لقد دخلنا في رحاب شهر رمضان الكريم، وتم فتح أبواب الفرص الكبيرة لنا، وما أن ينتهي هذا الشهر حتى تزول معه تلك الفرص الهائلة، لذا من المستحسَن أن نفوز بقدر الإمكان بأكبر قدر من الرحمة الإلهية، ومن العفو والغفران، ومن ثم تقوية القلوب والنفوس بالقيم الصحيحة والدعاء...
(لابدّ أن نستفيد من كل لحظة في هذا الشهر. لابدّ ان نستثمر كل عطاء من عطاءاته)
الإمام الشيرازي
في كل لحظة من عمر الإنسان هناك شيء يقوم به، ربما ينطق بكلمة، أو تبدر منه حركة معينة، وقد تخطر في باله فكرة خاطفة، وغير ذلك من الأمور التي تؤثّث حياة الإنسان بالكلمات أو بالحركات أو بالأفكار التي تهيمن على عقله وتفكيره.
ولكن ما فائدة أن تبقى الكلمات مجردة من مفعولها، وما فائدة الحركات إذا ظلَّت سائبة تائهة بدون نتيجة ملموسة، وكذلك ما فائدة الفكرة التي تظل عالقة في رأس صاحبها ولا تتحول إلى فعل.
في شهر رمضان المبارك، الإنسان يغدو شخصا آخر، ونقصد هنا الإنسان المؤمن الذي يوجد عنده يقين بأن هذا الشهر يختلف عن سواه من الشهور، ويؤمن بأن الأجواء التي يتكلّل بها شهر رمضان غير تلك الأجواء التي تكلّل شهور السنة الأخرى.
ففي هذا الشهر، الكلمة لها مفعولها المؤثّر والفاعل، لأنها لا تبقى في إطار النطق والقول المجرد، بل تتحول إلى شيء ملموس، وكذلك الحركة يكون لها منتَج معين، والفكرة من المحال تبقى حبيسة الرأس، بل أجواء شهر رمضان وطقوسه تساعد على تحويل الأفكار إلى أعمال، ويكون الإنسان الصائم مستعدا لهذا النوع من التفاعل والتلاحم بشكل عفوي وفطري.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (شهر رمضان شهر البناء والتقدم):
(في شهر رمضان تُترجَم الأفكار إلى وقائع.. وتتحول الحروف إلى حركة والكلمة إلى حياة).
فإذا كانت الكلمة تتحول إلى حياة، هذا يعني أن ما ينطق به الصائم له مفعوله الأصيل الجاد الذي يمكن أن يجعل من الكلمة، ذات هدف فعال ومنتِج في حياة الإنسان، والمقصود هنا بالكلمة هي الفكرة، وكل ما ينتجه البشر اليوم وغدا وحتى ما أنتجه في الماضي، هو حصيلة للأفكار التي يبتكرها أو يطّلع عليها ويؤمن بها.
وأول الثمار المهمة في هذا الشهر الكريم، تلك الهداية المعنوية المادية التي تهيمن على حياة الناس، لأن قضية إصلاح النفس، وتصحيح الأخطاء، وإنشاء البدايات الجديدة على طريق الصواب، كل هذه الأمور تكون متوافرة على نحو واسع في شهر رمضان.
شهر القرآن هدى للناس
لاسيما أن الصائم تكون عنده رغبة هائلة في التقرّب من القرآن، والتعاقد معه في علاقة روحية تكون في قمة الصفاء، وتجعله عارفا بالسبل الصحيحة في الحياة.
يقول الإمام الشيرازي:
(شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن).. هو (هدىً للناس). هداية لإصلاح النفس والغير هداية معنوية ومادية، حيث تضمّن دستوراً لكل طريق صائب ولكل زاوية من زوايا الحياة).
فأول وأكبر الفوائد في شهر رمضان، أن الإنسان يكون مستعدا روحيا ونفسيا للإيمان، ونقول (الإنسان) لأن هذا الشهر ليس للمسلمين وحدهم، كما أن الصيام ليس محصورا بأناس أو أقوام دون غيرهم، ذلك أن هذا الشهر هو شهر الله، وهو شهر متاح للناس كافة في عموم الأرض، وهو شهرهم الذي يمكنهم الاستفادة منه أقصى الاستفادة.
لذا يخطئ ذلك الإنسان الذي يتلكّأ في استثمار الفرص الكبيرة والعظيمة المتاحة له في هذا الشهر، على المستوى الروحي والإيماني والنفسي، كونها تكون في هذا الشهر بالذات مضاعفة، كما أن شهر رمضان هو الوقت المناسب للدخول في عمق الجانب الروحي للإنسان، ويمكن له تنميته وتطويره لكي يتمكن بعد ذلك من أن يوازن بين المادة (الجسد) وبين الروح.
في هذه الحالة، كل إنسان مطالَب باستثمار هذا الشهر، لاسيما وأن البشرية كلها آخذة بالغوص في أتون المادة، وفي زمن عجيب يتجرد بصورة شبه كلية من الروحانيات والمعنويات التي توازن شخصية الإنسان وأفكاره وحياته كلها، فلا فائدة من الغرق في المستنقعات المادية بسبب الملذات والمكاسب السريعة التي توفرها للإنسان، فهذه المكاسب سرعان ما تزول ولا يبقى منها سوى مساوئها.
لذا يقول الإمام الشيرازي:
(إن نفحات هذا الشهر ستعم الجميع، فشهر رمضان هو للناس كافة كما ان الدين الإسلامي للناس كافة، اذاً لابدّ من استثمار هذا الموسم الروحي العظيم بأحسن وجه).
من هنا جاء التركيز المتكرر على أهمية استثمار هذا الشهر الفضيل، من قبل الناس، لأسباب عديدة تقع في المقدمة منها، أنه شهر التوبة والعفو، كما أنه الشهر الذي يفتح فيه الله سبحانه وتعالى، أبواب التوبة على مصاريعها، ويجعل العطاءات في متناول من يحتاجها من البشر في عموم المعمورة.
شهر العفو والتوبة والغفران
فهل هناك فرص متاحة أكثر مما يتيح هذا الشهر للناس؟، الجواب مؤكَّد أن الله تعالى جعل من هذا الشهر بوابة واسعة، يمكن للإنسان أن يعود من خلالها إلى رشده، وإلى صواب السبيل، وإلى الطرق التي تجعل منه إنسانا صالحا مفيدا لنفسه ولذويه ولمجتمعه.
لاسيما أن عالم اليوم يعج بالإساءات، ويمتلئ بالمصالح الفوقية التي لا تراعي الحقوق، ولا تلتزم بالأحكام الشرعية ولا بالقوانين الوضعية، حيث يأكل القوي حقوق الضعيف، ويختلس ضعاف النفوس أموال الكثرة الكاثرة، نتيجة لقلة الإيمان، وعدم استثمار شهر رمضان كما يجب.
من هنا فإن هذا الشهر الكريم، فرصة للتصحيح الذاتي الفردي والجمعي، كما أنه فرصة لبناء المجتمع الصالح، عن طريق استنهاض القيم الصالحة السليمة التي تذهب بالناس نحو الاستقامة في معاملات الحياة المختلفة، وهكذا فإن شهر رمضان هو الوقت المناسب لبناء النفس، دينيا، ورَعيّا، إيمانيا، أخلاقيا، قيميًّا، لذا وجب علينا الاستفادة من كل لحظة فيه.
يقول الإمام الشيرازي:
(لابدّ ان نستفيد من كل لحظة في هذا الشهر. لابدّ ان نستثمر كل عطاء من عطاءات هذا الشهر المبارك).
كيف لنا أن نكون من الفائزين في هذا الشهر الكريم؟، لابد أن نفكر بصورة جادة بهذه القضية، وهل يمكن لنا أن نضيّع هذا الشهر بكل خيراته وعطاءاته والمنح الكبيرة التي يهبها لنا؟، بالطبع من الغباء أن يضيّع الإنسان مثل هذه الفرص، لاسيما أنها متاحة له، وغير ممنوعة عنه، بل هي من حق الجميع.
وطالما الأمر هكذا يجب أن نفكر بجدية تامة بأن نكون من أهل شهر رمضان، ومن المستفيدين منه، وكذلك علينا أن نبحث عن جميع السبل التي تضاعف من فرصنا بالمغفرة والرحمة والبناء الحقيقي للشخصية المؤمنة القوية الصالحة من خلال تحقيق الاستقامة في الحياة.
لذا يرى الإمام الشيرازي بأن: (شهر رمضان آتٍ إلينا بخيراته وعطاءاته ومنحه، فليفكّر كل واحد ان يكون من أهل هذا الشهر، ومن المسجلين في سجل الفائزين).
هذا هو الفوز الكبير، وهذا هو العطاء الأكبر، حيث يجد الإنسان فرصة نظيفة في هذا الشهر، يسعى من خلالها إلى تقوية إيمانه الذي قد تزعزعه عولمة اليوم المادية المنفلتة، ويقوي ورعه الذي قد يضعف نتيجة للموجات المادية الفاحشة التي تسحب الناس نحو مستنقع المغريات المادية بلا ضمير.
إصلاح النفس وتغييرها نحو الأفضل هو ما يمكن أن نقطفه في هذا الشهر الكريم، لأنفسنا، لذوينا، ولمجتمعنا أيضا، فنفوز بإصلاح النفس وبناء الحياة السليمة.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي بقوله:
إن (الفوز الأكبر في شهر الصيام هو اصلاح النفس والغير وتطوير الحياة إلى الأفضل. وهما عجلتان لا يمكن السير في عباب الحياة المتلاطمة الاّ بهما).
ختاما لقد دخلنا في رحاب شهر رمضان الكريم، وتم فتح أبواب الفرص الكبيرة لنا، وما أن ينتهي هذا الشهر حتى تزول معه تلك الفرص الهائلة، لذا من المستحسَن أن نفوز بقدر الإمكان بأكبر قدر من الرحمة الإلهية، ومن العفو والغفران، ومن ثم تقوية القلوب والنفوس بالقيم الصحيحة، والدعاء بأن لا تجرفنا السيول المادية إلى ما لا يُحمَد عقباه.
اضف تعليق