لا تزال حياتنا لغزا، ولا يزال الموت نفسه لغزا كذلك، لكن الأمر المسلَّم به من قبل الإنسان، أن حياته هذه فانية، وأن دنياه بكل ما تحمله من وقائع فانية، بل من محاسن الحياة التي يعيشها الإنسان في رحلة العمر المحصورة بين الولادة و الموت أنه لا تدوم...
(بعض موتهم حياة وبعض حياتهم موت) الإمام الشيرازي
لا تزال حياتنا لغزا، ولا يزال الموت نفسه لغزا كذلك، لكن الأمر المسلَّم به من قبل الإنسان، أن حياته هذه فانية، وأن دنياه بكل ما تحمله من وقائع فانية، بل من محاسن الحياة التي يعيشها الإنسان في رحلة العمر المحصورة بين الولادة و الموت أنه لا تدوم، بل هنا محطة تنتهي عندها بالإنسان وتسمى هذه المحطة بالموت.
لماذا يُنظَر إلى عدم دوام الحياة باستحسان، أليست الدنيا مغرية، وملذاتها طيبة، والتعلق بها من قبل الإنسان لا حدود له، فأين يكمن جودة انتهاء الحياة؟، إن جودة الحياة يكمن في طريقة استثمار الإنسان لها، فإذا خرج منها ناجحا، نقلته إلى الحياة الأخرى أو الدار الأخرى بوجه أبيض وبأعمال صالحة، فالإنسان إذا استثمر الدنيا بطريقة صحيحة، وجعل من أعماله طريقا لخلوده في الجنة، فإنه يكون من أعظم البشر وأكثرهم ربحا وفوزا.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول في مؤلَّفه: (من أقوال الإمام الشيرازي حول العلم والمال والحرية): (من محاسن الحياة أنها لا تدوم).
لهذا فإن إحدى أهم محاسن الحياة أنها لا تدوم، وأن محطة نهايتها الموت، وهو نهاية لا يمكن للإنسان تفاديها، فالموت بانتظار الإنسان شاء أم أبى، وفي أحيان كثيرة الموت يطارد الإنسان كما يجري في الحروب والنزاعات والحوادث، فلا خلاص من الموت مطلقا، وهذه حقيقة يعرفها الإنسان جيدا، ويفهمها ويراها بعينيه عندما يشارك في جنازات الموتى أو مجالس فواتحهم، والسؤال المهم هنا إذا كان الإنسان يعرف بأن الموت حقيقة لا يمكن الإفلات منها، فلماذا لا يستعد لهذا الموت؟
وهذا السؤال يطلقه الإمام الشيرازي نصا حيث يقول: (إذا كان لا بد من الموت، فلماذا لا تستعد له).
ومن النتائج التي يسلّم بها الإنسان شاء أم أبى أنه لا يستطيع أن يخادع الموت، ولا يمكنه الإفلات منه، كما أن لا يستطيع المخادعة مع الله تعالى، فكل ما يوم به من أعمال جيدة أو رديئة يتم تسجيلها عليه، ولا يمكنه الإفلات من الحساب، وهذه القضايا المسلَّم بها يعرفها الإنسان، لكنه مع ذلك يسعى لتجاهلها، وعدم الالتزام بنتائجها.
الاستعداد لمواجهة الموت بالعمل الصالح
فيتعامل الإنسان بأسلوب اللامبالاة مع الموت فيظن أنه بعيد عنه كل البعد، فطالما يتنفس الهواء فإنه لا يرى الموت قريبا منه ولا يشعر به، وبالتالي لا يعترف به كأنه (حي إلى الأبد) فلا ينتبه إلى أن فرصة الحياة ليست باقية إلى الأبد، وأن العمل الصالح عليه أن يقوم به هنا في الدنيا فيستعد بذلك لمواجهة الموت دونما خشية أو خوف.
عندما يؤمن الإنسان بحتمية الموت، وعندما يقرّ بهذه الحقيقة فهذا إقرار جيد، لكنه ناقص ولن يكتمل إلا بالاستعداد لملاقاة الموت بالأعمال الصالحة، حتى تكون الدنيا محطة انتقالية آمنة للإنسان، ينتقل منها إلى الدار الآخرة بنجاح وأمان، من خلال الأعمال الجيدة التي يمكنه القيام بها وهو على قيد الحياة، لأنه سوف يفقد هذه الفرص عند الانتقال للآخرة، فيحمل مع أعماله كلها ولا يستطيع أن يخفي منها ولا يخادع بها.
يقول الإمام الشيرازي: (لا يمكن المخادعة مع الله ولا مع الموت).
كذلك هناك علامات معروفة لقرب الإنسان من الموت، ومن هذه العلامات الكبيرة هي الشيخوخة، كما يُقال إن الشيب علامة على دنو الموت من الإنسان، وهذا يوجب عليه أن يستشعر قرب الموت منه، وعليه أن ينتهز هذه العلامات كي يصحح من الأخطاء التي ارتكبها سواء بحق الآخرين من البشر، أو أنه تجاوز على الأحكام وعلى حدود الله.
هناك فرصة على الإنسان أن ينتهزها طالما أنه كان على قيد الحياة، ويتنفس الهواء، فيمكنه الإسراع بالتصحيح ومضاعفة أعمال الخير، ومراضاة الناس الذين أساء لهم أو تجاوز على حقوقهم، وسداد الديون التي بذمته للآخرين، لأنها سوف تُسترَد منه شاء أم أبى، فعليه انتهاز فرصة وجوده في الحياة، لاسيما أنه يعيش علامات الاقتراب من الموت وأولها وأكثرها وضوحا الشيخوخة التي يصفها الإمام الشيرازي بأنها قائد الموت.
حيث يقول (رحمه الله): (الشيخوخة قائد الموت).
أما في حال بقيَ الإنسان على أسلوب اللامبالاة، واستمر على القيام بالأعمال الحرام، كالسرقة والاختلاس وسلب الحقوق بالتحايل وباستخدام السلطة وبالنفوذ، خصوصا أصحاب المناصب والسلطات، فهؤلاء أعمالهم محسوبة عليهم ومسجلة بدقة وإن كانوا يتجاهلوا هذه الحقيقة القادمة التي لا مفر منها، فما فائدة أن ترتكب الحرام وتواجه الجحيم وأنت تعرف بأن موتك قادم إليه عاجلا أم آجلا، فعليك أن تستثمر حياتك لكي تكسب ما بعد الموت.
حيث يقول الإمام الشيرازي إن (بعض موتهم حياة وبعض حياتهم موت).
الموت يجمع بين الأعداء
ومن المفارقات العجيبة الغريبة أن الموت يجمع بين جميع الأعداء، فنتيجتهم القبور، يسكنونها مع، ولا فرق بين عدو وآخر، كله يؤاخي الموت فيما بينهم بمكان واحد هو المقبرة وباطن الأرض، وهذه حقيقة يؤكدها الإمام الشيرازي حين يقول: (الموت يؤاخي بين الأعداء في مكان واحد).
لهذا على الإنسان أن يخلّد نفسه من خلال الموت، ويتم هذا التخليد بعد أن ينتهز الإنسان حياته وقدراته وإمكاناته بشكل جيد، ومن ثم يعبر من بوابة الموت إلى الخلود، بشرط أن يُحسن العمل والفعل والقول والسلوك والتفكّر في دنياه، بعد ذلك لا بأس من أن يدخل بوابة الموت التي ستقوده إلى الخلود بسبب محاسنه وحسناته في الدنيا.
حيث يقول الإمام الشيرازي: (الموت باب الخلود). كما يصف الإمام الموت بأنه: (طريق البقاء).
فالإنسان الذي يريد أن يبقى ويخلد في جنات الله تعالى، عليه أن يجعل من الموت طريقا لخلوده من خلال أعماله والتزامه بالأحكام، وتجنبه المحرمات بكل أنواعها، لاسيما أن الزمن يجري سريعا بالإنسان نحو الموت، فالزمن لا يُرى ولا يُبصَر ولا يُمسَك باليد، لكنه شيء حقيقي يتسرب من خلاله عمر الإنسان، وما هي إلا غفوة قصيرة ليجد الإنسان نفسه عند أبواب الموت، لأن الموت كما يقول الإمام الشيرازي: (قلعة لا بد أن يدخلها الكل).
هكذا يتسارع الزمن بالإنسان، من لحظة الولادة إلى لحظة الموت، مسيرة سريعة أشبه بالحلم، عليه أن لا يغفل استثمار هذه المسيرة الخاطفة وهي دنياه التي يجب أن يجعل منها فرصا متتالية ومتواصلة لأعمال الخير والحسنات بكل أنواعها.
حيث يقول الإمام الشيرازي: (الزمان يمضي بسرعة إلى الموت).
هذه هي إذن رحلة الإنسان ما بين الولادة والموت، رحلة سريعة، وإن كان الزمن يبدو بطيئا في بعض الأحيان، لكن سريعا ما يحضر (قائد الموت) الشيخوخة، ويركن الإنسان عند باب مملكة الموت التي سيدخلها الجميع من دون استثناء، لهذا ليس أمام الإنسان سوى أن يؤمن بحقيقة الموت، ويعمل في دنياه بما يجعله مستعدا لمواجهة الموت بأعماله الصالح.
اضف تعليق