حينما نطرح التساؤل التالي على أهل المعرفة في نفس المجال ونقول لهم، من الذي يخدم من؟، فهل المادة يجب أن تخدم الإنسان وتحقق له احتياجاته وتحفظ له كرامته، أم أن الإنسان يكون عبدا للمادة ورهن إشارتها ويكون خادما لها؟، ما هو الأصح من بين هذين الأسلوبين؟ ...
(لقد حرَّم الإسلام كل اقتصاد وكل علم يضر الإنسان) الإمام الشيرازي
حينما نطرح التساؤل التالي على أهل المعرفة في نفس المجال ونقول لهم، من الذي يخدم من؟، فهل المادة يجب أن تخدم الإنسان وتحقق له احتياجاته وتحفظ له كرامته، أم أن الإنسان يكون عبدا للمادة ورهن إشارتها ويكون خادما لها؟، ما هو الأصح من بين هذين الأسلوبين؟، لاسيما أن الله تعالى والأديان السماوية جعلا مكانة الإنسان أعلى من مكانة الكائنات الأخرى، ووضعت كرامته فوق كل اعتبار.
إن الخضوع للمادة والخنوع أما جبروتها هو نوع من السلوك الذي يعتاد عليه الناس ويأخذونه كسلوك عمّن يسبقهم وهم آباؤهم وأجدادهم، فأي سلوك يكتسبه الأبناء، وأي أفكار، وأي مبادئ وأي عقائد إنما ينقله الآباء إلى الأبناء، فهؤلاء حين يرون آباءهم يتصرفون هكذا ويؤمنون بهذا المبدأ أو ذاك، ويبيحون هذا السلوك ويمنعون ذلك السلوك، فإنهم يأخذون كل هذه الأمور عن آبائهم ويتعلموها منهم.
حيث تُصاغ أذهانهم بما يرونه ويسمعونه من الآباء، كما تختزن عقولهم كل الأفكار والمبادئ التي تنظّم حياة آبائهم، ولذلك تقع المسؤولية التربوية والأخلاقية والحياتية على الآباء قبل غيرهم، لأنهم هم من زرعوا هذه الأمور في أذهان وعقول أبنائهم.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (الصياغة الجديدة):
(إن الأسلوب الاجتماعي هو الذي يوصله الآباء إلى الأبناء عن طريق (النمط السلوكي) الذي يراه الأبناء عند آبائهم، فإن (أنماط السلوك) تصوغ ذهنية وأعمال الأبناء وفق النمط الذي يسلكه الآباء، كما يُصاغ ذلك عن طريق التعليم الشفوي ضمن النصائح والقصص والصداقات والعداوات وطرق معالجة الأمور).
لذا فإن حياة الأبناء وطريقة تعاطيهم مع الأشياء المختلفة، وسبل بناء حياتهم، إنما تعود بالدرجة الأولى إلى الأجداد والآباء، لذلك فإن الأنماط الفكرية المنقولة بين الأجيال هي المسؤولة عن هذه الأنماط الحياتية، فالإسلام مثلا رفض أن يكون الإنسان عبدا للمادة، وحرَّم أي نوع من أنواع الاقتصاد تلحق الضرر بالناس، بل جعل من الاقتصاد خادما للإنسان، وليس العكس.
في حين أن الغرب يختلف عن الرؤية وهذا التوجّه، حيث يضع الاقتصاد فوق الإنسان، ويجعل الناس خدّاما للاقتصاد، وينظرون إلى المدّ المادي السريع المتضخم على أنه بوادر عافية وصحة للإنسان والمجتمع، حتى لو كانت النتيجة سحق الملايين تحت عجلة الجوع والاقتصاد المادي، وحتى لو تكدست ثروات الأرض بأيدي قلة من الشركات الأفراد المتحكمين بجميع الاقتصادات الدولية.
وبالنتيجة أصبح الإنسان في ظل الاقتصاد المادي عبدا للاقتصاد، وصار الإنسان هامشيا وليس محورا.
الإمام الشيرازي يؤكد هذه الظاهرة المادية فيقول:
(من الواضح إن هذه الأنماط الفكرية والعملية تؤثر في حياة الناس وأسلوب عيشهم، فالاقتصاد في منطق الإسلام هو في خدمة الإنسان لأن (الإنسان) هو المحور، بينما صار الإنسان في النظام الغربي والشرقي في خدمة الاقتصاد).
رفض الربا والاحتكار والمضاربات
وهكذا تم تجيير العلم والعلماء لصالح النزعات المادية، بينما وضع الإسلام العلم والعلماء في خدمة الناس وليس العكس، أما في الغرب والشرق، فإن الإنسان وفقا لما نقله الآباء لأبنائهم، أصبح عبدا مطيعا للمنهج المادي الرأسمالي والاشتراكي أيضا، وهكذا تكرّست إدارة الرأسمالية للاقتصاد العالمي.
وأصبحت البشرية ترزح تحت وطأة المدّ المادي، والنزعة الاستهلاكية، فيما بات المال والربح السريع هدفا للرأسماليين والاشتراكيين، على الرغم من الاختلاف الفكري بين المنهجين، لكن في كلا الاقتصادين، فإن الإنسان ليس هو الهدف، وكرامته وضمان الاستقرار في حياته ليس في حسابات الماديين الذين لا يفكرون إلا بالربح ومضاعفة الأموال واكتنازها.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن العلم والعلماء في المنطق الإسلامي يكونا في خدمة الإنسان، بينما هما في الشرق والغرب في خدمة الاقتصاد الذي أصبحت إدارته وملكيته بيد الرأسماليين، سواء من التجار كما في الغرب أو من الحكام كما في الشرق).
إن الاختلاف والتباين الجوهري بين الاقتصادات المادية والاقتصاد الاسلامي، إنه جعل الإنسان فوق كل اعتبار، بينما الاقتصاد المادي جعل المال والربح الكبير السريع فوق كل الاعتبارات، وهذا هو لبّ الخلاف بين رؤية الإسلام التي ترفض الربا، والاحتكار على سبيل المثال، بينما يعد منهج الربا العمود الفقري للنظام الرأس مالي والمادي، لهذا حرم الإسلام الاقتصاد الذي يلحق الضرر بالناس بأية طريقة كانت.
يؤكد الإمام الشيرازي هذه الرؤية فيقول:
(لقد حرَّم الإسلام كل اقتصاد وكل علم يضر الإنسان، بينما أباحهما الغرب والشرق، حيث يدرّان المال الوفير للرأسماليين الغربيين والشرقيين).
إن الرأسماليون يبحون كل ما هو محظور في الإسلام، لسبب واضح وبسيط هو تحقيق الربح الكبير والسريع، بغض النظر عن النتائج السلبية الهائلة التي يلحقها بالناس، على العكس من الرؤية الإسلامية تماما، فالاحتكار غير ممنوع في المنهج الغربي، بل هو أحد الأعمدة التي يقوم عليها هذا النظام اللاإنساني، بينما يرفض الإسلام الاحتكار رفضا قاطعا.
الإنسان هو المحور في الإسلام
لا يكتفي الرأسماليون بإذلال الإنسان، وبإجباره على الخضوع للمادة، بل يذهبون إلى سن القوانين الوضعية التي تضمن لهم تطويع الإنسان لكي يكون آلة تخدم بلا نقاش أو اعتراض على ماكنتهم المادية التي تدور ليل نهار ليس لتذليل العقبات أمام الناس ولا لتقليل المشكلات التي تحيط بهم، بل لتزيد خضوع الناس لجبروتهم المادي المتوحش.
لذا يبيّن الإمام الشيرازي الفارق الكبير بين المنهجين فيقول:
(الإسلام مثلا يحرِّم ـ بالنسبة إلى العلم ـ السحر والشعوذة والقيافة والكهانة وكتب الضلال وما أشبه، كما أن الإسلام ـ بالنسبة إلى الاقتصاد ـ يحرم الربا والاحتكار وصنع المواد الضارة والأسلحة المدمِّرة وفق الأسلوب الغربي، بينما الغرب والشرق يبيحون كل ذلك، بل ويسنّون الأنظمة والقوانين التي تدعم كل هذه الأمور).
لقد ثبت علميا أن احترام كينونة الإنسان، وعدم المساس بحقوقه الشخصية والإنسانية، يجعل منه عاملا منتجا إلى أقصى حدود الانتاج المسموح به، والمفيد للذات وللآخرين، لذا فإن منهج احترام إنسانية الإنسان في الاقتصاد وفي سواه، يجعل الحياة أفضل للبشرية كلها، لكن المهم هو أن يكون الإنسان هو المحور وليس المادة ولا الربح بغض النظر عن النتائج المعيبة التي تُلحَق بسكان الأرض.
وسوف تكون الأرض صالحة وتستوعب الجميع، في حال تم احترام حدود الإنسان وحقوقه، على أن تتوافر شروط محددة تضمن هذه النتائج الكبيرة للسلام البشري، ومن هذه الشروط، سن القوانين العادلة التي تسري على جميع الناس دونما تفضيل أو تباين في التطبيق، والثاني أن يحكم الناس حكام نزيهون بلا فساد ولا إفساد.
وهذا ما يشير إليه ويؤكده الإمام الشيرازي في قوله:
(إذا كان الإنسان هو المحور، والعلم والعلماء والاقتصاد وسائر الأمور في خدمة هذا المحور، تكون نتيجة أعمال الإنسان الاقتصادية كافية لكل البشر، بحيث يعيش الكل في رفاه وسعادة واكتفاء، لكن لكي يتحقق ذلك فهو بحاجة إلى أمرين: الأول عدالة القانون، والثاني: نزاهة الحكام).
الخلاصة لابد أننا فهمنا الإجابة عن سؤال عنوان هذا المقال، ولابد أن نعمل جميعا على أن تكون المادة خادمة للناس وليس العكس، فالمضاربات والاحتكار والربا لا يمكن أن تُسهم في بناء اقتصادات عالمية مستقرة وعادلة، وعلى من يهمهم الأمر وقادة العالم أن يؤمنوا بأن الإنسان هو محور الحياة، ومحور المدخلات والمخرجات البشرية، وفي هذه الحالة سوف يعيش الجميع في استقرار وتقدم وأمان.
اضف تعليق