إن الطموح هنا هو بمثابة الوقود لعجلة التطور والتقدم، فحتى لو أعددنا جميع المقومات وهيّأنا جميع الركائز، وغاب عنّا الطموح، فإن قضية استنهاض المجتمع تبقى غير ممكنة أو متلكّئة، لأن التعثر يأتي من عدم وجود الطموح، وبالتالي موت الروح المتطلعة، والعقل المتحرك الفاعل...
(ينبغي لنا أن نستعيد طموحنا وأملنا، ونواصل نشاطناً وعملنا) الإمام الشيرازي
هناك ركائز في غاية الأهمية يتوقف عليها نهوض أي مجتمع، وطالما أننا من المجتمعات الفتية، فإننا في طور النمو والتطور، وهذا يستدعي استنهاضا كبيرا لكل الطاقات الفردية والجمعية في أمتنا، أملا في بلوغ درجة التطور والتقدم، التي تواكب ما وصلت إليه المجتمعات والأمم في عموم العالم.
من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى نقاش، حجر الزاوية في تطور المجتمع، هو الفرد، الإنسان، ومن ثم الجماعة، وهذا يعني فرادة عقل الإنسان ونبوغه وذكائه واتسامه بالوعي والقدرة على الإبداع والابتكار، ومن ثم الفرز بين الغثّ والسمين، والجيد والرديء، وبين المزيف والأصيل، والمخادع والصادق، حتى تكون هناك قدرة على مواجهة التضليل الإعلامي والثقافي في عالم بات يضج بثقافات خبيثة وإعلام مضلِّل.
إذًا الوعي هو المقوِّم الأول والركيزة الأولى التي يتوقف عليها استنهاض المجتمع، وهذه حقيقة لا أحد يستطيع تحييدها، فما فائدة إنسان لا يمتلك وعيا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا، إنه في الحقيقة لا يمكنه المساهمة الفعالة في بناء المجتمع، ولن يكون قادرا أن يقدم أية مساهمة على طريق استنهاض الآخرين، كما أن الإنسان الوعي لا يمكن أن ينخدع بالترويج المزيف للثقافات والأفكار المريضة أو المغرضة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) ناقش مقومات استنهاض الأمة وفصّلها وخاض في مضامينها، وطرح رؤيته العميقة حولها، وأكد على عدد من المقومات والركائز بالغة الأهمية، يتقدمها المقوّم الأول ألا وهو الوعي، حيث يقول الإمام الراحل في كتابه القيم، الموسوم بـ (الطموح في حياة الإنسان والمجتمع):
(الوعي هو الأول من بين مقومات الإصلاح، فالحصول على إيجاد الوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي هدف في غاية الأهمية، كذلك اليقظة الفردية والجماعية، بين الأمة بكاملها، فإن الإنسان الواعي اليقظ لا يقبل الخضوع ولا تنطلي عليه المكائد).
ثم تأتي الركيزة الثانية، أو المقوِّم الثاني، من حيث التسلسل وليس من حيث الأهمية، فالمقومات التي تستنهض المجتمعات جميعها مهمة، وإذا غاب أحدها عن الركائز الأخرى أصابها الضعف والوهن، لهذا فهي مقومات متداخلة بعضها في بعض، وداعمة بعضها لبعض، فالمقوم الثاني هو التنظيم، وهذا يدل بشكل قاطع على تلاحم الوعي والتنظيم.
التلاحم بين الوعي والتنظيم
التنظيم هو نتاج الوعي، والوعي بلا تنظيم يتحول إلى نوع من التنظير الفارغ، فما فائدة أن يكون الإنسان واعيا وهو لا يعرف من التنظيم أي شيء، ويمكنه تنظيم شؤونه وحياته، لذا فإن الوعي هو الذي ينتج مقوّم التنظيم، والأخير يدعم الوعي بقوة، لذلك عدّه العلماء والمهتمون بأنه من مقومات الإصلاح الهامة والأساسية.
أما ما هو المقصود بالتنظيم، أن يتم التخطيط الجيد الدقيق لحياة الفرد والمجتمع، والتخطيط هنا يشمل جميع المجالات، ومن المهم جدا أن ينظم الأفراد والجماعات أنفسهم وتفاصيل حياتهم ومشاريعهم المختلفة، وهذا ما يفعله الإنسان الواعي بالضبط، إذ لا يمكن أن نعثر على إنسان واع وفي نفس الوقت يترك حياته تعبث بها العشوائية والفوضى.
كما أن التنظيم يتطلب وحدة الرؤى والمواقف، وانسجام الأفكار والأهداف، لأن الخلافات الكثيرة والمتكررة تفسد كل شيء منتظم، لهذا لا يلتقي التنظيم مع الخلافات، وطالما أن الإنسان يمتلك ما يكفي من الوعي، فإنه سوف يحتوي الخلافات ويحجّمها، وبهذا يستفيد الإنسان من وعيه في تنظيم شؤونه المختلفة، ويتحاشى التصادم والخلافات مع الآخرين.
يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة:
(التنظيم أيضا يعدّ من مقومات الإصلاح، ونقصد به التنظيم الدقيق، فهو من أهم وسائل القوة، وقد قال الإمام علي (عليه السلام): الأمور المنتظمة يفسدها الخلاف).
ويذكر الإمام الشيرازي مقوِّما ثالثا في غاية الأهمية، بل يكاد يتصدر الركائز الأخرى بسبب أهميته القصوى للمجتمع الذي ينوي النهوض في عالم اليوم الذي يضج بالمنافسة والارتقاء، إنه (الاكتفاء الذاتي) حيث يركز الإمام على حتمية أن يكتفي المجتمع من حيث القضايا المتعلقة بالصناعة والزراعة، ويحقق الأمن الغذائي من خلال الاكتفاء الذاتي، حتى يضمن استقلاله في قراراته السياسية والاقتصادية وسواها.
لقد عرفنا من خلال التجارب الكثيرة، أن الارتهان لقوى اقتصادية وسياسية معينة، يعني التنازل عن الاستقلال السياسي، وعدم القدرة على اتخاذ القرارات التي تحفظ حقوق الأمة والأوطان، وهذا يجب أن يتحقق من خلال الاكتفاء الذاتي الذي يغني المجتمع عن الحاجة إلى الدول الأخرى، وبالتالي سوف تفرض شروطها وإرادتها علينا، من هنا ينبغي التفكير ألف مرة وألف طريقة بقضية الاكتفاء الذاتي وكيفية إنجازه بالشكل الذي يضمن حرية القرارات السياسية والاقتصادية، ويحمي المجتمع من محاولات الابتزاز والإخضاع.
إذ يؤكد الإمام الشيرازي على أن:
(المقوّم الثالث من مقومات الإصلاح هو الاكتفاء الذاتي، لذا يجب العمل من أجل الاكتفاء الذاتي في كل المجالات، اقتصاداً، وسياسةً، وزراعةً، وصناعةً، وغير ذلك).
استثمار منجم الطموح الكبير
ويوجد مقوِّم رابع يمثل الركيزة الأهم في تطور المجتمعات والأمم، وقد لا يرد في بال الآخرين، إلا أن الإمام الشيرازي أكد على أهميته، وأعطاه ميزة كبيرة لاستنهاض المجتمع، وهذا المقوِّم هو (الطموح الكبير)، فهل يمكن لفرد أو أمة أو مجتمع، أن يتقدم خطوة واحدة وهو لا يمتلك الطموح الكبير، و يندفع نحو أهدافه تحت هذا المحرّك الأقوى والأهم.
إن الطموح هنا هو بمثابة الوقود لعجلة التطور والتقدم، فحتى لو أعددنا جميع المقومات وهيّأنا جميع الركائز، وغاب عنّا الطموح، فإن قضية استنهاض المجتمع تبقى غير ممكنة أو متلكّئة، لأن التعثر يأتي من عدم وجود الطموح، وبالتالي موت الروح المتطلعة، والعقل المتحرك الفاعل، وتحت هذا النوع من الخمول، تضعف المقومات الأخرى ويصبح المجتمع في حالة من العجز والتقهقر لأنه فقد طموحه الكبير.
حيث يقول الإمام الشيرازي:
(أما المقوّم الرابع من مقومات الإصلاح فهو الطموح الكبير، والأمل الصادق بالصلاح والإصلاح، فإن الطموح والأمل يحلان المحل الأول من مقومات الإصلاح؛ ولذلك ينبغي لنا قبل المقومات الثلاثة، أن نطمح إلى تغيير الواقع المأساوي الذي نعيشه).
هكذا يدعونا الإمام الشيرازي، نحو التمسك بالطموح، والسعي الدؤوب للتغيير، والتخلص من الرتابة، والعمل بشكل مستمر على التلاحم بين مقوّمات استنهاض الأمة، فيكون الوعي دائما ومنتجا للتنظيم، والتنظيم يمهّد لركيزة الاكتفاء الذاتي، ثم نصل إلى الذروة وهو مقرِّم الطموح الكبير، حيث نجعل من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أسوة وقدوة في بناء الأمة واستنهاض القيم العالية التي تجعلنا في صدارة الأمم المتطورة.
لهذا يقول الإمام الشيرازي:
(لولا الطموح والأمل في التغيير لن يمكننا أن نفعل شيئاً، كما ينبغي لنا أن نستعيد طموحنا وأملنا، ونواصل نشاطناً وعملنا، ونتوكل على الله عز وجل، ونجعل الرسول الكريم صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين من أهل بيته (عليهم السلام) قدوة وأسوة لنا، حتى نستطيع إنقاذ المسلمين، بل جميع الناس في كل العالم).
في النهاية، لو أننا ألقينا نظرة عميقة على واقع مجتمعنا وأمتنا، سوف نجد أن الخريطة التي قدمها الإمام الشيرازي من أجل التقدم، واقعية وسهلة وممكنة، وأن المطلوب إيجاد الإرادة القوية والعقلية المؤمنة، ومن ثم الانطلاق نحو تحقيق هدف سامْ، هو استنهاض المجتمع والأمة من جديد.
اضف تعليق