية كبيرة في نجاح أولئك المسلمين الأفذاذ، وهذا السبب يتعلق بالجانب الأخلاقي، وكيف تمسك به المسلمون، حيث الجميع كان ينظر للمسلمين بعين الاحترام والتقدير، كونهم يتعاملون بقمة الأخلاق، ويرفضون الإساءة للآخرين بشكل قاطع، مما جعلهم محط محبة وترحيب الناس في أي مكان يتواجدون فيه.
وهذا الأمر أدى بالنتيجة إلى دخول الناس في الإسلام في دفعات كبيرة، لأنهم لمسوا لمس اليد والعين ذلك التعامل الأخلاقي الإنساني من المسلمين، وقد ثبت في علم النفس والعلاقات الإنسانية، إن صاحب الأخلاق يكون محبوبا ومقرّبا من الجميع، فالناس تحترم الإنسان الخلوق، وتلتف حوله وتتمسك بمبادئه وتثق به ثقة كبيرة بسبب أخلاقه.
في حين يتهرب الناس من كل إنسان يفتقد للتعامل الأخلاقي مع الآخرين، ولا يتقربون منه، ولا يثقون به، لهذا السبب كان أولئك المسلمون الأفذاذ محط إعجاب واحترام وتأييد وتمسك الناس الآخرين بهم، لأنهم لمسوا فيهم التعامل الأخلاقي الحقيقي.
يقول الإمام الشيرازي:
(تمسَّك المسلمون بالأخلاقيات المثالية، فقد كانت الأخلاقيات النموذجية سائدة سواء فيما بين المسلمين هم، أو حتى مع العدو، أو في أنفسهم، وكان ذلك سببا بدخول الناس في دين الله أفواجاً، فإن الإنسان بطبيعته يلتف حول ذوي الأخلاق الرفيعة، بينما يتبرأ الناس من الذين لا أخلاق لهم بل أن الإنسان يتبرأ من نفسه إذا رأى في ذاته مواصفات سيئة).
ومن العوامل الأساسية لنجاح المسلمين، تقديمهم الأموال والتبرع بشكل واضح لإقامة المشاريع الخيرية المختلفة، وعدم التردد في خذا المجال، حتى أنهم كانوا يعطون نصف ما لديهم من أموال لزيادة المعرفة، وفرص التعليم وتطوير عقول ومعارف الناس، فهذه الاحتياجات تتطلب أموالا كثيرة وكبيرة، لهذا كان يبادر المسلمون إلى تقديم الأموال بلا تردد.
هذه الصفة، ونعني بها تقديم الأموال في سبيل الآخرين، تعتبر من الكرم، والكرم هو الشجاعة، فالمسلمون لم يترددوا في هذا المجال مطلقا، ولكن السؤال المهم ماذا عن المسلمين اليوم، وهل يمتلكون أسباب النجاح نفسها، أم اختلف الأمر؟
الإمام الشيرازي يقول:
(كان المسلمون يقدّمون الأموال في سبيل تقدم الإسلام، حتى أن بعضهم كان يعطي نصف ماله أو أكثر في سبيل تقدم الإسلام والمسلمين، ومن المعلوم أن صفة الكرم والبذل من الصفات التي تؤدي إلى تقدم الأمة إلى الأمام).
هكذا استعرضنا ما طرحه الإمام الشيرازي من عوامل وأسباب، جعلت المسلمين في صدارة الأمم، عندما كانوا يتمتعون بكل هذه الصفات والعوامل، وأمر لا يحتاج إلى نقاش بأن تطور وتقدم المسلمين لكي يصبحوا أمة الصدارة، يفرض عليهم التمسك بالعوامل والأسباب التي ذكرها الإمام، حتى تكون هناك فرصة للانبعاث الحضاري من جديد.
اضف تعليق