إذا أراد مجتمع ما أن يواكب العالم المتقدم، وأن ينتسب إليه كمجتمع متطور منتِج ومستقر، عليه أن يوكل مهمة التغيير والتحديث العقلي والفكري للرياديين، وهم من المثقفين ذوي الخبرات الفكرية التنبّئية الثاقبة، فإذا لم تصنع العقول الثاقبة، والأفكار الخارجة عن السائد والمتعارف، فلا يمكن أن تتقدم في منافسة المجتمعات الأخرى تخطيطا للمستقبل...
(على الإنسان أن يكون سعيه منصباً لمعرفة آفاق المستقبل والأهداف الكبيرة)
الإمام الشيرازي
الرائد و القائد كلمتان وصِفَتان تنبعان من جذر واحد، هو تصدّر الناس في تحمّل المسؤولية، فالريادة هي التي تتصدى للمهام الكبيرة، وتخطط لها وتستبق الأحداث المختلفة وصولا لها، وتستشرف وتتنبأ بكل ما يحيط ويتعلق بالنتائج المستقبلية، وقيادة الناس في وعي وفهم وقناعة وحماسة نحو المستقبل.
أما القيادة فهي تتحمل وزر الحاضر، وتؤسس لقواعد البناء الآني والمستقبلي، فالتركيز يكون على توفير مقومات بناء الحاضر، وتأثيث البنى الآنية الواقعية، بكل ما يجعلها متقدمة ومتطورة ومتوائمة مع المستلزمات المطلوبة لبناء الدولة والمجتمع، وهكذا نلاحظ ذلك التلازم والترابط الوثيق بين الروّاد والقياديين، فلا يتخلى القائد الناجح عن العقلية الرائدة، بل يستند إليها في تحقيق جميع الأهداف التي يخطط لها.
ويعدّ المثقفون من الرواد الذين يتصدون لقضية استشراف المستقبل، وبث الوعي بين الناس، لكي يكونوا أكثر فهما واستيعابا للمستقبل، وبالتالي أكثر تفاعلا وحماسة في تقديم العون والدعم لتحقيق هذا الهدف، لاسيما وأن المستقبل ليس جامدا ولا هو صورة ثابتة بل هنالك البدائل التي تقدمها العقول الرائدة للتغيير.
الإمام الراحل، آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه المستقبل):
(إن المستقبل ـ عادة ـ ليس ثابتاً، ولا هو نهائي الشكل لا يمكن تغييره، بل هو مُشتمل على مجموعة من البدائل التي يضعها الإنسان أمامه، والتي يستطيع أن ينفذ إلى مفرداتها، فيختار ما يراه صالحاً).
فإذا أراد مجتمع ما أن يواكب العالم المتقدم، وأن ينتسب إليه كمجتمع متطور منتِج ومستقر، عليه أن يوكل مهمة التغيير والتحديث العقلي والفكري للرياديين، وهم من المثقفين ذوي الخبرات الفكرية التنبّئية الثاقبة، فإذا لم تصنع العقول الثاقبة، والأفكار الخارجة عن السائد والمتعارف، فلا يمكن أن تتقدم في منافسة المجتمعات الأخرى تخطيطا للمستقبل.
وما يحدث اليوم من منافسات وتسابق عالمي بين الدول الكبرى، سواء باقتحام الفضاء والتوغل في أسرار علم الفلك، وما يظهر اليوم من مستجدات في مجال الذكاء الاصطناعي، فكل هذه الظواهر وسواها، إنما تؤكد تأجج المنافسات بين الأمم، كي تكون الرائدة لتغيير العالم، لذا لابد أن تناط المسؤولية بالرواد من المثقفين والعلماء لتطوير الوعي الجمعي.
يقول الإمام الشيرازي حول قضية المثقف والريادات المستقبلية:
لقد (تصدرت مسؤولية الطبقة الرائدة المسؤوليات الأخرى تجاه المجتمع في توعية الناس، وفتح عيونهم لحقائق المستقبل؛ لأنهم بذلك سيمنحوها الثقة وسيصنعوا فيها العزيمة، والاستعداد لخوض غمار الصراع المرير مع تحديات المستقبل. وستكون الثقة والطمأنينة والسكينة بديلاً عن الخوف، والفزع وتوتر الأعصاب التي يعيشها كل إنسان يجهل مستقبله).
من الواقع الجامد إلى المستقبل المتحرك
لا يمكن أن نخشى تحديات المستقبل، والخوض في المجاهيل، والاستعداد لتقديم الجهود اللازمة والتضحيات المتوقّعة، فالأمة التي تستهدف صنع المستقبل وتعد العدة لتكون واحدة من أمم المستقبل العالمي المتغيّر، عليها أن تتهيّأ عقليا وفكريا وعلميا وماديا لهذا الهدف المصيري، حتى لا نكون خارج قوس، أو نبقى في أسفل القائمة، أو نعيش في الهامش كأمة ضعيفة أو مستضعفة، لاسيما أننا نمتلك جميع مقومات النهضة.
لهذا يجب الاعتماد على الروّاد في تحديث الأهداف والأفكار من خلال تحديث الرؤى والعقول، ونشر الوعي والتثقيف الجمعي كي يشارك الجميع في الاستعداد المطلوب لعبور الخط الفاصل بين الواقع المتردي، والمستقبل الحداثوي المتطور، لذا يجب توعية الناس وبث المفاهيم الجديدة بينهم، حتى يكونوا قادرين على التعامل الصحيح مع التغييرات العالمية السريعة التي تحدث في جميع المجالات.
الإمام الشيرازي يؤكد هذه النقطة حين يقول:
(إن مهمة الريادات المستقبلية فكّ رموز المستقبل، وجعل الناس يميزون بين القادم الصالح والطالح، والخطر والأخطر، بين الجيد والرديء، وتحويل الجيد إلى أجود، أو تلافي الأخطار، أو تحديد وتحجيم آثارها، إضافة إلى ذلك فإنها تمنح الناس مفاهيم جديدة ومفيدة، تساعدهم على التعامل مع عالم سريع ومتطور).
علما أن دخول حيز المنافسة يأتي في شكل متدرّج، وبأسلوب انتقالي يستفيد من جميع التجارب، حتى تلك الصغيرة التي قد لا يهتم لها الآخرون، لكن هذه التجارب الصغيرة، والأفكار التي قد لا تسترعي انتباه الآخرين، ستكون مهمتها كبيرة ومشاركتها أكبر من خلال قانون التراكم، أي أن التجارب الصغيرة من الممكن أن تنمو وتكبر وتتكاثر وتكون مؤثرة.
حجز مقعد المنافسة مع الأمم الأخرى
هذا التراكم الخبروي يصنعه الرواد والمثقفون والعلماء، حتى يكون سندا للأمة وهي تواجه صدمة المستقبل القادمة حتما، فربما يأتي يوم تستفيق فيه الأمة على صدمة هائلة توقظها من سباتها العميق إذا لم تستيقظ في هذه اللحظة، وتستعد كغيرها من الأمم لمعرفة المستقبل قبل حصول الصدمة المرتقبة.
إن (التغيرات الصغيرة التي حولنا تصبح بمرور الزمان كبيرة، حالها حال الأمطار التي تبدأ بقطرات، ثم تصبح جداول، وتنتهي إلى سيل عارم، وبذلك الاختيار يصبح الفرد مُصاناً، ومحصناً لا تزلزله صدمة المستقبل، ولا تثنيه متغيراته)، هذا ما يقوله الإمام الشيرازي ويضيف:
(إن العقلاء كافة بحكم العقل لابدّ أن يفكروا بالمستقبل، وهم حالهم حال طلاب الطب والهندسة والتكنولوجيا وغيرهم، يواظبون على الدراسة ست سنوات أو أكثر حتى يصلوا لأهدافهم، والتي منها خدمة الناس، والسعة في الرزق، والراحة في العمل).
فكل شيء وكل مجال، وكل منجز مادي أو حتى معنوي أو علمي يحتاج إلى الكدّ والتعب وبذل الجهود الهائلة لكي يتحقق، ولا يمكن أن تحقق الأمة ما تصبو إليه، من دون هذه الاشتراطات الكبيرة، فمن يريد أن يصبح فقيها أو كاتبا عليه أن يقدم مسبقا ما يجعله قادرا على تحقيق هدفه.
أما الحرث خارج العمل الحقيقي والجاد، والتخطيط الوهمي، والاتكاء على الكسل والعجز والتمني، فإن هذه الأساليب سوف تجعل الفرد والمجتمع خارج التصنيف المتقدم، وبالتالي خارج ساحة المنافسة العالمية المستقبلية.
حيث يقول الإمام الشيرازي:
(وهكذا بالنسبة إلى من يتعلم العلوم الدينية حتى يصبح فقيهاً أو مُدرّساً أو كاتباً أو خطيباً، فإنه يتعب ويسهر ويكدّ ويجتهد، وأحياناً يجهد نفسه خمسين سنة فيما لو طلب المرجعية).
بهذه الطريقة من المثابرة، وبهذا الإصرار من التخطيط والتنفيذ، يمكن أن يصل المرء إلى هدفه كفرد، ويمكن أن تصل الأمة إلى المشاركة الفعلية الحداثوية في صناعة المستقبل، ولكن يبقى الوزر الأكبر يقع على الرواد، وعلى أصحاب العقول المتفردة، تلك العقول التي يكون لها القدرة على التصدي للمهام الثقيلة الكبيرة المستقبلية، من أمثال التخطيط لبناء المستقبل.
هذا ما يقوله الإمام الشيرازي في هذا الشأن:
(وهكذا المُزارع يتعب ويجهد نفسه مدة طويلة أو قصيرة ـ حسب نوع النبات ومدّة نموه ـ بانتظار الثمار، كذلك على العقلاء والرواد أن يفكروا ويخططوا لمستقبل أممهم وشعوبهم القريب المدى والمتوسط والبعيد).
وهكذا فإننا نقف أمام مهمة مصيرية، آنية ومستقبلية، فالآن يجب أن نبني قواعد الحاضر، بما يؤمّن لنا بناء الأسس الصحيحة للمستقبل، وهذه الأهداف العظيمة تحتاج إلى عقول من نفس الطراز، عقول تتصف وتتسم بالعظمة والتفرد، حتى يمكنها الخوض في غمار المنافسة العالمية المستقبلية التي تجعل من أمتنا قادرة على حجز مقعد المنافسة المستقبلي مع الأمم الأخرى.
اضف تعليق