كم نحن اليوم بحاجة إلى مثل أولئك الرجال الخالدين، الذين كسبوا بأخلاقهم وقيمهم ومعاييرهم قلوب الناس الأغراب، فكيف إذا تواجد مثل هؤلاء اليوم بيننا، وكم سيتغير العالم ويخلص من أزماته عندما يتواجد مثل أولئك الرجال العظماء بقلوبهم وشخصياتهم ونظرتهم للإنسانية كلها...
(تمكن المسلمون الأوائل من إيجاد موجٍ غيَّر جوهر العالم) الإمام الشيرازي
يتساءل كثير من الباحثين في تاريخ الأديان والأمم، عن تلك الأسباب التي جعلت المسلمين الأوائل بقيادة النبي صلى الله عليه وآله، يبنون أمة قوية متماسكة، استطاعت أن تصبح (خير أمة) في ذلك العهد، وتمكن أولئك المسلمون من مضاهاة أعظم الدول في وقتهم، بل تمكنوا من تقديم النموذج الذي يتفوق عليهم.
تُرى ما هي تلك الأسباب، وأي نوع من الرجال والعقول تلك التي جعلت من المسلمين في مقدمة الأمم، ليس في مجال القوة والتفوق العسكري وحده، وإنما في المجالات الأخلاقية والمعنوية وتقديم النماذج المتحضرة للإنسانية كلها، فحين كان يدخل المسلمون الدول الأخرى فاتحين، فسرعان ما يحب شعوب تلك الأمم المسلمين لأنهم يحملون من القيم الإنسانية ما يؤهلّهم لهذا التقدير والمكانة العالية من قبل الآخرين.
أما مصدر المسلمين ومن أين حصلوا على الصفات الكبيرة التي امتزجت بشخصياتهم، وجعلتهم متميزين بأخلاقهم وسلوكياتهم، فإنه القرآن الكريم الذي نهل منه المسلمون الكثير من صفاتهم وأخلاقياتهم وقيمهم، بالإضافة إلى أنهم عاصروا أئمة أهل البيت وأخذوا من أفكارهم ومبادئهم وشخصياتهم كنماذج يحتذون بها ويسيرون في هدْيِها.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (الصياغة الجديدة):
(من الواضح أن الإنسان إن أراد الخير والرشد والصلاح والتقدم والخدمة وفقه الله، وإن أراد الإنسان غير ذلك تركه الله وشأنه وخذله ولم يكن له ناصر في الأرض ولا في السماء. وقد حصل المسلمون على تلك الصفات الرفيعة من جراء عملهم بالقرآن الحكيم وإتباعهم لسيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله).
لقد تحول ذلك المجتمع الجاهلي الذي كان يعيش في شبه الجزيرة العربية، بفضل الإسلام، وبفضل الرسالة النبوية إلى قيم تعاكس تماما تلك القيم والعادات التي كانت تقوم عليها علاقاتهم وحياتهم، حيث كان الجهل يغلّف عقولهم ونفوسهم بالأغلال والأحقاد، فجاء رسول الله ليزيل في لغة القرآن ومضامينه ونوره تلك الظلمات وينقل هذه الأمة إلى النور فبات أفرادها يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
إنهم يسعون للرأفة بالآخرين
وتمسكوا أكثر بالقيم التي جاء بها النبي، ونشرها بين الناس، فصاروا أكثر تماسكا، وازدهرت القيم بينهم، فباتوا ينهون عن المنكر، ويلتزمون بما يريده الله تعالى، وينفذون ما تحلله الأحكام الشرعية، ويبتعدون عن السلوكيات المنحرفة، ويرفضون الظلم، ويسعون للرأفة بالآخرين، لهذا كافأهم الله تعالى بالانتصار والتميز على الأمم والدول التي كانت موجودة معهم آنذاك.
حيث يقول الإمام الشيرازي:
(نعم لقد كان المسلمون خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، يحلّون ما أحل الله، ويحرمون ما حرم الله، ولهذا نصرهم الله سبحانه وتعالى على أعدائهم).
وكما هو الحال مع أية أمة أو مجتمع آخر، فإن السيئين لا يغيبون عن الجمع، وأنهم حاضرون دائما، لهم دورهم الخبيث المؤذي، وقد كانوا موجودين بالفعل في عهد الرسول صلى الله عليه وآله، وكان دور المنافقين معطلا للتقدم السياسي والاجتماعي والفكري، بسبب المشكلات التي سعى لخلقها هؤلاء المنافقون.
ولكن الأناس الطيبون كثيرون، وكان التقدم والتطور السريع للأمة الإسلامية يحصل بجهودهم الكبيرة، وبما يقدمونه من المساندة والاستبسال من أجل تحقيق الخير والسعادة ليس للمسلمين وحدهم وإنما للناس جميعا حتى من الأمم الأخرى، ولهذا السبب نصر الله هؤلاء الرجال الأخيار، وانتصر الإسلام بهم وانتشر إلى دول كثيرة وبعيدة عن دولة المسلمين.
بهذه النوعية من الرجال الأصلاء، استطاع قائد المسلمين، الرسول الكريم أن يبني أعظم دوله آنذاك، وفي أقصر وقت، حيث تحتاج الدول لمئات أو عشرات السنين كي تُبنى جيدا، ولكن في غضون عشرين عاما تصاعد الصرح العظيم لأمة المسلمين التي امتدت في مشارق ومغارب الأرض، وتمددت نحو أصقاع نائية بل في غاية البعد.
إذ يقول الإمام الشيرازي:
(أما المنافقون منهم فكانوا قليلين والرسول (صلّى الله عليه وآله) والمسلمون لم يتمكنوا من ذلك التقدم الهائل بسبب المنافقين، فإن المنافق لا يزيد الأمر إلا خبالاً، وأما الذين آمنوا بالله ورسوله فكانوا كثيرين، وبهم فتح الله المدن وأقام العدل ونشر الإسلام).
هكذا كان رجال النبي صلى الله عليه وآله، يحملون من الصفات العظيمة الكثير الكثير، فحملوا أنبل الصفات، وأكثرها قوة ورصانة، فكانت التقوى على سبيل المثال إحدى أهم الصفات التي تحلى بها المسلمون، مما جعلهم محط إعجاب واحترام ومحبة جميع الأقوام التي وصلها المسلمون، ويفترَض من الناس أن تكره الغرباء لكنهم على العكس من ذلك أحبوهم.
رجال عظماء نهضوا بالإنسانية
لماذا لأن هؤلاء الرجاء تربوا التربية الأخلاقية المبدئية السليمة، وجعلوا من الرسول صلى الله عليه وآلهم أسوتهم وقدوتهم، وتعلموا على يديه جميع قيم الاستقامة التي جعلت منهم مقاتلون مؤمنون يحملون قلوب الخير والإيمان والمساواة بين جميع البشر دون استثناء، فلم يؤذوا أحدا ولم يتجاوزوا حرمة الناس ولا الحيوان بل حتى النبات لم تطله أية حالة من الأذى.
يورد الإمام الشيرازي كلمات للإمام علي عليه السلام وهو يصف فيها هؤلاء الرجال الأفذاذ، وما هي الصفات التي كانوا يتحلون بها، ولماذا كانوا السبب الأول في انتشار الإسلام إلى بقاع واسعة مترامية، وفي نفس الوقت تشكلت علاقات إنسانية وأخوية كبيرة بين هؤلاء المسلمين وبين الأمم وأفراد الدول التي دخلوها.
حيث يرد في كتاب الإمام الشيرازي هذا القول:
(وقد وصف الإمام علي عليه السلام المتقين ـ الذين كانوا كثيرين في أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله) لصاحبه همام، فقال في جملة كلامه: (فالمتقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء، ولولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها وهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها وهم فيها معذبون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصيرة، أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة يسّرها لهم ربهم، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها).
فمن الأسباب العظيمة التي جعلت من المسلمين الأوائل قادرين على تغيير العالم آنذاك، هو اطلاعهم المستمر على ما ورد من مضامين عظيمة في القرآن، فتأثروا به كثيرا، وساهم في بناء شخصياتهم وأفكارهم وسلوكياتهم، وزرع في أعماقهم القيم الخالدة التي جعلت منهم محط إعجاب الأمم الأخرى في وقتهم.
هذا الحضور الأخلاقي العظيم للمسلمين الأوائل في حياة الأمم الأخرى، هو الذي جعلهم قادرين على تغيير العالم نحو الأفضل، وساعدوا في الارتفاع بالحضارة إلى درجات عالية، فصار الإنسان أكثر تحضّرا وأكثر رحمة ورأفة، وأكثر تطبيقا للقيم والمعايير الإنسانية التي قدمها الإسلام للبشرية كلها.
يقول الإمام الشيرازي:
(أجل لقد أثَّر القرآن وأخلاق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في رجال الجزيرة فصاروا أولئك الأبطال زهّادًا في الليل، شجعانا في النهار، وتمكنوا من إيجاد موج في العالم غيّرهُ من يومهم حتى هذا اليوم).
فكم نحن اليوم بحاجة إلى مثل أولئك الرجال الخالدين، الذين كسبوا بأخلاقهم وقيمهم ومعاييرهم قلوب الناس الأغراب، فكيف إذا تواجد مثل هؤلاء اليوم بيننا، وكم سيتغير العالم ويخلص من أزماته عندما يتواجد مثل أولئك الرجال العظماء بقلوبهم وشخصياتهم ونظرتهم للإنسانية كلها.
اضف تعليق