نحن لم نسمع بأن الكثرة السكانية في البلاد الإسلامية في الأزمنة السابقة كانت تخلق أزمات أو اختلافات اقتصادية للمجتمع بالرغم من بدائية وسائل العمل والانتاج، بل كان للعامل البشري دوره المهم في تقوية الجوانب المادية والمعنوية لنهوض المجتمع وازدهاره وسيادته...
(للعامل البشري دوره المهم في تقوية الجوانب المادية والمعنوية لنهوض المجتمع)
الإمام الشيرازي
تتعرض الكتلة البشرية الكبيرة التي تكتظ بها بلدان العالم، إلى مشكلات وتداعيات بعضها يلامس مستوى الخطورة، وهذه المشكلات يمكن أن تتسبب في نزاعات وصراعات سياسية واقتصادية بين دول العالم، وكل ذلك تُعزى أسبابه إلى جوانب عديدة منها قضية الاكتظاظ السكاني الذي تعاني منه المناطق الصالحة للسكن البشري من الأرض.
فقد نادى العديد من الساسة والاقتصاديين وحتى بعض الكتاب والمفكرين لاسيما في الغرب، إلى مسألة تحديد النسل، وهي في الواقع فكرة غربية في بداية ظهورها، كما أنها تعاني الكثير من العيوب والنواقص، وأهمها أنها تجافي الطبيعة، والسنن الكونية والدينية التي سعت إلى الحافظ على القوانين التي تنظم الحياة البشرية بشكل طبيعي من دون أن تسمح بتخريب هذه القوانين عبر الأفكار الشاذة والخارجة عن الطبيعة وقوانينها.
وإذا كانت فكرة تحديد النسل في أصلها غربية، فما بل الحكومات والدول الإسلامية تضغط على شعوبها وتطالبها باعتماد مسألة تحديد النسل بحجة وجود الأعباء الاقتصادية الكبير على هذه الحكومات بسبب الزخم السكاني الناتج عن الولادات الجديدة.
وبدلا من الترحيب بكل ولادة إضافية كونها تضيف قوة للمجتمع وللدولة التي تولد فيها، يحاول الحكام السعي إلى عرقلة ظهور هذه الولادات، عبر طرح وتأييد الفكرة الغربية القائلة بضرورة تحديد النسل، حتى يتم معالجة المشكلات التي يعاني منها العالم، متناسين حتما بأن مشكلات العالم سببها السياسات الاقتصادية للقوى الكبرى، ومحاولات تدمير للسنن الكونية.
الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) ناقش هذه الفكرة الغربية المضادة للسنن الطبيعية، وطالب منذ عقود بالعودة إلى فطرة الإنسان واحترام القوانين الإلهية والكونية، حتى لا تتزايد المشكلات التي تحاصر البشرية، بسبب الانفجار السكاني.
يقول الإمام الشيرازي في كتابه القيّم الذي يحمل عنوان (تحديد النسل فكرة غربية):
(حكومات بعض البلدان الإسلامية، بكل أراضيها الشاسعة المتروكة، وبكل مواردها الاقتصادية الضخمة غير المستغلة؛ تطالب شعوبها وباستمرار بتحديد النسل وتحذر من مخاطر الانفجار السكاني والأزمة الغذائية المحلية والعالمية).
وتضيف الحكومات تبريرا وحججا أخرى حيث تلقي اللوم على الوافدين والمهاجرين من الدول الإسلامية الفقيرة إلى الغنية، لكي تجد فيها فرصة للعمل والمعيشة بكرامة، بيْد أن هذه الحكومات ترفض تواجد هؤلاء المسلمين، وتلصق بهم التسبب بمشكلات اقتصادية ومعيشية لأهل البلد، وهذه في منظور الإسلام أمور غير صحيحة، فالمسلم بل وحتى الإنسان من حقه أن يعيش في أرض الله، ومن باب أولى أن يحتضن المسلم أخاه المسلم.
المشاكل الاقتصادية لا يقف وراءها المهاجرون
كما أن نسبة المهاجرين والوافدين في الغالب تكون نسبتها قليلة وغير مؤثرة، ولا تتسبب في أزمات اقتصادية أو غيرها، بل قد تتوفر مهارات وخبرات عمل تفيد الناس وتطور حياتهم.
يقول الإمام الشيرازي:
(كذلك غالباً ما تبرر الحكومات المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها البلد بأنها نتيجة العبء الذي يشكّله المهاجرون والوافدون من البلاد الإسلامية الأخرى والتي لا تشكل في أكثر حالاتها إلا نسبة قليلة قياسا لنسبة السكان الأصليين للبلد).
ومن الخطأ أن تصف الحكومات كثرة النسل بأنها تقف وراء مشاكل الدول والناس، بل على العكس من ذلك تُسهم بطريقة كبير في تنشيط المجتمعات ومضاعفة إنتاجها وأرزاقها.
حيث يقول الإمام الشيرازي:
إن (هذه الحكومات بدلاً من أن تستثمر الطاقات البشرية والامكانات الثقافية والعلمية والتقنية وتوظفها في خدمة الإسلام والمسلمين بتوجيهها الوجهة الصحيحة، نرى أن حكام البلاد الإسلامية يصفونها بأنها أم المشاكل).
من الغريب حقا أن بعض الحكومات الإسلامية، تتذرع بحجج واهية لكي لا تسمح للوافدين بالعمل والعيش في بلدانها، والصحيح هو أن تبادر هذه الحكومات إلى استثمار هذه المهارات والخبرات والطاقات لصالحها، فالإسلام يدعو لوقوف المسلم إلى جانب أخيه المسلم، وحتى غير المسلم مسموح له بالعمل طالما أن الفرص ممكنة ومتوفرة.
ومن الغرابة حقا أن تكون الكثرة البشرية سببا في المشاكل المعيشية، لاسيما أن الإنسان سواء كان من أهل البلد أو من خارجها يسعى دائما إلى الإنتاج، لهذا من المفترَض بهذه الدول والحكومات استثمار هذه القدرات والخبرات البشرية، والاستفادة من مهاراتها، خصوصا أنها تحمل أفكارا متنوعة قادمة من أمم وشعوب ذات ثقافات ومواهب مختلفة.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي حين يقول:
(نحن لم نسمع بأن الكثرة السكانية في البلاد الإسلامية في الأزمنة السابقة كانت تخلق أزمات أو اختلافات اقتصادية للمجتمع بالرغم من بدائية وسائل العمل والانتاج، بل كان للعامل البشري دوره المهم في تقوية الجوانب المادية والمعنوية لنهوض المجتمع وازدهاره وسيادته).
الله يرزق الناس جميعا
السؤال هنا، هل هناك دواعٍ فعلية لتطبيق الفكرة الغربية القائلة بتحديد النسل في مجتمعاتنا الإسلامية، بالطبع ليست هناك أسباب فعلية، ولهذا أما أن يكون من يدعو لتطبيق تحديد النسل غافلا ومغفلا، أو أنه يعمل لصالح جهات تخدم أجندات وأهداف الغرب والشرق التي تريد أن تحطم المجتمعات المسلمة لاسيما أن الشرائح الشبابية عالية فيها.
على العكس من الدول الغربية وبعض الدول الشرقية فإنها تعاني من شحة الشباب وتكاثر الشيوخ بطريقة لافتة، وقلة الأيدي العاملة، وحصول تداعيات اجتماعية ومرضية ونفسية معقدة في تلك المجتمعات، لهذا يسعون لنقل مشاكل إلى المجتمعات الأخرى، وفكرة تحديد النسل واحدة من الأفكار التي تقف بالضد من مبادئ الإسلام الذي ينظر إلى القوانين والسنن الإلهية بأنها غير قابلة للمساس.
الإمام الشيرازي يقول:
(لذا فإن بعض المتحمسين لضرورة تحديد النسل إما ان يكونوا مغفلين أو انهم وظفوا أنفسهم لخدمة الشرق والغرب، وتبرير المشاكل والمتاعب التي يسببها هؤلاء للإنسانية بصورة عامة وللبلاد الإسلامية بشكل أخص).
كذلك لا يمكن تبرير ما تدّعيه هذه الحكومات التي تدعو إلى تحديد النسل وترى في هذه الفكرة معالجة صائبة للقضاء على مشاكل الناس، خاصة أن استبداد هذه الحكومات وفسادها هو السبب في مشكلات وأزمات الناس.
كما أن الإنسان رزقه مكفول ومحدد من الله تعالى، لهذا فإننا كمسلمين لدينا كامل الاطمئنان بأن الله تعالى يكفل لنا الرزق الكافي الذي يديم حياتنا بكرامة، لاسيما أنه تعالى يدعونا إلى السعي (في مناكبها)، بمعنى إن الرزق الإلهي مكفول للناس لكن بشرط السعي والعمل والمثابرة من أجل استحصال هذا الرزق.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:
(قال سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا)، سورة البقرة الآية 6. وفي آية أخرى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ)، سورة العنكبوت، الآية 60. فنحن كمسلمين لدينا كامل الاطمئنان من أنه تعالى عندما يخلق الخلق يهيئ له مستلزمات المعيشة والبقاء، وفي الآيتين المتقدمتين يؤكد سبحانه وتعالى انه تكفّل برزق كل المخلوقات صغيرها وكبيرها، فلا يخالجنا أي قلق يتعلق بقلة الموارد نسبة إلى زيادة عدد السكان).
هذا هو المنظور الإسلامي الذي يرفض التدخل بالقوانين الكونية، لأن قضية النسل تتعلق بالوجود الإنسان، وهي تقف بالضد من تطور البشرية، كونها تضعف الطاقة الإنسانية التي يحتاجها العقل لإدارة الحياة بشكل صحيح، فكل ما يقف بالضد من سنن الله تعالى يسعى لتدمير الحياة، وهذا فعل مرفوض تماما كونه يقف بالضد من مبادئ وأحكام الدين والعقل الحكيم.
اضف تعليق