التخلف الذي تعاني منه الأمة الإسلامية قد سيطر على جميع المجالات الحياتية وهذا يعني أن الثقافة الإسلامية التي تؤسس الأسس للنهضة الفكرية والحضارية يجب أن تمد أجنحتها في جميع هذه الأبعاد، إذ أن النهضة هي حركة المجموع وليست عملاً نخبوياً تقوم به فئة من الأمة...
بقلم: الشيخ زكريا داوود
قال تعالى في كتابه:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) (1).
يرى أغلب المؤرخين والمفكرين بشتى مذاهبهم أن حضارة الأمة الإسلامية أعظم تعبير عن شموخ وعظمة الرسالة والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ كانت أعظم إشراقة في التاريخ العام للبشرية، حيث جاءت في وقت خمدت فيه أنوار الهداية والمعرفة ونكست فيه المبادئ التي تؤمن للإنسان الحياة الكريمة، والطموح الذي يشد السواعد البناءة، وكانت الفوضى الاجتماعية والسياسية ضاربة بأطنابها في جميع المجالات.
وقد جاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بمنهج حياة وعقيدة كاملة تحوي في ثناياها نهضة شاملة تخرج البشرية من الحالة السيئة آنذاك، وتؤسس لبناء صرح أمة أصبحت فيها أعظم مثال تحتذي به جميع الأمم الأخرى عندما تنبثق من أعماقها إرادة التصحيح والنهضة.
وقد حرر الإسلام بمفاهيمه وقــيمه الإنسان من ربقـــة الثقافة الجاهلية وأعاد له إيمانه بنفسه وقدرته على التصحيح والنهضة، ولذلك فإن بداية إعادة الصرح الحضاري لهذه الأمة يكمن في وضع تخطيط ومنهج متكامل يستمد طاقته من مصادر التشريع الإسلامي ويرسي كلياته وجزئياته قادة الأمة وروادها من مراجع ومفكرين.
ولو نظرنا إلى التاريخ الإسلامي وعلى الأخص القرن التاسع عشر لرأينا كثيراً من القادة والمفكرين قد سعوا إلى إعادة الروح الحضارية لهذه الأمة وذلك عبر وضع مناهج تكفل تصحيح أوضاع الأمة والمجتمع الإسلامي وتعيد الحياة والروح المتحررة والوثابة، لكن أغلب هذه المشاريع التصحيحية لم يكتب لها النجاح وذلك لعوامل كثيرة كان أحدها عدم وفاء هذه المشاريع بمتطلبات الأمة وحاجاتها الحقيقية، ولضعف التشخيص بالنسبة لعوامل التخلف التي تعاني منها.
وكانت المرجعية الشيعية وفي فترات كثيرة من تاريخنا تسعى لتفعيل فكرها ورؤيتها الإسلامية في الواقع الاجتماعي قاصدة بذلك إرجاع الأمة إلى جذورها وهويتها كمنهج فكري يمارس ويطبق على الواقع العام للأمة.
لكننا دائماً وفي كثير من المراحل الزمنية نلاحظ أن المرجعية الشيعية كانت تمارس الحالة القيادية للأمة ولو في حدود ضيقة في بعض المراحل إلاّ أنها كانت دائماً تمثل صمام الأمان لديمومة وبقاء روح الشرع الإسلامي النابض بالحيوية والنشاط في الواقع والمجتمع الإسلامي.
وبما أننا نعيش إحدى المراحل الصعبة بسبب ما تعانيه الأمة من الأزمات والنكسات التي تصيب قطاعات كثيرة من أبنائها، كما في البوسنة والهرسك، والعراق وفلسطين والسودان والصومال، نتساءل من هي المرجعية الرائدة، التي تملك القدرة والفكر والرؤية الواضحة لإعادة الأمة إلى جذورها وتصحيح أوضاعها؟.
إننا لا نريد الإجابة عن هذا السؤال دون الرجوع إلى طرح حقائق ملموسة في الواقع الإسلامي توضح ملامح هذه الشخصية العظيمة وأثرها على الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية لأمتنا الإسلامية.
وقبل البدء في توضيح معالم الفكر التطويري لهذه الشخصية العظيمة، الا وهي شخصية آية الله العظمى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله)، لا بد من معرفة مواصفات المرجعية الرائدة، كي يكون البحث أبلغ في إبراز معالم الشخصية لهذا القائد العظيم الذي وإن خصصنا هذا البحث عنه، إلا أننا لا نستطع في هذه العجالة تناول أبعاد شخصيته الفذة.
مواصفات المرجعية الرائدة
تنبع الحالة الريادية والقيادية من تحليه بعدة صفات تكون بوجودها وتكاملها دلالة واضحة على كفاءته وقدرته على قيادة الأمة وتوجيه مسارها بشكل صحيح في عالم تسوده الصراعات السياسية والاجتماعية والدينية، والمواصفات هي:
أولا: إدراك الوضع العام للأمة.
وهي مسألة مهمة، إذ أن أي عـــامل تصحيحي لابد أن يستند على فهم الواقع ومكوناته، وبالتالي معرفة حاجات جميع قطاعات أبناء الأمة، وما تعاني منه، من أزمات مادية واجتماعية ودينية، حيث أن الأمة تعيش حالة فراغ تشريعي نابع من حالة الفرقة والطلاق بين الأصول والمباني التشريعية والمجالات المذكورة، وبالتالي فإن إدراك الحالة العامة للأمة كما هي، مسألة مهمة جداً في إعطاء نظرة صحيحة وواقعية لهذه المشاكل والأزمات التي تخنق أكثر الطبقات الاجتماعية.
ثانياً: متابعة الأحداث والتفاعل معها.
كثيراً ما نقرأ هذا الحديث النبوي الذي يقول: (إن العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)، وذلك يعطينا ويوضح لنا أهمية المتابعة والتفاعل نفسياً وعملياً مع الأحداث ومحاولة وعيها بصورة عميقة.
ومتابعة الأحداث التي تجري في واقعنا الإسلامي وما يحيط به من مجتمعات مسألة مهمة لمن يقود الأمة ويوجهها، وقد تحلى آية الله العظمى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي بهذه الصفة بصورة واضحة، إذ أننا وفي كل حادثة تقع للأمة الإسلامية نرى له رأياً متميزاً وواقعياً فيها، وهذا يدل على سعة اطلاعه ومتابعته، وبالتالي وعيه العميق وتفاعله مع هذه الحوادث.
ثم إن هناك حالة تعبر عن وعي الأمة وإرادتها في انتخاب الأصلح، وهي أن لا تقبل بأي شخصية لا تتفاعل مع همومها ولا تعي قضاياها، ولا تسعى لحل مشاكلها والأزمات التي تمر بها، ولهذا نرى أن قسماً من المجتمعات الإسلامية اتخذ الإمام الشيرازي قائداً وموجهاً، باعتباره يملك وعياً ويعيش هموم الناس وقضاياهم.
ثالثاً: تكامل المشروع النهضوي ووضوحه.
عندما ندرس تاريخ المذاهب والمشاريع النهضوية نلاحظ أن كثيراً منها فشل ولم يستطع أن يصمد في مواجهة المصاعب والعقبات التي وضعت أمامه، وكان ذلك نتيجة لفقدان مقومات عدة، أبرزها النظرية الشمولية والتكاملية في المشروع النهضوي، إذ أن أي مشروع بقدر شموليته وسعته يلتف الـــناس حوله، ويســتقطب الجماهير بالقدر الذي يسعى هو لاستقطابهم به.
ونحن عندما نبحث في ثنايا المشروع النهضوي لدى الإمام الشيرازي نلاحظ وبصورة واضحة أنه يتسع ليس فقط للأمة الإسلامية فحسب، بل وأيضاً للمجتمعات التي لا تدين بالإسلام كدين ورسالة إلهية.
فالمشروع من الناحية الفكرية النظرية، والسياسية والاجتماعية والقانونية، يتصف بالشمول والوضوح ولهذا يقول في كتابه السبيل إلى إنهاض المسلمين:
نحن نريد توحيد البلاد الإسلامية تحت ظل القوانين الإلهية حتى تكون بلداً واحداً، فيسير المسلم من طنجة إلى جاكرتا ويشعر بأنه في بلد واحد، لا ترفع أمامه في كل بلد حدود استعمارية وقوانين جاهلية وضعية (2).
إن تكامل المشروع النهضوي في فكر الإمام الشيرازي، سمة بارزة تجعله يمتاز بها عن غيره، إذ أن عدم امتلاك المرجع لمثل هذا المشروع يُعد نقصاً كبيراً وخاصة في هذا العصر، الذي تسعى فيه جميع الجهات إلى السيطرة على الأمة الإسلامية ومقدراتها وذلك عبر طرح مشاريع كثيرة تسعى من خلالها إلى توجيه أبناء الأمة وجميع فئاتها لخدمة أهداف مناهضة للمصلحة الإسلامية العليا، وبالتالي تكريس الواقع المتخلف الذي ترزح تحت وطأته الأمة منذ قرون عديدة.
إننا كأمة إسلامية وكيان شيعي يسعى لتفعيل دوره على الصعيد العالمي، ولإصلاح أوضاعه الداخلية يجب أن نضع العواطف جانباً ونختار بعقلنا عبر تحكيم الموازين الشرعية التي وضعها الفقهاء لاختيار الـــمرجع الأصلح والذي يمتلك الكفاءات العالية والذي يواكب الروح العصرية، فإن الأوضاع داخل الكيان الشيعي لم تعد تحتمل المعالجة، بالطرق البدائية، إننا نعيش في القرن الخامس عشر للهجرة، فيجب أن نختار المرجع الذي يعي ظروف وتغيرات هذا العصر الذي أصبحت الحياة فيه تتغير بسرعة مذهلة، مما يعني أننا لا بد أن نعتمد على مرجع يمكن بقدرته وكفاءته أن يؤسس لثوابت جديدة، لإرساء الثوابت والتقنين للمتغيرات التي تطرأ بفعل التقدم الهائل في جميع الميادين المعرفية والعلمية والاجتماعية.
ولو أمعنا النظر جيداً لرأينا الإمام الشيرازي يمتلك هذه القدرة، إذ أنه يمتلك نظرية معرفية تعي ظروف العصر ومتطلباته، وكذا يمتلك نظرية اجتماعية وسياسية وقانونية تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الزمنية، وترتكز على ثوابت إسلامية استمدت من عمق الدين الإسلامي وتجارب النجاح والفشل التي مرت بها أمتنا الإسلامية عبر تاريخها الطويل، وقد عبر عن ذلك كله في كتبه القيمة التي تعتبر بحق أعظم الدلائل على كفاءته العلمية، إذ لم نرَ أحداً من الفقهاء في هذا العصر يمتلك تلك المعرفة وذلك الاطلاع على الثقافة والمجريات والنظريات العصرية، في الوقت الذي يمتلك فيه القدرة على استنباط الأحكام الشرعية.
إننا كأمة تريد إعادة حضارتها وإثبات جدارتها في عصر العواصف السياسية والفتن الاجتماعية، لا بد وأن تختار المرجع الفقيه ذا العقلية الواعية لمتطلبات هذا العصر، والقادرة على تحقيق هذه الرغبة التي تحقق هويتنا وتثبت عظمة رسالتنا، والإمام الشيرازي برؤيته الثاقبة وبعد نظره يمتلك جميع مقومات الفقيه الذي يحقق هذه النقلة عبر امتلاكه منهجاً فكرياً ومشروعاً نهضوياً متكاملاً، إذ أنه يعبر بمشروعه هذا عن روح التشريع الإسلامي في أرقى صوره التقدمية التي تواكب التطورات، وتؤسس لنقلات تطورية أخرى... إذ أن الروح الإسلامية لا تقبل الجمود، ولا تجمد أمام التخلف، بل هي الحركة الدائمة الواعية المبنية على الثوابت الشرعية والقادرة على رفد التطورات الزمنية بروح ومباني التشريع، فالإسلام كمنهج لا يعني الجمود على الثوابت وتثبيت المتغيرات، بل هو الانطلاق من الثوابت لوعي وأسلمة المتغيرات، وهذا ما يميز فكر ومشروع الإمام الشيرازي عن غيره.
رابعاً: التصدي لقيادة الأمة
في الفكر الشيعي عند الإمامية لا تنفك مسألة التصدي للشؤون الدينية عن الأدوار والأبعاد الأخرى، وذلك أن البعد الديني ليس محصوراً بزوايا المساجد وأماكن العبادة، بل هو حالة عامة باعتباره يمتزج بصورة قسرية بجميع أبعاد النفس الإنسانية، ولهذا فالتصدي القيادي للمرجعية ليس ذا بعد واحد، لأن مقام المرجعية هو النيابة عن الإمام المعصوم (عليه السلام)، وبما أن قيادة الإمام للأمة ليست محصورة بجوانب محدودة، فإن نائبه عندما يتحلى بمواصفات وكفاءات عالية ينوب عنه في جميع مقاماته إلا ما خصص بالأدلة الشرعية.
لكننا عندما نبحث في تاريخ المرجعية نلاحظ أن الغالبية قد اقتصرت على أبعاد من التصدي، وغالباً ما يكون جانب الفتوى والتدريس ومتابعة شؤون الحوزة العلمية وقليل هم أولئك الذين خرجوا عن هذا الإطار وخاضوا المعترك السياسي، ولذا نجد أن هؤلاء بنزولهم إلى المعترك السياسي أوجدوا حالة نشاط وتحرك اجتماعي ليس له مثيل في التاريخ العام للمرجعية.
وعندما نبحث في مشروع السيد الشيرازي النهضوي نلاحظ أن الجانب السياسي يحظى باهتمام كبير جداً، إذ يعده من الأولويات التي يجب أن يقوم بها الفقيه ويمارسها كما يمارس نشاطه في جوانب الاستنباط والتدريس وغيرها.
ولم يكتفِ بالتنظير للجانب السياسي وامتلاكـــه نظرة ثاقبة وبالتالي القول بنظرية سياسية متميزة، بل خاض المعترك السياسي، إذ أن تاريخه الجهادي يكشف لنا ذلك بشكل جلي، حيث أنه بعد وفاة أبيه سنة 1380هـ تصدى للمرجعية والقيادة الدينية، ومارس جوانب من النشاط السياسي حسب ما تسمح به الظروف آنذاك، وغادر العراق إلى الكويت سنة 1391هـ نتيجة الضغوط التي مارسها النظام العراقي ضده، فقد كان نشاطه السياسي يزعج السلطات حتى سعت إلى اغتياله لكن المحاولات لم تنجح والحمد لله ومنته، وقد غادر الكويت إلى إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية عام 1399هـ، وما زال في إيران يلقي دروس بحث الخارج العليا في الحوزة العلمية في قم المقدسة (3).
هذا وقد رفد الإمام الشيرازي الحركات الإسلامية بفكر سياسي أصيل يعبر عن قوة النظرية الحضارية للإسلام، وذلك أن المشروع النهضوي الإسلامي كما عبر عنه السيد الإمام في مؤلفاته التي تربو على (650) كتاب بمختلف الأحجام ولمختلف المستويات الاجتماعية، يؤسس لحالة إسلامية عامة مع أخذ الواقع الذي سوف يقوم عليه المشروع بعين الاعتبار، فهو ينظر للواقع بما أنه متحرك ومتغير، وهي ميزة لا تكاد توجد في أغلب المشاريع التي صيغت للنهضة الإسلامية.
إن التصدي القيادي للأمة عند الإمام الشيرازي ذو أبعاد متعددة ومختلفة وذلك يعود لعاملين أساســـيين يستمد الإمام الشيرازي طاقته المعرفية منهما:
أ ـ الدين الإسلامي باعتباره يمثل نظرة شمولية للحياة.
ب ـ الواقع المتغير والمتعدد الأبعاد، مما يفرض تأسيس المشروع النهضوي انطلاقاً من هذين العاملين.
وجدير بالذكر هنا، أن الإمام الشيرازي في فكره يضع هم الحياة في المقدمة، ولذلك جاءت بحوثه حول الحكم والاقتصاد والاجتماع والسياسة والدستور أكثر وأعمق وأشمل مما هي في مجالات أخرى، ومن هنا نفهم البعد العملي الواقعي في فكر واهتمام الإمام الشيرازي (4).
وقبل البدء في بحث المشروع النهضوي عند السيد الإمام، نلفت نظر القارئ إلى أن الإمام الشيرازي ينتمي إلى عائلة عريقة من الناحية العلمية والجهادية فلا عجب إذا أنجبت هذه الأسرة رجلاً عظيماً مثله، إذ أن أباه الميرزا مهدي الشيرازي كان مرجعاً معروفاً في زمنه وله شهرته العلمية، والإمام المرحوم السيد محمد حسن الشيرازي المجدد الكبير الذي طرد بفتواه الشهيرة حول التنباك الاستعمار البريطاني من إيران، يعد من رجالات أسرته المرموقين الذين سطر التاريخ حياتهم بفخر واعتزاز وكذا الإمام القائد الميرزا محمد تقي الشيرازي زعيم ثورة العشرين التحررية في العراق (5).
ملامح المشروع النهضوي في فكر الإمام الشيرازي
عندما نبدأ في استجلاء المشروع النهضوي عند الإمام الشيرازي نعترف ضمنياً أن هناك واقعاً مأساوياً يجب أن يتغير، وهذا المشروع إنما يسعى لتغيير الأوضاع المتخلفة والانتقال بالأمة إلى مدارج الرقي الحضاري.
ولهذا نتساءل كيف يرى الإمام الشيرازي الوضع العام للأمة؟
الحديث عن رؤية الإمام الشيرازي لأوضاع أمتنا الإسلامية يجعلنا نقف معجبين بقدرته العميقة على الإحاطة بفهم هذه الأوضاع، إذ أنه يعي جيداً الحالة العامة ومن جميع زواياها وأبعادها، ولهذا فهو يطرح علاجاً يتناول جميع أبعاد التخلف.
فهو يرى أن التخلف الذي تعيشه أمتنا ليس ذا بعد واحد بل هو ذو أبعاد مختلفة، وإذا أردنا إيجاز نظرته، نقول أنها عبارة عن: انهيار الحضارة الإسلامية في شتى الميادين.
ويقول دام ظله وهو يصف لنا أبعاد المشكلة الحضارية التي تعيشها الأمة:
يبلغ عدد المسلمين ــ حسب بعض الإحصاءات ــ ألف مليون ولكنهم مبعثرون جغرافياً وإقليمياً ولغوياً، ويعيشون تحت سيطرة الاستعمار والاستغلال. فأما قوانينهم فقد أصبحت وضعية بعدما كانت إلهية، وإنما أصابهم هذا التبضع والتشتت لعدم اتخاذهم الإسلام منهجاً عملياً في الحياة (6).
(هذه العبارة توضح لنا أبعاد التخلف كما يراها الإمام الشيرازي وهي:
1- اختلاف وتشتت المسلمين من الناحية الجغرافية، والإقليمية، واللغوية.
2- سيطرة الدول الإجنبية (الاستعمار) على المسلمين واستغلال ثرواتهم وطاقاتهم الفكرية والمادية.
3- فقدان القوانين التي توحد المسلمين، واتخاذ قوانين وضعية مما يزيد حالة الفرقة والشقاق بين فئات ومجتمعات الأمة الإسلامية.
4- غياب الدين الإسلامي كمنهج عملي يمارس في حياة المسلمين في جميع الحقول والميادين.
وكنتيجة طبيعية للابتعاد عن تطبيق التشريع الإسلامي تزداد المشاكل الاجتماعية وتتجذر عوامل التخلف ويصيب الاضطراب جميع مجالات الحياة لدى الأمة الإسلامية إذ يصبح (المسلمون متأخرين في كل مكان، ثقافياً وسياسياً واقتصادياً) (7).
ولهذا فهم حالياً قد تشتتوا وأقيمت الحدود المصطنعة بين بلادهم، فبعدما كان المسلم أخا المسلم أصبح عدواً له (8).
ولكي تستوعب كيفية تجذر عوامل التخلف لا بد من ملاحظة الظواهر العامة التي تصبغ المجتمعات الإسلامية، وكمثال لتلك الظواهر الحالات التي تعبر عن زيادة الشقة والاختلاف والتجزئة بين شعوب الأمة إذ نرى تلك الظواهر التي تدعو إلى الافتخار بالقوميات أو بالقبليات أو بالإقليميات أو باللغات، وهذه كلها دعوات جاهلية، قومية، ليست إلا دعوة من دعوات الجاهلية، فلماذا اتخذها قسم من المسلمين شعاراً ومنهجاً؟
القومية العربية ــ التي دامت إلى الآن ــ القومية الفارسية، القومية التركية في زمان أتاتورك، القومية الكردية، وإلى آخر القوميات، هي التي سببت ضياع فلسطين.
ثم يستعرض السيد الإمام المأساة التي تتعرض لها المجتمعات الإسلامية فيقول:
(قتلونا في فلسطين ولبنان ومصر، والأردن والجزيرة العربية (البريطانيون) وعملاؤهم قتلوا في وجبة واحدة في أطراف الجزيرة العربية أكثر من مائة وخمسين ألف إنسان مسلم).
قتلونا في الفيليبين، وكشمير، وأريتريا، وأوغادين، وبورما (باكستان الشرقية والغربية ــ يوم انفصال الباكستان عن غربها ــ وقتلونا في اليمن وشطروها نصفين).
منذ قرون ونحن نقتل ونسجن وتهتك أعراضنا لماذا؟
(لاحظوا البلاد الأوروبية الشاسعة والتي يبلغ نفوسها ما يقارب ستمائة وخمسين مليون نسمة، فمنذ أربعين سنة لا توجد بينها حروب والانقلابات عسكرية والحروب الانقلابات تقع بكثرة في البلاد الإسلامية) (9).
من خلال هذا العرض البسيط نلاحظ أن الإمام الشيرازي يعي جيداً الحالة العامة التي تعيشها أمتنا الإسلامية، إنها التشتت والضياع وفقدان المنهج، عدم الثقة بالذات في مقابل الأجنبي (الهزيمة نفسياً)، إنها حالة الحرب التي تعيشها فئات الأمة تجاه بعضها، وأخيراً الابتعاد عن تحكيم الشرع المقدس في جميع جوانب حياتها.
وبعد هذا العرض نأتي إلى المشروع النهضوي عند الإمام الشيرازي، ونقوم بجولة سريعة في كتبه كي نستجلي ملامح المشروع عند سماحته، ونحاول أن نستعرض المرتكزات التي يقوم عليها دون أن نذهب بعيداً في تفصيلها، لأن ذلك يحتاج إلى بحوث كثيرة قد نتعرض لها في وقت آخر.
مرتكزات المشروع النهضوي عند الإمام الشيرازي
يقوم المشروع النهضوي عند سماحته على مرتكزات ستة، وكل واحد من هذه المرتكزات يمكن تفريعه إلى عدة مشاريع تساهم بمجموعها في تكامل النظرية العامة للمشروع وهي:
المرتكز الأول: الوعي والتغيير الثقافي
إن أعظم دعائم النهضة الحضارية لأي أمة هو الوعي وانتشار الثقافة، إذ أنها ترسم خطاً فكرياً وسلوكياً، يدعو إلى تخطي العقبات في سبيل الوصول إلى الأهداف العامة التي تؤمن بها الأمة، ولأن الثقافة الإسلامية هي التي تؤسس وحدة فكرية تتبعها وحدة في الميادين العملية في إطار الأصول العامة، اعتبرها السيد الإمام أهم المرتكزات التي تدعو الأمة إلى النهوض وبناء الحضارة… ولذا يقول:
الثقافة هي التي ترسم للأجيال مسيرتها، وهي التي تحدد طريقة تعامل الأمة مع الأحداث والوقائع، وهي التي تعين مستقبل الأمة.
(فالثقافة الإسلامية الأصيلة تجعل الأمة تسير سيراً متميزاً في الحياة فكراً وعملاً، والمسلمون في الصدر الأول حملوا هذه الثقافة فحرروا نصف الكرة الأرضية بعد أقل من ثلث قرن من بداية جهادهم المقدس في السنة الأولى للهجرة)… (10).
إن الثقافة الإسلامية الأصيلة مرتكز هام في التوحيد وبناء مجد الأمة، لأن انتشارها يؤدي إلى صياغة نفسية أبناء الأمة وتوحيدها للوصول إلى الأهداف العليا التي قامت الثقافة بزرعها في النفوس وتغذيتها بالوعي والتخطيط السليم والثقافة ليست ذات بعد واحد، بل هي متعددة الأبعاد، وهذا يعني أن العمل الثقافي يجب أن يؤسس على مراعاة هذه التعددية، ومع رفد وبلورة نظرية ثقافية متعددة الأبعاد تستمد روحها من وعي التشريع وانتشارها بين أبناء الأمة نكون قد بدأنا الخطوة الأولى والمهمة في سلم النهضة الحضارية الشاملة ولذا يقول الإمام الشيرازي:
إن الواجب أن توحد الجهود ونعيد وحدتنا ووحدة أمتنا، أما كيف ذلك؟.
فيأتي في طليعتها تعميم الوعي الإسلامي (فمن الواجب على كل مسلم أن يعمم الوعي الإسلامي العقائدي والاقتصادي والسياسي والشرائعي والاجتماعي والتربوي والعسكري والزراعي والصناعي والاستقلالي وفي كل البلاد الإسلامية بواسطة الإذاعة والمجلات والنوادي والكتب والمؤتمرات وغيرها) (11).
إن التخلف الذي تعاني منه الأمة الإسلامية قد سيطر على جميع المجالات الحياتية وهذا يعني أن الثقافة الإسلامية التي تؤسس الأسس للنهضة الفكرية والحضارية يجب أن تمد أجنحتها في جميع هذه الأبعاد، إذ أن النهضة هي حركة المجموع وليست عملاً نخبوياً تقوم به فئة من الأمة، كلا، إن النهضة الإسلامية تقوم بها جميع الطبقات الاجتماعية، فهي فعل الأمة ككل، ولهذا لا بد أن تنتشر الثقافة بين جميع هذه الفئات وهذا ما يقوله السيد الإمام في النص التالي:
(إننا لو طبعنا ألف مليون كتاب ووزعناها في كل البلاد الإسلامية ستكون حصة كل فرد مسلم كتاباً واحداً، وهذا أقل الواجب، فاللازم علينا أن نشمر عن سواعدنا لطبع مثل هذا القدر من الكتب ــ على أقل تقديرــ في سبيل التوعية) (12).
ولأن الثقافة أمر مهم بالنسبة لنهضة الشعوب وقيام حضارتها نرى أن الاستعمار لما ورد بلاد الإسلام فعل أمرين:
الأول: تضعيف ثقافة الإسلام ولغته العربية، فأعاد تقوية اللغات والآداب و الرسوم المحلية التي كانت قبل الإسلام: كالسنسكريتية في الهند، والبهلوية في إيران، والبشتو في أفغانستان وأوجد رجالاً يدعون للهجة العامية بدل العربية الفصحى.
الثاني: تقوية ثقافة المستعمر من لغة وآداب ورسوم وما أشبه (13).
وإذا كان واقع المجتمع الإسلامي هكذا، فإن النهضة الثقافية تمر بمرحلتين على الصعيد الفردي والاجتماعي، وهي مسألة طبيعية في أي ممارسة تغييرية وهما:
1- تحطيم وهدم الأسس الثقافية التي ركزها الاستعمار في عقول أبناء الأمة.
2- بناء وتركيز الأسس العامة للثقافة الإسلامية الأصيلة التي تعبر عن روح الشرع وقيمه السامية.
وهاتان المرحلتان ليستا مختصتين بالعمل الثقافي على الصعيد الاجتماعي أو الفردي بل هما حركة شاملة تنطلق من التكوينات الفردية حتى تعم في النهاية جميع الفئات التي تتألف منها الأمة، وإذا أردنا الدقة نقول أن العمل الثقافي ذو شقين يسيران في خط متوازٍ، ولا يمكن أن ينفصل أحدهما عن الآخر، وهذا ما يعبر عنه التشريع الإسلامي في جميع أحكامه وقوانينه.
فالإسلام كدين ورسالة ومنهج حياة نلاحظ في تعاليمه الاهتمام بالجانب الشخصي كأفراد لهم خصوصيات وتميزات وبالتالي لهم حالات استثنائية أو ظروف خاصة تحتاج إلى نظرة الشارع لها بتلك التميزات والخصوصيات، ولهذا نرى تعاليم وممارسات عبادية ذات شكل شخصي، وقد حث الأفراد على الالتزام بها وتطبيقها بتلك الحدود.
ومن جانب آخر نلاحظه أيضاً يهتم كثيراً بالجانب الاجتماعي لتعاليمه وقيمه، إذ أنه يدعو إلى تطبيق كثير من القيم بصورة جماعية وسبب ذلك أن الأفراد الذين يتكون منهم المجتمع الإسلامي كما أن لهم مميزات وخصوصيات كذلك لهم صفات وعوامل مشتركة يجب التركيز عليها في بناء روح قيمية عامة تساعد في بناء الحضارة وقيام النهضة.
والجانب الثقافي هو أحد الجوانب المهمة في النظرية المعرفية العامة للتشريع الإسلامي، ولذا فإن البناء الثقافي ينطلق من الاهتمام بهذين البعدين، وقد عبر الإمام الشيرازي عن ذلك حيث قال:
(لبناء الشخصية الإسلامية ثقافياً، نمر بمرحلتين طبيعيتين هما الهدم أولاً… والبناء ثانياً… فالمرحلة الأولى هي تحطيم الثقافات الاستعمارية الغازية، وهدم البنى الفكرية المستوردة… وأما المرحلة الثانية فتتم بأمر هام هو: العلم.
ويعني معرفة الأمراض الكامنة في جسد الأمة الإسلامية، ومعرفة كيفية تحقيق الهيمنة الاستعمارية علينا، وما هي خطط العدو ومؤامراته التي يحيكها ضد الإسلام من وراء الكواليس….) (14).
ويذهب الإمام الشيرازي إلى أبعد من ذلك، حيث يرى أنه يجب أن نوصل الثقافة الإسلامية كذلك إلى من لا يدين بالإسلام كمنهج حياة وكرسالة إلهية، كالدول الأوروبية وله تبريره المنطقي لذلك حيث يقول:
(إن الاقتصار على تثقيف المسلمين الموجودين في بلاد الإسلام فقط بالثقافة الإسلامية يؤدي إلى تضييق الحركة الإسلامية وعدم توسعها، ومن هنا فإن من الضروري إعطاء الوعي الإسلامي المتكامل للبلاد الأجنبية.
ويعتمد ذلك على دعامتين:
1 ـ تثقيف المسلمين الموجودين في البلاد الأجنبية بالثقافة الإسلامية وتعليمهم كيفية التبليغ للإسلام.
2 ـ إيصال صوت الإسلام إلى الكفار والمعادين للإسلام عبر محطات للإذاعة مخصصة لهذا الغرض..) (15).
وإذا أمعنا النظر في هذه المسألة نلاحظ أنها صادرة من صميم التعاليم الإسلامية التي تحث المسلمين جميعاً على الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته وإخراج المستضعفين من حالة الهيمنة التي تمارسها القوى الكبرى، وذلك عبر إدخالهم في الهدى الإلهي، لأن الرسول محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث للناس كافة، بل إن عدداً كبيراً من الآيات والروايات تلفت أنظار الدعاة الإسلاميين إلى هذه القضية.
قال تعالى:
( وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) (16).
وواضح أن مناط الإبلاغ في هذه الآية، هو عدم العلم والمعرفة بالدين الإسلامي لذا، فإن توضيح وتوصيل الثقافة الإسلامية يساعد في تقوية دفاعات الأمة وتحصيناتها.
إذاً انتشار الثقافة الإسلامية الأصيلة أهم أركان قيام النهضة الإسلامية في مشروع الإمام الشيرازي، إذ أنها كما يقول تغير مسيرة الإنسان إلى الأحسن وذلك لأنها تؤسس لوحدة فكرية سلوكية عبر غرس الأهداف الإسلامية النبيلة والسامية في النفوس، وبذلك تقتلع جذور الثقافة التي تدعو إلى التحلل وعدم الإحساس بالمسؤولية (17).
المرتكز الثاني: التنظيم الاستشاري.
بما أن النهضة الإسلامية هي فعل الأمة كمجموع، فإن إشراك جميع الفئات والطاقات والكفاءات أمر مهم لإنجاحها، لكننا يجب أن نراعي أفضل السبل لاستثمار هذه الكفاءات في الحركة العامة للنهضة، وذلك لا يكون إلا عبر إيجاد وفتح قنوات تحتوي ذلك كله وتقوم بتوظيفه في رفد حركة أمتنا الناهضة.
وتلك القنوات في رأي الإمام الشيرازي هي التنظيم الذي يقوم على الشورى كأساس تفكير وعمل، وتنطلق أهمية التنظيم من أمور ثلاثة هي:
1- التنظيم ــ أولا ــ واجب شرعي، فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: (الله الله في نظم أمركم).
2- والتنظيم ــ ثانياً ــ هو سنة كونية.. فقد خلق الله سبحانه الكون كله منظماً، وقال تعالى في ذلك: ( من كل شيء موزون).
3- التنظيم ــ ثالثاً ــ هو ضرورة حيوية.. وقوة، وقد قال الله سبحانه: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة).
أما إذا لم ننظم أنفسنا ــ في تنظيم واسع كبير- فسيعترينا الضعف، ويتغلب علينا الأعداء، وإن واقعنا المعاصر خير دليل على ذلك، فإن المسلمين يبلغ عددهم حالياً ألف مليون مسلم، ولكن بلادهم واقعة تحت السيطرة الاستعمارية، فقطعة من بلادهم بيد الشيوعية العالمية، وقطعة بيد الرأسمالية العالمية، وقطعة ثالثة بيد الصهيونية وسائر بلادهم خاضعة لألوان مختلفة من الاستعمار المعلن والمبطن (18).
وبما أن الطابع العام لرؤية الإمام الشيرازي بالنسبة لشؤون الحياة هو القيام على مبدأ الشورى في جميع الميادين، فإن التنظيم الإسلامي كي يكون أكثر فاعلية عليه أن يؤسس قوانينه ومبادئه الفكرية والعملية على هذا المبدأ.
يمتاز الإمام الشيرازي بنظرية متكاملة تسعى لصبغ الطابع العام للفاعليات الحياتية والعامة في الأمة بهذه الصبغة، إذ أنه في المجال القيادي المرجعي يؤمن بنظرية شورى الفقهاء المراجع، التي تعبر عن فهم عميق للأسس والمبادئ الشرعية للدين الإسلامي، حيث وردت كثير من الروايات التي تحث على هذا المبدأ وتطبيقه في الحياة العامة والخاصة للناس، يقول الإمام الشيرازي:
والإسلام يحب (الاستشارة) في كل شيء حتى في الأمور الصغيرة. يقول الله سبحانه: ( فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما).
أي أن أحد الأبوين إذا أراد فطام الطفل عن الرضاع فعليه أن يستشير الآخر حول ذلك.
هل إن الأفضل استمرار إرضاع الطفل، أو فطامه؟ وإذا كانت الاستشارة مرغوبة في مثل هذا الأمر الصغير، فكيف بالأمور السياسية التي يتوقف مصير الأمة عليها؟ (19).
ولهذا فإن التنظيم يجب أن يكون استشارياً من القمة إلى القاعدة، أما قانون الاستبداد فليس إلا قانون المستعمرين المستبدين (20).
وعلى التنظيم ــ كي يقوم بدوره الصحيح والمطلوب في إطار النظرية العامة ــ أن يعمل على إعطاء الرشد الفكري على صعيدين هما:
1- الصعيد الاجتماعي العام. وذلك بتوضيح الثقافة الإسلامية الأصيلة لجميع أفراد الأمة، كي يتواصل المجتمع وأبناء الأمة من الناحية النفسية والفكرية مع التنظيم في سبيل تحقيق أهداف النهضة الإسلامية الشاملة.
2- الصعيد التنظيمي الخاص… وذلك بتوعية أفراد التنظيم وبث الثقافة السليمة في نفوسهم، لأن التنظيم إذا لم يكن توعوياً لم ينجح في تخطيطه، وعمله وسلوكه أولاً، ويقع ألعوبة بيد المستعمرين والمستبدين ثانياً (21).
ولأن هدف التنظيم الأساسي هو إيجاد القنوات التي توظف كفاءات أبناء الأمة وطاقاتها لتحقيق النهضة الشاملة فعليه أن يكون جماهيرياً وذلك بأن تكون مؤسساته وعناصره ملتحمة بالجماهير، لأن ذلك يحقق له النمو والتوسع الذي يستوعب العالم الإسلامي وتحدث عندئذ اليقظة الكاملة والحركة الشاملة ثم مكافحة الاستعمار وطرده (22).
ولكي يكون التنظيم جماهيرياً لا بد أن يعتمد على مقومين رئيسيين:
الأول: القيادة النموذجية النزيهة (23).
الثاني: احترام الجماهير… فالواجب على القيادات التنظيمية أن يربّوا أفرادهم على احترام الناس وإكرامهم بقضاء حوائجهم وعدم بناء الحواجز دونهم (24).
ويرى الإمام الشيرازي أن التنظيم كي يصبح أكثر فاعلية وقدرة على أداء المهمات التغييرية عليه أن يؤسس جميع أعماله على التواصل مع الجماهير، ثم يخلص إلى نتيجة أخيرة وهي مهمة في رفد حركة النهضة الإسلامية (25)، وذلك بتوحيد الحركات والتنظيمات الإسلامية في العالم الإسلامي جهودها لبناء وحدة الأمة ثم لتقوية العمل النهضوي وتكامله في ظل الشورى، يقول الإمام الشيرازي:
(من الضروري على التنظيم الإسلامي الواعي الذي يريد إقامة حكم الله تعالى في الأرض وإقامة حكومة ألف مليون مسلم أن يعمل جاداً لأجل أن يصب كل هذه الجهود الإسلامية في تيار واحد، (وهذا يجعل) التيار الإسلامي الواحد يتمكن من التحرك في البلاد الإسلامية تحركاً واحداً، ويلتف حوله المسلمون) (26).
المرتكز الثالث: التعاون الإسلامي الشامل:
التعاون يعني نبذ كل التفرقات ويعني التنسيق بين كافة المنظمات والأحزاب والجمعيات والمكتبات ودور النشر والمؤلفين ووسائل الإعلام وما أشبه. يجب علينا أن نفكر في التعاون تفكيراً جدياً وأن نجعله تطبيقاً خارجياً.
عندما نسعى لتحليل واقع أمتنا المتخلف نلاحظ أن الفرقة والشقاق والتجزئة من أكبر العوامل التي كرست ذلك التخلف، إذ أن الأمة المتحضرة هي في الواقع تمثل أرقى صور المتحدات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وقد كانت أمتنا الإسلامية في تاريخها الحضاري كذلك وإنما بدأت الحالة الحضارية تتدهور وتسوء عندما فقدت ذلك الالتحام العام، وتشكلت وحدات متفرقة الأهداف، ولكي نقفز على تلك العقبات علينا أن نمارس العمل التعاوني، ونسعى لإعادة روح التعاون على القواعد العامة للعقيدة الإسلامية. وعندئذ نكون قد تخطينا أعظم العقبات التي تحول دون حصول النهضة الإسلامية.
المرتكز الرابع: السلام… يصنع التيار العام.
يعتبر الإمام الشيرازي من أعظم المنظرين للحركة السلمية، إذ إنه يدعو إلى السلام باعتباره مبدأ ينطلق أولاً من الفكر الإسلامي وثانياً من الطبيعة السوية والمستقيمة للإنسان، لأن العنف لا يمثل الطبيعة السوية للإنسان، ولذا فإن النظرية السياسية التي يطرحها الإمام الشيرازي في كتبه وبحوثه ودراساته هي السلام، فالسلام:
ــ هدف وغاية، من جهة.
ــ وهو وسيلة وطريقة من جهة أخرى.
ــ أي أن السلام مبدأ استراتيجي شامل وفي هذا الإطار يقرر الإمام الشيرازي الشعارات التالية.
ــ السلام دائماً.
ــ السلام ضمانة بقاء المبدأ.
ــ السلام أحمد عاقبة.
ــ السلام قولاً وفعلاً وكتابة وفي كل موقع ومع كل الناس.
إن السلام بهذه السعة لا يشكل هاجساً مخيفاً كما قد يتصور البعض، وإنما هو رؤية سياسية كاملة (27).
إذا اعتمدنا السلم قاعدة عملية دائمة فإننا نتمكن بإذن الله تعالى من إيجاد تيار عام لحركة إسلامية صحيحة تكون مقدمة لإنقاذ البلاد الإسلامية من المستعمرين والديكتاتوريين ولإقامة حكم الله تعالى لألف مليون مسلم (28).
إن أهم ركائز قيام النهضة الإسلامية كان ولا يزال هو السلام، إذ أن سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت حافلة بأمثلة تدل على أن المبدأ العام الذي اتخذه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع أفعاله وأقواله هو السلام باعتباره حركة تدعو الجميع إلى الثقة والاطمئنان وبالتالي تقديم المساعدة لدفع هذه الحركة السلمية، وقد قال تعالى في كتابه:
(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) (29).
إن السلام عند الإمام الشيرازي هو فكر استراتيجي وليس تكتيكاً، إذ أنه يرى العمل السلمي أمراً مرغوباً فيه في جميع الحالات، وليس استثناءً. لأن ذلك يؤدي إلى أفضل النتائج، فالحركة الإسلامية (عليها أولاً) أن تبدأ بجمع الأنصار والتنظيم والتوعية، ثم تسقط الأنظمة الاستعمارية والعميلة بالإضرابات والمظاهرات والتمردات، وإذا اضطرت إلى الحرب، فلا تبدأ بها لتكون لها الحجة على المعتدي أمام العالم وإن أمكن فتدفع الحرب بالطرق السلمية، وإذا لم تنقع الطرق السلمية، تجعل العمل الحربي ربعاً للحرب، وثلاثة أرباع للحلول السلمية (30).
إذاً فالواجب علينا أن نلقن أنفسنا السلام الدائم والعطف حتى نحو الأعداء، حتى نهديهم إلى الصراط المستقيم، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا اشتد أذى قومه له كان يقول: (اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون) ولم يكن يدعو عليهم وإنما كان يدعو لهدايتهم: وبالنتيجة نجح رسول الله ذلك النجاح المنقطع النظير في كل العالم (31).
إن مبدأ وغاية النهضة عند الإمام الشيرازي كما رأينا من النصوص المتقدمة هو السلام لكونه أقوى العوامل التي تدعو النفوس الخائفة إلى الاطمئنان والثقة بالحركة، خاصة ونحن نلاحظ بوادر حالة العنف التي بدأت تسود المجتمعات الإسلامية وإذ أن العنف لا يولد إلا العنف مما يبعد النفوس التي تنشد الاطمئنان عن هذه الحركة، وعندها تكون النتيجة عكسية، إذ تؤدي حالة العنف التي لا تستند إلى الفعل والمنطق السليم إلى انتكاس المشاريع النهضوية والتطورية في العالم الإسلامي.
إن الشخصية الإسلامية في بعديها الاجتماعي والفردي لا بد من صياغتها بحيث يستمد التكوين النفسي العام مقوماته الموضوعية ذات الطابع السلمي من الأطر الإيديولوجية والثقافية والتاريخية لهذه الأمة، كي يكون ذلك أقوى دعائم قيام الحركة العامة في سبيل الوصول للنهضة الإسلامية المنشودة.
المرتكز الخامس: الاكتفاء الذاتي.
يعدّ الاكتفاء الذاتي لأي أمة من الأمم مما تمتاز به تلك الأمة عن غيرها إذ أن الأمة التي تعبر مبادئها الأخلاقية عن حب العمل واحترامه ويقوم كيانها على نظرية اقتصادية تواكب العصر وتستفيد من جميع الطاقات المادية والمعنوية، وتشكل الإيديولوجية الحافز القوي في رفد تحرك الإنسان ومثابرته، وتحافظ الحالة القيمية في المجتمع على هذه الروح وتضعيف مكاسبها في قيام حركة نهضوية ديناميكية، هذه الأمة تمثل أرقى الصور الحضارية للإنسان.
وقد كانت الأمة الإسلامية إلى وقت قريب تمثل هذه الصورة، لكن عوامــــل كثيرة أدت إلى انهيار هذا الكيان الحضاري العملاق، لكن بقايا من هذه الروح لازالت تتحرك في جوانب أمتنا بين فترة وأخرى، لكن المخاض لازال عسيراً ويحتاج إلى جهد كبير جداً.
وإذا أردنا إعادة المجد لا بد من إعادة القدرة على التحمل والصبر وتقوية أنفسنا في سبيل الوصول لهذه الغاية، ويعدّ الاكتفاء الذاتي أفضل برنامج يكفل لنا ذلك، إذ أنه يعيد لنا أخلاقيات النهضة وقيمها، وهو ما نحتاجه بشكل ملح لنجاح هذه المحاولة الجادة.
والاكتفاء الذاتي كما يعبر عنه الإمام الشيرازي هو أن يهتم المسلمون بأن تكون حوائجهم عند أنفسهم فلا يطلبون من الشرق والغرب حاجة سواء أكانت صغيرة أو كبيرة. وذلك ممكن، فالبلاد الإسلامية إذا صارت يداً واحدة من غير فرق بين بلد إسلامي وآخر أمكن أن يعطي كل بلد حوائج البلد الآخر (32).
ويقوم الاكتفاء الذاتي على بعدين، أحدهما سلبي والآخر إيجابي، ويتمثل البعد السلبي في المقاطعة العامة للبضائع الأجنبية، ويرى الإمام الشيرازي أن مقاطعة البضائع الأجنبية التي لا تنتج في بلاد الإسلام يتضمن مشكلات ثلاث:
الأولى: مشكلة الحرمان، إذ أن جملة من البضائع دخلت في حياتنا نحن المسلمين، فإذا تركناها وفقدناها ولم نجد بديلها في البلاد الإسلامية سبب لنا ذلك صعوبة.
الثانية: مشكلة الصعوبة في تبديل البضاعة بشيء آخر، كتبديل الشيء السهل إلى الشيء الصعب.
الثالثة: الضغط النفسي على المقاطعين للبضائع الأجنبية… (33).
لكن علينا أن نوطن أنفسنا على تلك المشكلات في سبيل الوصول إلى الاكتفاء الذاتي ووصول القوة الإنتاجية لنا إلى درجة عدم الاعتماد على الغير.
ويرى الإمام الشيرازي مقومات الاكتفاء الذاتي في الأمور التالية:
الأول: تشجيع المنتج للبضائع الداخلية في البلاد الإسلامية… فإن التشجيع له أثر بالغ في الكمية والكيفية للمنتجات الداخلية.
الثـانـــي: التشجيع لمستهلك البضائع الداخلية في مقابل تركه للبضائع الأجنبية.
الثــالـث: جعل التعاونيات بالنسبة إلى مختلف البضائع الداخلية.
الرابــــع: صناديق الإقراض لأجل تشجيع البضائع الداخلية وترك البضائع الأجنبية.
الخامس: التنسيق، وهو يعني: أن تكون مكاتب للتنسيق بين المنتج والمستهلك وصناديق الاقتراض والتعاونيات، فإن التنسيق يوجب أن تسير الأمور بسرعة مطلوبة وبكيفية حسنة.
السادس: الدعاية الكافية لأجل هذا الشيء… فإن للدعاية وبيان أن الاستعمار إنما يدخل بلادنا بأسباب من جملتها اقتصادية، له أثر فعال في التفاف الناس حول الإنتاج المحلي (34).
ولأجل الوصول إلى أفضل النتائج لا بد من استغلال كل شيء، حتى أقل الأشياء وأقصرها في سبيل الوصول إلى الاكتفاء الذاتي (35).
ثم يقرر الإمام الشيرازي أن الاكتفاء الذاتي يجب أن يشمل مختلف الأبعاد، وأن نسعى لصب جميع الطاقات في روافد الاقتصاد الإسلامي، حتى تتراكم عوامل القوة الذاتية وتصل في النهاية إلى قيام البناء الحضاري بالاعتماد على جميع سواعد الأمة وقدراتها.
المرتكز السادس: منهج الحكم الإسلامي.
يعتبر الإمام الشيرازي صاحب نظرية متكاملة وواضحة المعالم في مسألة منهج الحكم الإسلامي إذ أننا نلاحظ أن هذه المسألة المهمة اتخذت حيزاً كبيراً من اهتمام السيد الإمام وتأليفاته شاهدة على ذلك، إذ لم يخلُ كتاب فقهي أو ثقافي إلا وطرح مسألة الحكم الإسلامي ومنهجه المتميز في ذلك. بل إنه أفرد له كتباً خاصة بذلك ككتاب الحكم في الإسلام والدولة الإسلامية التي بحث فيهما بشكل تفصيلي منهج الحكم الإسلامي. ونحن هنا سوف نبحث عن ملامح المنهج عند الإمام الشيرازي مكتفين بإبراز الخطوط العامة دون الولوج في الجزئيات لأن ذلك يحتاج إلى كلام طويل.
من مميزات منهج الحكم كما يراه الإمام الشيرازي، أنه يضع عيناً على الواقع المعاصر وأخرى على تاريخنا المشرق، ونعني بالتاريخ المنهج كما مارسته السيرة المعصومة المتمثلة في الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وخليفته الإمام علي (عليه السلام)، وهو بذلك يسعى لاستمداد الواقعية منه، وذلك لأن ما حدث يمكن أن يتكرر إذا ما وجدت المقومات الموضوعية والمنهجية لذلك.
ملامح المنهج عند الإمام الشيرازي في نقاط:
أولاً: يجب أن يكون منهج الحكم الإسلامي منهجاً استيعابياً، وذلك بأن يتمكن من استيعاب جميع المسلمين في كل بلادهم ثم يستهوي غير المسلمين حتى يدخلوا تحت ظل هذا الدين.
ــ قيام المنهج الإسلامي في الحكم على قاعدة العفو عما سلف، وذلك بأن يتخذ الحكم سياسة العفو عمن كانوا يوالون الحكومات السابقة إذا أصبحوا حياديين غير مربوطين بالأعداء.
ــ منهج الحكم يلزم بأن يكون:
أولاً: استشارياً فليس في الحكم ديكتاتورياً واستبدادياً، وإنما يجب أن يستشير المسلمون بعضهم بعضاً ويدلوا بآرائهم حول مختلف شؤون هذا الحكم.
الثاني: أن تكون السلطة العليا في مثل هذا الحكم (الفقهاء والعدول) (36).
ــ يقوم المنهج على تعدد الحريات، إذ أن الحرية حقيقة ذاتية في الإنسان، والإسلام يؤكد أصالة الحرية (37).
ــ تقوم السلطة العليا للدولة الإسلامية على أساس الانتخاب، وذلك حسب النظرية العامة في مسألة شورى الفقهاء والمراجع.
ــ وأخيراً مسألة تطبيق الأحكام الإسلامية إذ أن سؤالاً عريضاً يطرحه كثير من الكتاب والمفكرين ألا وهو كيف يمكن تطبيق الأحكام الإسلامية؟:
وقد أجاب الإمام الشيرازي عن ذلك في أغلب كتبه، ويقول في كتابه الفقه السياسة:
وحيث أن تبديل قوانين الشرق والغرب التي غزت بلاد الإسلام بقوانين الإسلام أمر صعب من ناحية الاستنباط، ومن ناحية التطبيق، لأنه قد حدث في المجتمع متغيرات كثيرة كلها بحاجة إلى استنباط أحكامها من الأدلة الأربعة.
كما أن وضع قانون السماء مكان قانون الأرض يحتاج إلى مزيد من الدراية والخبرة لئلا تحدث الفوضى في المجتمع، فاللازم أن يستعين مجلس الشورى الإسلامي بمئات الخبراء والفنيين في مختلف مجالات الحياة، وبمئات العلماء الراشدين الفاقهين للدين من اجتهاد واستنباط، فيقسم المجلس إلى لجان، لجنة للشئوون الاقتصادية، ولجنة للشئوون الزراعية، ولجنة للشئون التجارية، ولجنة للشئون العسكرية، ولجنة للشئون الثقافية، وهكذا…
وبمعاونة القسمين من الخبراء، خبراء الدين وخبراء الدنيا يضعون القوانين المؤطرة بالإطار الديني والملائمة للتطبيق، ثم يطبقون تلك القوانين على الحياة وبمعونة السلطتين التنفيذية والقضائية.
ودون ذلك لا يمكن تطبيق قوانين الإسلام بيسر، إن سلم أنه ممكن، ولم نقل أنه مستحيل فإن صلاحية ذلك من شأن المجلس والمجلس وحده لا يقرر، إلا بالأسلوب الذي ذكرناه (38).
وفي نهاية المطاف لا يسعنا إلا أن نقول أننا لم نوفِ الموضوع حقه، إذ أنه بقيت هناك كثير من القضايا لم نتعرض لها، أو تعرضنا لها باختصار لأن بحث موضوع كهذا (النهضة في فكر الإمام الشيرازي) في مقال بسيط كهذا أمر في غاية الصعوبة.
اضف تعليق