لقد أهملنا استراتيجية الوحدة، ولم نعمل عليها، بل قمنا بالعكس تماما، حين شتّتنا من طاقاتنا، وبعثرنا مواردنا، وغصنا حدّ العظم في مشاكل لا أول لها ولا آخر، جعلت من أمتنا ودولنا ومجتمعاتنا لقمة سائغة، ابتلعها المستعمرون بعد أن استغلوا فُرقة المسلمين وزادوا من توحّدهم وتقاربهم وتعاونهم...
(إن الله تعالى أمرنا في كتابه الحكيم بالتعاون والعمل وتوحيد الجهود) الإمام الشيرازي
الكلام الذي يتناول الوحدة أو الاتحاد فيما بين الدول وحتى الأفراد، لم يعد خافيا على أحد، حتى في الموروث الشعبي هنالك العديد من الحكايات والقصص الشعبية وحتى النخبوية والدينية أيضا، تؤكّد وتثبت تلك النتائج الباهرة التي تتحقق للناس أو القوم الذين يتحدون مع بعضهم في مواجهة مخاطر معينة تحيق بهم.
المواجهة الفردية للخطر عادة ما تكون أصعب بكثير من المواجهة الجماعية لها، وهذا ينسحب على الأمة، فإذا اتحدت فيما بينها ونقصد بذلك أفرادها ومكوناتها الاجتماعية المختلفة، فإنها تتمكن من التغلب على المخاطر التي تهدد وجودها، فإذا كان الخطر من دولة أو حتى مجموعة دول، يمكن للأمة أن تتحد وتضع استراتيجية واضحة المعالم والخطوات، تحاول أن تقلل خطر تلك المواجهة إلى أقل الخسائر، وهذا ما يتحقق فعلا.
ولكن إذا كانت الخلافات والأحقاد تعصف بمكونات هذه الأمة، وتكثر فيها الفتن، والتناحر والنزاعات فيما بين أفرادها أو بين مكوناتها، فإن النتيجة هي غَلَبة الدول المعادية لها تكون محقّقة، لهذا يُنصَح بوضع استراتيجية وحدة الأمة أو القوم أو المجتمع الواحد في مقدمة الأهداف التي يجب أن تهتم بها الأمة وتسعى إلى تحقيقها من خلال التعاون والعمل المشترك، وإلا فإن الدول المعادية سوف تتمكن من إلحاق الضرر الجسيم بأمتنا.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (التعاون والعمل):
(لا شك أن الوحدة أساس القوة والتقدم والتعاون والعمل، فيما تشكل الفُرْقة العامل الأكبر للنكبات والهزائم التي تصيب الأمة، وليس على المسلمين إلا أن يتحدوا لصد الهجمة الاستعمارية الواسعة التي تشن من مختلف الأطراف وبمختلف الأشكال، لإبادة الروح الإسلامية والقضاء على مبادئ الإسلام).
أعداء المسلمين وحَّدوا أنفسهم
هذه الأهمية الاستراتيجية للوحدة، أدركها أعداء المسلمين، فوحَّدوا أنفسهم وتعانوا فيما بينهم، ونسّقوا جهودهم في كافة المجالات، السياسية والاقتصادية والعسكرية وسواها، في حين أن أمة المسلمين فعلت العكس تماما، فهي لم تعتمد الوحدة بين المسلمين كهدف استراتيجي لها، ولم تقرّب بين المكونات والدول الإسلامية، والسبب واضح ومعروف.
فهناك اختلافات عميقة بين أنظمة الحكم في الدول الإسلامية، جعلتها تكنّ العداء لبعضها، وهناك اختلافات سياسية ومذهبية وسواها، ضاعفت من هذه الخلافات، وزادت من ضعف الأمة، فصارت هدفا سهلا للدول المعادية لها، لاسيما أن هذه الدولة المعادية قامت بتنظيم مصادر قوتها، وجعلت من الوحدة هدفا لها، فقد أيقنوا بشكل قاطع أن وحدتهم سوف تخلخل وحدة المسلمين وتضعفهم وتجعلهم تحت سيطرتهم.
هذا بالضبط ما أكده الإمام الشيرازي في قوله:
(الذي حصل للمسلمين أن أعداءهم وحّدوا جهودهم ضدهم، لأنهم أدركوا أن وحدتهم وحشد طاقاتهم تمكّنهم من السيطرة على المسلمين، وتمثل تمركزاً لقوتهم باتجاه القضاء على حركة الأمة الإسلامية ومقدّراتها).
وهكذا أدرك المعادون لأمة الإسلام، بأن الطريقة الوحيدة لخلخلة البناء القوي والرصين الذي بناه النبي صلى الله عليه وآله للأمة، لا يمكن تحطيمه إلا عن طريق اعتماد استراتيجية توحيد الصفوف والجهود والقدرات ضد المسلمين، وهذا ما جرى بالضبط، في حين كان المسلمون منشغلين في الصراعات والنزاعات فيما بينهم سواء كدول أو كأنظمة أو حتى كمجتمعات وأفراد.
فكانت الحصيلة ضرب المشتركات الاجتماعية والدينية للمسلمين، وتحطيم الروابط الاجتماعية، من خلال التسلل حتى إلى الأسرة في المجتمع الإسلامي، فزرعوا القيم المسيئة بين الناس، مما أدى إلى زيادة التباعد أضعافا مضاعفة بين المسلمين، وهذا يتحمله بالدرجة الأساسية تلك الأنظمة المستبدة والحكام الذين استأثروا بالسلطة وأهملوا توحيد المسلمين.
لقد أهملنا استراتيجية الوحدة، ولم نعمل عليها، بل قمنا بالعكس تماما، حين شتّتنا من طاقاتنا، وبعثرنا مواردنا، وغصنا حدّ العظم في مشاكل لا أول لها ولا آخر، جعلت من أمتنا ودولنا ومجتمعاتنا لقمة سائغة، ابتلعها المستعمرون بعد أن استغلوا فُرقة المسلمين وزادوا من توحّدهم وتقاربهم وتعاونهم، فتمكنوا عبر استراتيجية الوحدة من تحقيق الكثير من أهدافهم.
يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة:
(كانت الوحدة شعاراً عملياً لأعدائنا على اختلاف اتجاهاتهم ونواياهم ليتمكنوا من مواجهتنا وتفتيت مجتمعنا، والقضاء على روابطنا الدينية والاجتماعية، وحتى الأسرية، على عكسنا نحن المسلمين إذ ازددنا فرقةً وتناحراً).
العدوان الخارجي الداخلي المزدوج
والمشكلة أننا لم نتعرض للعدوان الخارجي من قبل المستمِرين وحدهم، وإنما هناك أعداء ظهروا لنا في الداخل أيضا، فكان العدوان ضد الأمة مزدوجا خارجيا و داخليا، الخارجي هي الدول الاستعمارية وما فعلته من تحضيرات وتخطيطات للعدوان على المسلمين، وانتهاك سيادة دولهم، ونهب ثرواتهم، بطرق منتظمة، فأضاع المستعمرون فرص التقدم لهذه الدول الإسلامية.
وفي نفس الوقت تعاون أعداء الداخل مع أعداء الخارج، وأعداء الداخل هم كل الذين ساندوا المستعمرين وآزروهم في تحقيق أهدافهم، لاسيما الأنظمة بعض السياسية العميلة التي وضعت كل قدراتها في خدمة الأجنبي، وهيّأت له كل الظروف والفرص التي ساعدته على مواصلة العدوان والسيطرة على مقدرات المسلمين، وبعض الحكام الذين قدموا كافة الخدمات للمستعمِر في مقابل حماية عرشه وسلطته.
الإمام الشيرازي أكد هذه النقطة قائلا:
(في الوقت الذي اتحدّ ضدّنا أعداؤنا من الخارج وهم معروفون لنا، تضافر علينا آخرون من الداخل، كبعض حكام بلادنا المستبدين الذين لا همّ لهم سوى البقاء على سدة الحكم تحت مختلف الواجهات).
وهكذا اختلف المسلمون فيما بينهم، في الوقت الذي أمرهم الله تعالى، بالوحدة، والابتعاد عن التنازع والصراع، ولهذا فإن أي نوع من الاختلاف بين المسلمين يعدّ نوعا من المعصية لله تعالى، وانتهاكا لأمره المسلمين بالتعاون والوحدة، إنه أمر إلهي واضح، لا يجب تجاوزه مطلقا، حتى لا تتحمل الأمة وزره ونتائجه المؤلمة.
الإسلام يدعو إلى وحدة المسلمين، ويدعوهم إلى اعتماد استراتيجية واضحة المعالم تجعلهم قريبين من بعضهم، متعاونين، متحابين، بعضهم يسند البعض الآخر، فهذه الطريقة هي السبيل الوحيد لكف أذى المستعمرين والطامعين عن المسلمين، ولا سبيل آخر لمنع الأعداء من التجاوز على حقوقنا، ومن لا يسير من المسلمين في هذا الطريق فهو ليس من الإسلام ولا من الإنسانية.
يقول الإمام الشيرازي:
(أمرنا الله تعالى بالاتحاد والتآخي، ونهانا عن التفرقة ومعاداة بعضنا البعض؛ لذا علينا أن نمتثل ونلتزم بذلك، فمن يخالف هذا الأمر، ويتخذ من سياسة التفرقة والمعاداة بدلا من الاتحاد والتآخي، فليس هو من الإسلام ولا الإنسانية في شيء).
كل ما تقدم في أعلاه يدعونا إلى التمسك باستراتيجية الوحدة بين المسلمين، وترك الخلافات جانبا، فالتقارب والتعاون والتفاهم والانسجام، يجعل من المسلمين أقوى وأكثر صلابة، ويمنع الآخرين من الطمع بهم وبخيراتهم، كما يجعلهم أكثر قدرة في مواجهة الأعداء، وهذا يجعلهم أقرب إلى الله تعالى فيثيبهم ويجزيهم الخير والرفْعة.
الإمام الشيرازي أكد هذا قائلا:
(احفظوا نعمة الله ومنته عليكم بالوحدة والتعاون والتآلف، وإنهاء ما يحدث بينكم من تنازع أو اختلاف، فهذا يحقق لكم النفع الحاصل في القريب العاجل، مع ما أعدّ الله لكم من الثواب الجزيل في الآجل).
في النهاية على كل مسلم أن يعي أهمية استراتيجية الوحدة بين المسلمين، وقد كرّر الإمام الشيرازي أهمية هذا الهدف كثيرا، وطالب أولي الأمر وجميع الناس بجعله في مقدمة أهدافهم، لما له من نتائج كبير على حاضر ومستقبل الأمة.
اضف تعليق