في تلك الأزمنة الغابرة، كان الناس يعيشون في ظل حكومات قمعية جائرة، أكثر توحشا وظلما مما عليه حكومات الحاضر، وكان القمع والتعذيب والتفرقة وهتك الحرمات وانتهاك الحقوق ديدن تلك الحكومات الجائرة وهي حكومات القياصرة والأباطرة، وحين جاءت حكومة النبي محمد (ص)، بالمواصفات المعروفة عنها والمثبتة تاريخيا...
(في عهد الرسول صلى الله عليه وآله ظهرت على الناس الأخلاق الجميلة)
الإمام الشيرازي
في تلك الأزمنة الغابرة، كان الناس يعيشون في ظل حكومات قمعية جائرة، أكثر توحشا وظلما مما عليه حكومات الحاضر، وكان القمع والتعذيب والتفرقة وهتك الحرمات وانتهاك الحقوق ديدن تلك الحكومات الجائرة وهي حكومات القياصرة والأباطرة، وحين جاءت حكومة النبي محمد صلى الله عليه وآله، بالمواصفات المعروفة عنها والمثبتة تاريخيا، ظهر ذلك الفارق الكبير بين حكومات القياصرة وظلمها وقمعها، وبين حكومة الرسول محمد وصفاتها ومقوماتها التي قامت على العدل والإخاء والتكافل والإنصاف وعل القيم النبيلة.
حكومات القياصرة والأباطرة صنعت حواجز شاهقة بينها وبين عامة الناس، وغابت صفة الشعور بالمسؤولية للحكومات آنذاك، وهي صفة يمكن أن نجدها اليوم في أغلب حكوماتنا الإسلامية وحتى العالمية، حيث الغرور والتعالي واللهاث وراء المال الحرام، وانتهاك حقوق الناس بلا وازع من ضمير أو أخلاق أو عدالة، حيث كانت الحكومات تفرض الضرائب على الناس وتثقل كواهلهم كما يحدث اليوم تماما، ويشيعون الجهل بين الناس حتى يحكمون قبضتهم عليهم ويتحكمون بهم كيفما يشاؤون. فكان الفارق كبيرا و واضحا بين حكومة النبي (صلى الله عليه وآله) القريبة من الناس وبين تلك الحكومات المستبدة الجائرة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في محاضرة له جاءت تحت عنوان (الحكومة الإسلامية في عهد الرسول ص):
(لقد ساد المدينة (عاصمة الرسول ص) رخاء لم تعرفه أية جهة من جهات جزيرة العرب قبل ذلك، ولم ير العالم قبل ذلك حكومة كهذه الحكومة، فقد كانت حكومات الأكاسرة والقياصرة وما أشبه بعيدة عن الناس، مترفعة عن الشعب، غير مختلطة بهم، وكانوا يأخذون الضرائب الباهظة منهم، ويستبدون بالحكم والأموال.. وكان الفقر والمرض والجهل والفوضى سائد في الشعوب).
لكن في نفس الزمن القديم آنذاك، كان الفارق كبيرا و واضحا بين حكومات القياصرة الجائرة وبين حكومة النبي صلى الله عليه وآله، حيث كانت الحكومة الإسلامية مثالية في كل شيء، وعلى الرغم من جسامة الأحداث التي رافقت نشوء وتكوين الأمة الإسلامية، إلا أن النزاعات والصراعات تم احتوائها، وقلّت الجرائم والانتهاكات المتبادَلة في الغزوات وسواها.
فقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله) هو الأسوة والنموذج القيادي والديني والإنساني للجميع، فصاروا يتشبّهون به خُلْقا وسلوكا، وتم بناء منظومة متماسكة من القيم الجادة، تؤازرها منظومة أخلاقية عالية المضمون والمستوى، وكيف لا وإن من وضعها وثبتها ونشرها ودعا إليها هو الرسول (صلى الله عليه وآله) هذا النموذج الذي اقتفت خطواته كل الناس، فصاروا أكثر رحمة فيما بينهم، وأعلى إنسانية، وأقوى شعورا بالمسؤولية، كل هذا حدث بسبب حضور المثال النبوي النموذجي في أذهان الناس، والتزامهم بخطوات وتوجيهات وسلوكيات هذا النموذج القيادي الفذ.
حيث يقول الإمام الشيرازي:
(أما حكومة المدينة وحواليها فقد كانت حكومة مثالية، وعلى الرغم من أن المؤرخين أحصوا ما كان يقع في أيام الرسول (صلى الله عليه وآله) من الأحداث إلا أننا لم نسمع عن جرائم أو منازعات إلا نادراً، فإن المثال النبوي (صلى الله عليه وآله) كان حاضراً في أذهان الناس).
انتعاش القيم في حضور النموذج القيادي
هذا الاقتداء الكبير بقائد المسلمين، قلل الكثير من المشكلات الأمنية والاجتماعية والعدائية التي كانت منتشرة بين الناس قبل نشوء دول المسلمين، فالحقيقة كانت الحاجة منتفية لوجود الشرطة، أو لأي نوع من القوات التنفيذية، كما أن حكومة الرسول لم تفرض الضرائب على الناس، ولا تكرههم في أي شيء، وترفع عنهم كل الأثقال والأغلال، وتحميهم من جميع أنواع الاستغلال.
لهذا انتظمت أمور الناس في المدينة وسارت حياتهم على ما يرام، وانتفت الحاجة للعنف الحكومي تماما، على العكس مما تقوم به الأنظمة المتجبرة اليوم، حيث الإكراه والقمع والاستغلال يتم في أبشع صوره، بينما قدم الرسول صلى الله عليه وآله أروع نموذج لقيادي سياسي وأنبل حكومة كانت أقرب إلى الناس حتى من أنفسهم، لهذا لم تكن هناك أية ملامح للفوضى أو للعبث أو فقدان النظام.
يقول الإمام الشيرازي:
(لقد كان الناس يقتدون بالرسول (صلى الله عليه وآله)، فلا شرطة، ولا قوة تنفيذية، ولا ضرائب، ولا مكوس، ولا ربا، ولا احتكار، ولا استغلال، ولا ضرائب عامة إلا الخمس والزكاة والجزية والخراج، فكانت الأمور تسير على أحسن حال، ولذا لم نجد في أي تاريخ أن المدينة اشتكت من الفوضى، أو من قلة النظام).
وحين تسود الأجواء الإيجابية بين الناس، بسبب إيجابية القائد السياسية، وإيجابية الحكومة وشعورها بمسؤولياتها الحقوقية والخدمية تجاه الناس، فأمر طبيعي أن تقل المشاكل إلى أدنى حدودها، وتزول النزاعات الفردية بين الأفراد، لأن الجميع يشعر بأنه يتم التعامل مع في عدل واحترام، ولا يشعر بوجود فوارق في التعامل على أساس القرب أو البعد من المسؤول.
يحدث اليوم مثل هذه الفوارق، فالقريب من القائد أو المسؤول (ابنه أو صهره مثلا)، يتم التعامل معه بطريقة خاصة تختلف عن التعامل مع عامة الناس، سواء في قضية المناصب أو الحصول على عقود الشركات والصفقات وما شابه، هذه الفوارق في التعامل الحكومي مع الناس وغياب العدالة، هو الذي يضاعف المشاكل ويثير النزاعات، لهذا كانت قليلة جدا في زمن الرسول صلى الله عليه وآله بسبب معايير العدالة والإنصاف لكل الناس سواسية.
يؤكد الإمام الشيرازي هذه القضية فيقول:
(من الواضح أنه في ظروف كهذه تتضاءل المشاكل الفردية والنزاعات الشخصية، ويغلب على الناس روح الجماعة والاتجاه إلى البذل والعطاء، وتحاشي الوقوع في المعاصي والجرائم والآثام، كالسرقة والغصب والزنا والقتل واللواط والجرح وما أشبه من الجرائم).
متى تسود السلوكيات الجميلة؟
وبسبب انتشار روح العدالة بين الناس، وشعورهم بأنهم محميون من الحكومة، وأن قائدهم لا يفرق بين شخص وآخر، ولا بين فئة وأخرى، لهذا سادت سلوكيات جميلة ولطيفة بين الناس لم يألفوها من قبل، لكنهم تعلّموها من قائدهم ومن حكومتهم، فما أعظم الحكومة التي يتعلم منها الشعب، وما أعظم القائد الذي يصبح أسوة لأمته كلها، هذا بالضبط ما حدث في حكومة الرسول وفي عهده، حيث انتشرت الأخلاق الجميلة بين الجميع.
كما أن القيم النبيلة العالية، كالصدق والتضحية والإيثار والعطاء، هذه القيم شكلت رابطا اجتماعيا مشتركا وقويا بين الناس جميعا، فصار النسيج الاجتماعي لحمة قوية متحابّة متآزرة متعاونة متكافلة متضامنة وهذا هو السبب الأهم في نجاح دول المسلمين وتفوقها على أقوى الدول في حينها، كيف لا والناس يرون أن قائدهم الأعلى يفضل الناس على نفسه وأهله ويمنح المحتاجين حتى طعامه وطعام عائلته.
يقول الإمام الشيرازي:
(لقد ظهرت على الناس الأخلاق الجميلة، والتي لم يعرفها الناس لا في جزيرة العرب، ولا في غير جزيرة العرب إلى ذلك الحين، فكان الناس يؤثر بعضهم بعضاً في البذل والعطاء في سبيل الله سبحانه وتعالى، والرجل يؤثر صاحبه على نفسه بالمال، وفي قصة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَىَ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً) مثل رائع لذلك).
هذه هي الصفات الأصيلة التي بُنيت على أساسها دولة المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وآله، حيث التضحية والإيثار وحفظ حقوق الجار قبل حقوق الذات، هكذا تعلم الناس من قادتهم وحكومتهم، ويا حبذا لو تتمكن حكومات اليوم (الإسلامية) من أن تكون النموذج الذي يحتذى به من قبل عامة الناس.
وهذا ما يؤكد عليه الإمام الشيرازي حين يقول:
(لقد كان المسلمون يؤثرون على أنفسهم، وكان الرجل يسأل عن جاره وأهله قبل أن يسأل عن أهله هو، وأصحاب المال يخرجون المعونة والطعام لأهل الحاجة دون مسألة).
هذه هي المقومات الأساسية للحكومة المثالية، وما أحوجنا لها اليوم، ونحن كمسلمين نعيش في عالم الصرعات والنزاعات والمصالح الهائلة، نعم نحن نحتاج إلى حكومات في الدول الإسلامية تتشبّه بحكومة الرسول (صلى الله عليه وآله) وتتعلم منها، حتى تكون شبيهة بها، ترعى الناس في أموالهم وحقوقهم وكرامتهم كما كان الأمر في عهد الرسالة النبوية.
اضف تعليق