ضرورة استثمار جميع الفرص المتاحة لتمتين العلاقات الاجتماعية، ولعل شهر رمضان والأجواء الإيمانية التي تسوده، يشكل فرصة ثمينة لتحقيق هدف التقارب، وتنظيم العلاقات فيما بين المسلمين سواء بين دولهم، أو بين الأفراد أنفسهم، فالجميع مدعوّين لاستثمار شهر رمضان من أجل تحقيق هذا الهدف...
(الزيارات هي محطات يتزود فيها الصائم بالعلم والقيَم وتتوحد عبرها العلاقات الاجتماعية) الإمام الشيرازي
من النشاطات المهمة التي يتميز بها شهر رمضان الكريم، هي الزيارات التي يقوم بها الصائم وهي زيارات ذات أهداف مختلفة، منها زيارة الأماكن المقدسة، والزيارات الاجتماعية المتبادلة بين الناس، سواء كانوا مرتبطين بصلة رحم، أو أصدقاء، أو زملاء عمل أو غير ذلك، حيث تساعد الأجواء الرمضانية على تقريب القلوب من بعضها، وذلك عبر الأجواء الإنسانية التي تسود مكونات وشرائح المجتمع كافة في هذا الشهر.
لذا من الأمور المهمة التي على الصائم أن يركز عليها في شهر رمضان، أن يضع برنامجا منتظما للقيام بزيارة المراقد المقدسة للأئمة المعصومين أو للعلماء والشخصيات المُصلِحة، وكذلك زيارة ذوي القربى، وتفقّد الأرحام، حيث تعود هذه الزيارات بمنافع كبيرة على الأفراد وعلى المجتمع أيضا، وغالبا ما يتوفر الوقت في شهر رمضان لمثل هذه الأنشطة الاجتماعية والدينية، فهناك وقت فراغ كبير لاسيما بعد تناول الإفطار وبدء النشاطات الاجتماعية.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول. في كتابه القيّم الموسوم بـ (شهر رمضان شهر البناء والتقدم):
(من الضروري على كل صائم في هذا الشهر الكريم ان يضع لنفسه برنامجاً لزيارات العتبات المقدسةـ معصومين كانوا أو علماء أو صلحاءـ وزيارات لتفقّد ذوي الأرحام، فهذه الزيارات من أفضل الأعمال. وهناك متسعٌ من الوقت لأداء الاعمال الاخرى).
كما أن هناك أنواع كثيرة من الزيارات، بحسب أهدافها، أو الغايات التي تقف وراء هذا الزيارات، ولأن شهر رمضان، يشجع على التقارب بين القلوب، ولأن الأجواء الرمضانية تساعد على إطفاء نيران الأحقاد بين المختلفين، حتى بين الأعداء، هناك تأثير واضح لهذا الشهر على القلوب وعلى النفوس وحتى على العقول، حيث تسود أجواء الرحمة والتسامح.
كذلك يكون هذا الشهر فرصة كبيرة لتلاحم الأقارب أكثر فأكثر، وتنشط الزيارات المتبادَلة في إطار صلة الرحم وعيادة ذوي القربى، والسعي لمعالجة أسباب الضغينة، ففي هذا الشهر تكون القلوب مهيّأة ومستعدة لإطفاء الأحقاد، كما توجد رغبة جماعية في زيارة المراقد المقدسة لما يتمخض عنها من فوائد كبيرة في تحصيل العبِر والمواعظ.
هذه النقطة يؤكدها الإمام الشيرازي في قوله:
(زيارة الأرحام مندوبة في هذا الشهر المبارك لأنها تزيد المحبة وتطفئ الضغائن، كما أن زيارة المشاهد المقدسة فيها عظة وعبرة).
بناء الشخصية الواعية العارفة
وعندما يتم تنظيم زيارات جماعية (حملات) رمضانية، إلى المدن المقدسة، العتبات العلوية والكاظمية وسامراء، فإن الفوائد منها تكون كبيرة، إذ غالبا ما يلتقي الناس بعلماء وشخصيات ذات علوم عميقة سواء في الدين أو الفقه عموما أو التاريخ، وهكذا تكون الفائدة كبيرة في تحصيل المعلومات القيمة من شخصيات متخصصة.
يدخل هذا في جانب بناء الشخصية العارفة، والعقلية المتعمقة الواعية، حيث نعيش اليوم في عالم مركّب ومعقد ويحتاج إلى عقلية متنورة، حتى لا يقع الإنسان في فخ الثقافات المزيفة التي تكثر في عصرنا هذا عبر منصات ومواقع إلكترونية ما أنزل الله بها من سلطان، وهكذا فإن مثل هذه الزيارات تشكل فرصة كبيرة للاستزادة العلمية والفقهية بأنواعها.
حيث (تُثار أثناء الزيارات الكثير من الأسئلة، فإذا كان أصحاب الأماكن التي تتم زيارتها من العلماء، فانه بعمله هذا سيعظّم العلم وأهله وانه سيكون مثار سؤال وجواب، سؤال عن قيمة العلم وأهميته في الحياة) كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي.
ومن المصادفات التي تقدمها مثل هذه الزيارات الرمضانية، تلك اللقاءات التي تتم بين الصائم وبين أحد العلماء أو رجالات الدين، أو تلك الشخصيات المهمة، فيحصل الصائم الزائر على معلومات ربما لم يستطع الحصول عليها إلا من خلال هذه الزيارة أو تلك، لأن الزيارة الرمضانية غالبا من يرافقها شغف الاكتشاف والمعرفة.
فالزائر بالإضافة إلى أدائه مراسيم الزيارة للمراقد المقدسة، وتأدية الصلوات والأدعية، إلا أنه قد يجلس في مجلس فقهي ديني، أو يجمعه لقاء مع أحد العلماء المتنورين، وهكذا تجده يحصل على ما كان يفتقده في مدينته أو المكان الذي يسكن فيه.
فتكون مثل هذه الزيارات فرصا جيدة للاطلاع والمعرفة والتنمية الفقهية، أو المعلوماتية بشكل عام، عبر اللقاء بالعلماء الأفاضل أو رجال الدين الأجلاء أو الشخصيات العلمية الجادة.
لذا يقول الإمام الشيرازي:
(وقد يكون السؤال عن تاريخ هذا العالِم وكيف بلغ هذه المرتبة السامية من القدسية؟ أو سؤال عن تاريخ هذا العالِم الجليل الذي نزور قبره؟ وهل لهُ مؤلفات؟ فيحاول ان يحصل على كتبه ليتعرف من خلالها على آرائه وأفكاره).
لهذا توصَف مثل هذه الزيارات بأنها محطات يتزوّد فيها الزائرون بالعلم والمعرفة، وتزداد لديهم منظومة القيم الصالحة، وتكون هذه الزيارات سببا كبيرا في متانة العلاقات الاجتماعية وتنميتها بشكل مضطرد، وهناك معادلة تقول كلما كثرت الزيارات بين الناس، زادت متانة العلاقات بينهم، لأن الزيارة تزيل الكثير من الحواجز والجمود فيما بينهم.
الزيارات محطات للعلم والقيم والمعرفة
وبهذا فإن هذه المحطات التي تزودنا بالعلم والقيم والمعارف المختلفة، سوف تمهد لإقامة المجتمع الذي يوحّد المسلمين، ويقرّب فيما بينهم، وينشر بينهم منظومة القيم الصالحة (العدل الصدق الوفاء)، فتكون مثل هذه الزيارات طريقا لتقوية العلاقات الاجتماعية، وعملا تمهيديا لصنع الأمة المتحابة المتكاتفة القائمة في علاقاتها على القيم الضامنة للحقوق.
لذا يقول الإمام الشيرازي إن:
(الزيارات هي محطات يتزود فيها الصائم بالعلم والقيم، وتتوحد عبرها العلاقات الاجتماعية فتمهد الطريق لإقامة المجتمع الإسلامي القائم على العدل والصدق والوفاء).
وفي حال تواصلت هذه الزيارات، وكثرت هذه المحطات، وتزايدت هذه العلاقات فيما بين المسلمين، فإن ذلك سوف ينعكس حتما على متانة العلاقات الاجتماعية، كما أن التطور السريع في قطاع النقل بأنواعه الثلاثة (البرية، الجوية، البحرية) يمكن أن يسهم في ذلك، فليس مستبعدا أن يساعد هذا الأمر على بناء مجتمع إسلامي نموذجي، نحتاجه اليوم في عالم تسعى فيه الدول والأمم نحو تمتين مجتمعاتها وتوحيدها أكثر فأكثر.
الإمام الشيرازي يقول: (ليس مستبعدا أن تُفتح الحدود بين الدول الإسلامية، حينها سيسافر المسلمون بين البلاد الاسلامية، ولن تقتصر الزيارات على المدن القريبة، وليس من المستبعد ان تتطور وسائل النقل لتختصر المسافة بشكل أكبر من السابق فيسهل تنظيم السفرات لأماكن بعيدة ـ مثلاً قيام سفرات ليلية في ليالي شهر رمضان بين ايران و العراق و الحجاز أو العكس).
الهدف الأهم من مواصلة الزيارات الرمضانية، وكثرة تبادلها بين المسلمين، هو التقريب بين المسلمين أنفسهم، فإذا تزايدت هذه الزيارات، كثر التفاهم والتقارب فيما بين الناس، وتقلصت المسافات، واصبحت المدن أقرب إلى بعضها، والقلوب والنفوس كذلك، وكل هذا يكون حصيلة مؤكدة وليست محتمَلة للزيارات الرمضانية التي تساعد حتما على بناء علاقات اجتماعية راسخة بل ونموذجية.
فـ (كلما اقتربت المسافات اقترب أبناء الامة بعضهم من البعض الآخر، واصبحوا أقدر على حلّ مشاكلهم وأقدر على دفع عجلة المجتمع إلى الامام) هذا ما يقول الإمام الشيرازي.
هذه الرؤية الإيجابية الحيوية الثاقبة، أكد عليها كثير الإمام الشيرازي، وطالب في كتاباته الكثيرة جميع المسلمين بالتقارب، واستثمار جميع الفرص المتاحة لتمتين العلاقات الاجتماعية، ولعل شهر رمضان والأجواء الإيمانية التي تسوده، يشكل فرصة ثمينة لتحقيق هدف التقارب، وتنظيم العلاقات فيما بين المسلمين سواء بين دولهم، أو بين الأفراد أنفسهم، فالجميع مدعوّين لاستثمار شهر رمضان من أجل تحقيق هذا الهدف.
اضف تعليق