تناول موضوع (نهضة المسلمين) في أكثر من كتاب، وتحدث غير مرة عن أسباب نهضة المسلمين في العصور الأولى، وأسباب تخلفهم فيما بعد، وحدد مقومات النهضة والإنقاذ إذا أرادت الأمة الإسلامية أن تعيد مجدها، وأن تحقق رسالتها العالمية. الإمام الراحل قد شخص الداء وأبان الدواء ووضع النقاط على الحروف...
في القرون الوسطى -حيث كان يسود التخلف والجهل والفقر- اتفق المؤرخون أن المسلمين كان لهم دورا كبيرا في نهضة الأمم والشعوب يومذاك، وتقدمهم وتطورهم على المستوى الفكري والسياسي والاقتصادي والعسكري، إلا أن ذلك الدور الإيجابي لم يدم طويلا، فقد أخذت الأمم الأخرى زمام المبادرة والتصدي للبناء والتقدم والرخاء، وتراجع المسلمون عن أداء دورهم النهضوي لصالح غير المسلمين أي تراجع، بل صاروا أكثر الأمم تخلفا وجهلا وفقرا...
ولأن موضوع نهضة المسلمين مجددا يحظى باهتمام المفكرين المجددين، فان الإمام محمد الشيرازي كان قد تناول موضوع (نهضة المسلمين) في أكثر من كتاب، وتحدث غير مرة عن أسباب نهضة المسلمين في العصور الأولى، وأسباب تخلفهم فيما بعد، وحدد مقومات النهضة والإنقاذ إذا أرادت الأمة الإسلامية أن تعيد مجدها، وأن تحقق رسالتها العالمية.
إن الإمام الراحل قد شخص الداء وأبان الدواء ووضع النقاط على الحروف، فالأمة الإسلامية إذا أرادت أن تعيد عزها من جديد عليها أن تعمل بالقوانين التي أمرها الله تعالى بها من دون محاباة أو مداهنة، فمازال الخير فيها. كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لاتزال أمتي بخير ماتحابوا وتهادوا وأدوا الأمانة واجتنبوا الحرام ووقروا الضيف وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فإذا لم يفعلوا ذلك ابتلوا بالقحط والسنين).
فكيف فهم السيد الشيرازي مقومات النهضة الإنسانية في الإسلام؟ وماهي أسباب انحطاط المجتمعات الإسلامية؟ وكيف يمكن أن ينهض المسلمون مجددا؟
لا شك أن من السمات الأساسية التي تميزت بها الرسالة الإسلامية هي عالميتها وشموليتها، فقد قال تعالى (وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لايعلمون، كما ورد عنه (ص) قوله (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي كان قبلي: أرسلت إلى الأبيض والأسود والأحمر...) ورسالة بهذه الصفة لابد وأن تحمل معها مقومات انتشارها وديمومتها وهي كذلك، فقد استطاع النبي الكريم محمد (ص) خلال فترة وجيزة من بسط نفوذ الرحمة الإسلامية في ربوع الجزيرة العربية ومن ثم البلاد المجاورة.
وتعتبر هذه الفترة قياسية بالنسبة إلى النتائج العظيمة، والمكاسب الجلية التي حققها الرسول العظيم (ص) فيها، وقد استمر المسلمون على هذا المنوال من نشر مبادئ الإسلام العالمية حتى استطاعوا من إيصال صوت الإسلام إلى شرق الأرض وغربها.
وأما بالنسبة إلى الأمم الأخرى فقد تقبلوا الإسلام ودخلوا فيه طواعية وبرحابة صدر، تاركين ما كانوا عليه وراء ظهورهم لما وجدوا في الدين الإسلامي من العدل والرحمة، وما يتماشى مع الفطرة الإنسانية، قال الله تعالى (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، بالإضافة إلى سمو أخلاق المسلمين الأوائل الذين حملوا أعباء نشر الرسالة الإسلامية.
ولكن المتتبع لأحوال المسلمين في يومنا هذا يجد أنهم أصبحوا متخلفين عن ركب الحضارة، فبالرغم من اتساع رقعة البلاد الإسلامية والعدد الهائل للمسلمين الذين بلغوا أكثر من ملياري نسمة، ترى الجهل والتخلف ضارباً بجرانه فيهم، وقد تحكّم برقابهم أعداء الإسلام والمسلمين، وسيطر على كل بلادهم، فأصبحوا نهباً لغيرهم، ولقمة سائغة للظالمين.
ويحدد الإمام أسباب التخلف والتراجع في المشكلات الآتية:
1. مشكلة الاقتصاد: حيث أصبح العالم اليوم يعاني من الطبقية البغيضة، فقلّة من الناس يمتلكون أكبر حصة من ثروات الأرض، بينما الأكثرية الباقية يمتلكون الأقل الباقي، حيث ملايين الفقراء والمعدمين الذين لا يملكون حتى قوت يومهم ويموتون جوعاً كل يوم بحسب الإحصاءات الرسمية.
2. مشكلة الأخلاق: حيث أصبح العالم اليوم يقاسي من أزمة أخلاقية حادة، فثلّة من تجار الأسلحة ومولّدي التقنية العسكرية المدمرة، راحوا ينبهون ثروات العالم الثالث من الذهب الأسود وغيره، ويخلقون بينهم الحروب والصدامات الكاذبة، ليصنعوا لأسلحتهم سوقاً مربحة على حساب قتل الأبرياء، وترميل النساء، ويُتم البراعم والأطفال، ودمار الحرث والنسل، وإيجاد بحار من الدم والدموع.
3. مشكلة العقيدة: حيث أصبح العالم اليوم يئن تحت وطأة الفراغ العقيدي، وهو أكبر داء وأعظم بلاء يمكن أن يصاب به البشر، إن العقيدة الصحيحة للروح والعقل كالطعام والشراب للجسم والبدن، وكما أن فقدان الطعام والشراب يودي بحياة الإنسان المادية، فكذلك غياب العقيدة الصحيحة يقضي على حياة الإنسان المعنوية، فالفراغ العقيدي يعني: الموت المعنوي.
وقد جرّب العالم مرارة هذا الداء، وذاق شدة هذا البلاء، ولم يشفه ما وضعه المقنّنون من لائحة حقوق الإنسان، ومقررات مجلس الأمم وغير ذلك، لأنها قوانين وضعية، لا تستوعب ما جاء به الإسلام من قانون السماء الشامل، ومنهج الأنبياء الكامل، وحيث قد عجز العالم اليوم من القوانين الوضعية من ناحية، ومن الإلحاد من ناحية ثانية، ومن المادية من ناحية ثالثة، أخذ يتوجه إلى الدين، مما يحتم أن يكون المستقبل للدين، والإسلام بصورة خاصة، حيث إن الإسلام يعطي كل متطلبات الإنسان وفي أنظف إطار، فالمستقبل له، لكن يشترط أن يعرضه القائمون عليه عرضاً صحيحاً مناسباً للعصر الحاضر، والمراد بالمناسب للعصر الحاضر كون الحلول للمشاكل تناسب عصر الصناعة، إذ للدين الإسلامي كليات وقواعد عامة قابلة للتطبيق في كل عصر ومصر.
لذا حدد الإمام أهم مقومات النهضة الإسلامية في الآتي:
1. النظم: الإسلام أهـدى إلـى المجتمع أفضـل وأشمل النظم الحيوية، وشملت النظم جميع مرافق الحياة من الذرّة إلى المجرة، فقـد ورد فـي كتاب الله: من كلّ شيءٍ موزون، وفي الحديث عـن الإمام علي عليه والسلام (الله الله في نظم أمركم). والإسلام حينما بزغ نوره لم يترك أمر الناس فوضى بل أهتمّ بالنظم، ولذلك مـال الناس إليـه واعتنقـوه. لكنّ المسلمين لم يستفيدوا مـن تلك المواقيت والنظم في التطوّر العلمي، وتركوا ذلك للغـرب الذي اعتمد فـي تطـوّره التقـني والحضاري والاقتصادي والعسكري علـى مبنى تلك النظـم والمواقيت والسنن الإلهيّة الثابتة، فانفضّ الناس عن الإسلام، وتجمّعوا حول الغرب. وإذا أراد المسلمـون الرجـوع إلى أصالتهم وسيادتهم، فلابدّ من الرجوع إلـى النظم والسنـن الإلهيّة فـي جميع أمورهم: السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، علماً بأنّها هي الصورة الحقيقيّة لما أقرّه الله سبحانه لإدارة أمور العباد في المعاش والمعاد.
2. الحرية: الحرّية في النظام الإسلامي كالقلب بالنسبة للجسد، ففي الإسلام أوسع الحرّيّات وأشملها، فالأصل فـي كلّ شيء الحرّية إلاّ المحرّمات المعدودة. فمن حقّ الإنسان أن يسافر أينما شاء، وأن يقيم حيثما أراد، وأن يتاجر ويكتسب المال، وأن يزرع، وأن يعمّـر، وأن يحوز المباحات حسب ما يسمح به الشرع وفي إطار (لكم) ولما بزغ فجر الإسلام كان همّـه الأوّل القضاء علـى الاستبداد والقهر والظلم.. وهـذه الأمور لا تتحقّق إلاّ بالحرّية. ولذا حارب الإسلام كلّ عوامل الفساد، وعانى من أجل أن يرفع عن الناس الإصر والأغلال: ويضعُ عنهُم إصرَهُم والأغلالَ التي كانَت عليهِم.
3. الشورى: قد كان مـن أهـمّ أسباب التفاف الناس حول الدين الإسلامي الحنيف هـو ما وجـدوا فيه مـن الشورى، حيث قال سبحانه: وأمرُهُم شَورَى بَينَهُم و شاوِرهُم فـي الأمرِ وتشاوُر…، ومـن المعلوم إنّ المجتمعات تهتم بآرائها كما تهتم بأجسامها وسمعتها وبشؤونها الأخرى، ولربّما تهتـم بآرائها أكثر ممّا تهتم بغيرها، ليس هناك دين كالدين الإسلامـي وَفَّرَ للناس الحرّية في آرائها حيث جعل الشورى، وأوكل الأمر في مثل زماننا الذي هو زمن غيبة المعصوم إلى أهل الخـبرة، وذوي الكفاءة، وذلك بانتخاب الناس لهم، وإلى هذا المعنى أشار علي عليه السلام بقوله: (أن يختاروا لأنفسهم إمامـاً عفيفاً عالمـاً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنّة)، وإذا توفّرت الشورى، توفّر أمران:
الأوّل: مشاركة النـاس فـي شؤون الدولة ومشاطرتها مصاعبها ومشكلاتها.
الثاني: صعـود المؤهلين وأصحاب الكفاءات إلـى مرافق الحكم والإدارة، ممّـا يسبّب تقـدّم البلاد والعباد. لكن المسلمين تركوا هذا الأمر في أغلب شؤونهم، وعلى رأسها الحكم، واختيار المدير والمدبّر لإدارة البلاد، وركنوا إلـى الاستبداد بالرأي في أغلب شؤونهم حتى بالنسبة إلـى الحكم والإدارة، فكانت النتيجة: هذا التأخّر الذي نراه اليوم.
4. الوحدة الإسلامية: كلّ إنسان يطمح إلـى توسيـع دائرة تحركه وانطلاقه بلا قيد أو شرط، والإسلام وحده الذي وفّر ذلك الطموح للمجتمع بأقصى حدّ عقلائي، حيث جعل المسلمين كلّهم أخوة متحابين، وجعل بلادهم كلّها بلداً واحداً، فقال عزّ مـن قائل: إنّ هذه أمّتكُم أُمّة واحدَة وأنا ربّكم … فكان المسلم يرحل مـن أقصى جنوب البلاد الإسلامية إلى أقصى شمالها وبالعكس، ومن أقصى شرقها إلى غربها وبالعكس من دون أن يشعر بالغربة، بـل كان المسلم يسافر أيضاً إلى بلاد الكفر من دون حدود إذا أمِنَ شرّ الكفّار وكيدهم، وبالعكس أيضاً، فكان الكافر يسافر إلى بلاد المسلمين بذمّة، أو عهد، وما أشبه.
ولكن المسلمين أساءوا إلى حظّهم حينما تخلّوا عن هذه النعمة الكبيرة (الوحدة) وبدوا بتجزئة البلاد الإسلامية ليتحوّلوا إلى كتل متناحرة ودويلات ضعيفة وشعوب متخاصمة. أصبحنـا اليـوم نرفض الاتّحاد ونميل إلى التجزئة، وذلك بعد أن كنّا أمّـة واحدة، وكانت أراضينا الإسلاميّة موحّدة
5. الأخوة: كانت القبائل العربية تغزو بعضها البعض، القوي يأكل الضعيف، والكبير لا يعطف على الصغير، والصغير لا يحترم الكبير، حتّى جاء الإسلام فجمع الناس تحت ظلّه ودعاهم إلى الأخوة والتضامن، فقد ورد في القرآن الكريـم: إنّما المؤمنون أخوة …، وهذه الحقيقة كرّسها الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله وسلم» عملياً في حياته، حيث آخـى بين أصحابه مرّتين: مـرّة في مكّة، ومرّة في المدينة، ليتعوّد المسلمون على الأخوة، ويواسي أحدهم الآخر إذا أصابته نكبة أو كارثة، أو هاجر من مسقط رأسه. ومعنى الأخوة: أنّ كلّ مسلم فـي أيّ بلد من بلاد الإسلام أخ لإخوانه المسلمين له ما لهـم وعليه مـا عليهم، فله الحقّ في التجارة والكسب والزواج والتزويج والامتلاك وحيازة المباحات وما إلى ذلك من الحقوق، وهكذا كان المسلمون سابقاً.
6. السلام: رفع الإسلام شعار السلام منذ الوهلة الأولى مـن نزوله، فتحيته السلام، وشعاره السلام، وآخر الصلاة السلام، وقد ورد في الدعاء: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وإليك يرجع ويعود السلام، وحيّنا ربّنا بالسلام) وفـي الآية الكريمة: وإن جَنَحُوا للسّلم فاجنح لها وتوكّل على الله، وفي آية أخرى: ادخلُوا في السِّلم كافّةً ولا تتّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيطان، وسلّمُوا على أنفُسِكُم …، إلى غير ذلك.
وقد كانت حروب الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» كلّها دفاعية وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلـم يمتنع عن الحرب والقتل إلاّ في حالة الضرورة القصوى، ولذا فقد أسلم الناس، وانضمت إلى حكومته «صلى الله عليه وآله وسلـم» العادلة رقعة شاسعة من الأرض يربو مساحتها علـى مساحة القارة الأوربية ـ باستثناء روسيا ـ أو أكثر من مليون ميل مربّع، ولـم يتجاوز مجموع القتلى في جميع هذه الحروب من الطرفين المتخاصمين ألف وثمانية أشخاص على ما ذكره بعض المؤرّخين. وإذا أراد العالم الخلاص من شرّ الحروب فاللازم ـ أوّلاً وبالذات ـ أن يوفّر ثلاثة أمور:
الأوّل: تغيير القوانين التي تهتف بالحرب وتحفِّز عليها.
الثاني: تغيير مصانع السلاح وميزانياتها إلـى مصانع البناء لخدمة الإنسان والحيـاة، وتلقائياً يكون عمالها عمال بناء بدلاً عن كونهم عمّال حرب.
الثالث: إلغاء الأسلحـة الفتاكـة والمدمّـرة، والمنع من إنتاجها وادخارهـا واستخدامها بالمرّة، وتبديلها بالأسلحة البدائية، حتّى إذا وقعت حرب ـ لا سمح الله ـ تكون أقلّ ضرراً على الإنسان وإنجازاته.
7. الاكتفاء الذاتي: اعتمد الإسلام علـى «الاكتفـاء الذاتي» في توفير كلّ ما يحتاجه الناس، وحضّ المسلمين عليه، وحذّرهم من الاعتماد على الآخرين وخاصّة الأجانب، ولكن بعد سيطرة الحكّام الظالمين ـ المرتبطين بالحكومات الغربية ـ وتسلّطهم علـى رقاب المسلمين، أصاب الفقر كلّ شيء فصارت بلادنا أسواقاً لمنتوجات الغـرب والشرق تحت ألف اسم واسم وألف قانون وقانون. ومن يخالف هذه القوانين الوضيعة يحاكم، تارة باسم مجلس الأمّة، وأخرى باسـم مجلس الوزراء، وثالثة باسم مجلس قيادة الثورة، ثمّ يودع السجن، ويمارس بحقّـه أشدّ أنواع التعذيب، وتصادر أمواله ويتّهم باخس التهم، وأخيراً يكون مصيره الإعدام.
اضف تعليق