إن العنف لا يتناسب مع التربية الصالحة، ولا يجاري بناء الشخصية السويّة السليمة، ولا يؤمّن تحريك العقل نحو الابتكار والنظر إلى أمام، بسبب فقدان الاستقرار النفسي والاطمئنان في ظل أجواء العنف السياسي أو الأسري أو العملي، أو أي نوع أخر من أنواع العنف...
العنف في تعريفه المختصَر والبسيط والواضح هو إلحاق الأذى بالآخرين لأسباب مختلفة، وهو أسلوب القوة والإكراه المرفوض في أحكام الإسلام شرعا، كما وترفضه الأعراف البشرية، ويخضع للقوانين الوضعية بمختلف مصادرها القضائية.
وقد نهض علماء ومفكرون وفلاسفة في حملات عبر التاريخ، واجهت العنف بأصنافه، ورفضت مصادره، وفضحت مبرراته، ونسفته من الجذور كونه يتعارض من حرمة الإنسان وكرامته ووجوده وحقوقه التي أقرتها الأديان والقوانين والأعراف والأخلاقيات المتعدّدة.
لو أننا فتحنا سجّل التاريخ البعيد والقديم، سوف نعثر على فلاسفة عظماء نبذوا العنف، ووضعوا الحلول المقبولة والصحيحة لهذه المواجهة، وهنالك ساسة كبار، قادة حركات وأحزاب ثبّتهم التاريخ كشخصيات ناصعة في عالم السياسة، وفي مجال مقارعة العنف كالزعيم الهندي (المهاتما غاندي).
العلماء ورجال الدين برز من بينهم من أعلن بصوت عال رفض للعنف وبرّر هذا الرفض فكريا وأخلاقيا عبر نظريات وطروحات ودراسات مستفيضة كما فعل الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) والذي نعيش هذه الأيام ذكرى رحيله، تاركا لنا إرثا فكريا كتابيا أو في صيغة محاضرات صوتية أو مرئية، كلها تحمل لنا مجموعة من الأفكار الخالدة التي تصب في تطوير العقل البشري، وتساعد على تنظيم العلاقات البشرية المختلفة، بدءًا من العلاقات الفردية، إلى العلاقة بين الجماعات الصغيرة، صعودا إلى العلاقات بين الدول والحكومات والقوى الكبرى.
الرفض القاطع للعنف والإكراه
لقد نهلَ الإمام الشيرازي أفكاره، واستمد عقيدته من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، واستغرق فيها طويلا، وبدأ رحلته في هذه المدرسة منذ نعومة أفكاره، واستطاع أن يستلهم أفكار هذه المدرسة العظيمة، مكرّسا حياته كله لتعميم الأفكار التي درسها وآمن بها من هذه المدرسة التي تشكل امتدادا خالدا للسيرة النبوية.
ولعل أبرز الأفكار الموجودة بشكل واضح والتي تتميز بها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، هي رفضهم القاطع لاستخدام العنف والإكراه في مجالات الحياة المختلفة، فلا يحق للتربوي أن يُكرِه الآخرين على قبول نمط فكري بالإكراه، هنالك مثلا أنماط فكرية مخالفة للفطرة البشرية، ولا يستسيغها الإنسان، لذلك فإن فرضها عليه بالإكراه أمر مرفوض، هكذا تنظر مدرسة أهل البيت إلى هذا الأمر، وهو ما أكده الإمام الشيرازي في (نظريته المعروف باللاعنف في الإسلام).
إن (مدرسة أهل البيت (ع) ترفض العنف كوسيلة لفرض رأي أو محاولة تغيير)، هذا القول الواضح يعود للإمام الشيرازي وهذا الاقتباس من أحد كتبه ومصادره، وقد أعلنه صوتيا في إحدى محاضراته، ومن هذه الزاوية ينطلق الإمام الشيرازي في بناء فكرته ونظريته حول اللاعنف، فكل شيء يقوم على الإكراه يعد باطلا ولا يعتدُّ به.
وقد اشتهر الإمام الشيرازي في جميع طروحاته ومشاركاته (قولا أو كتابة أو تسجيلات صوتية ومرئية)، اشتهر في رفضه الصارم لكل أنواع العنف، وبذل جهودا عظيمة في مقارعة العنف السلطوي السياسي، ولم يدخر جهدا في مقارعة العنف التربوي، ورفض بشكل قاطع العنف اللفظي الذي يدمّر حياة البشر ويضعضع شخصياتهم، لاسيما الأطفال منهم.
بناء الشخصية القوية المسالِمة
فالطفل يُحال إلى مسخ ضعيف حتى وهو بين أفراد عائلته حين يقوم الأب أو لي الأمر بتربيته بالإكراه والقسوة والإجبار، إنه يمسخ شخصيته ويدمرها، ويسلب من هذا الإنسان القدرة على العيش بين الناس بصورة طبيعية، إنه يخاف من كل شيء، ويخشى الاحتكاك مع الناس، فيبقى ضعيف الشخصية، مشلول الفكر، لا يفكر بالإقدام على أية خطوة في البناء والتغيير لأنه مسلوب الإرادة وشخصيته مستلَبة.
يحذر الإمام الشيرازي هذا النوع من التربية، وينبّه إلى المخاطر الجمّة والعائلة التي تنتج عن مثل هذه الأنماط التربوية الكارثية.
وينبّه الإمام الشيرازي بقوة إلى رفض الحكم بالإكراه، ونبذ الإصرار السلطوي على قبول الأفكار المؤيدة لسلطته بالقوة، إن الحكومة القمعية تستلب شخصية الشعب، وتدمر وجوده، وتشل قدراته، وتزرع فيه اليأس والشلل الفكري والعملي، وتجعل منه شعبا راكدا لا يعرف من الحياة سوى الخضوع والخنوع، وهذا يرفضه الإسلام جملة وتفصيلا، ويحذر منه الإمام الشيرازي بقوة في الكثير من مؤلّفاته التي فاقت الألف كتاب.
إن العنف لا يتناسب مع التربية الصالحة، ولا يجاري بناء الشخصية السويّة السليمة، ولا يؤمّن تحريك العقل نحو الابتكار والنظر إلى أمام، بسبب فقدان الاستقرار النفسي والاطمئنان في ظل أجواء العنف السياسي أو الأسري أو العملي، أو أي نوع أخر من أنواع العنف.
ولهذا فإن (الإسلام لا يؤمن مطلقاً بمفهوم العنف أو مفهوم المعاملة السيئة أو إيقاع الظلم بالآخرين، أو استخدام القسوة أو التعسف ببني الإنسان) وهذه الأفكار التي تعود للإمام الشيرازي. تشكل منطلقا لنظريته التي وضعها عن اللاعنف، وأراد من خلالها أن يقدم رؤية واضحة المعالم والخطوط لكي تشكل بوصلة يهتدي بها ساسة اليوم لقيادة العالم بعيدا عن العنف الذي يبطش اليوم بالكوكب البشري من أقصاه إلى أدناه.
خلاصة القول، ونحن نعيش ذكرى رحيل علامة فارقة من علامات وأيقونات اللاعنف في التاريخ الإنساني، وهو الإمام الشيرازي (رحمه الله) لابد من العودة إلى هذا النبع الفكري الفلسفي العميق الذي يدعو عقلاء العالم وحكمائه إلى نبذ العنف بكل أشكاله، والركون إلى العقل والحكمة، ومعالجة الإشكالات رغم صعوبتها عبر الحوار ومحاصرة العنف العالمي.
فـ (موجة العنف والقسوة والإرهاب تأسست في أفكار بعض المتطرفين وعششت في خيالهم وأفكارهم، فأخذوا بالتصفية الجسدية والتدمير أولاً، بدلاً من المحاورة الفكرية والمسالمة)، هذه هي رؤية الإمام الشيرازي الداعية إلى الحوار واللاعنف، وحريّ بالعقلاء والحكماء في العالم أجمع دراستها جيدا والانتفاع بها، ومن باب أولا أن يبدأ بذلك حكام المسلمين وساستهم.
اضف تعليق