إن مسؤولية الطبقة الرائدة في توعية الناس والمجتمع، وفتح عيونهم لحقائق المستقبل؛ تأتي في المقدمة، لأن الناس سيمنحونها الثقة وسيصنعون فيها العزيمة، والاستعداد لخوض غمار الصراع المرير مع تحديات المستقبل. وستكون الثقة والطمأنينة والسكينة بديلاً عن الخوف، والفزع وتوتر الأعصاب التي يعيشها كل إنسان يجهل مستقبله...
(إن العقلاء كافة بحكم العقل لابدّ أن يفكروا بالمستقبل) الإمام الشيرازي
للزمن ثلاثة أبعاد معروفة ومترابطة، هذه الأبعاد هي الماضي والحاضر والمستقبل، سلسلة زمنية مترابطة وأية محاولة لإعاقة ترابط هذه السلسلة، سوف يحدث نوع من القطيعة بين وبين الأجيال، وبالتالي يحصل خلل في قانون التراكم المعلوماتي والعملي والفكري عموما، وأي هدف بنائي لا يقوم على قانون التراكم لا فائدة منه.
في هذه الحالة، عندما تكون أبعاد الزمن مترابطة، فإن المتراكم من المعلومات والثقافة والقيم سوف ينتقل من الماضي إلى الحاضر، كي يستفيد من هذا التراكم المتنوع، ولابد أن ينتقل هذا التراكم من الحاضر إلى المستقبل، وهذا التناقل بين أبعاد الزمن هو الذي جعل الإنسان ينتقل من حياة الغاب إلى عصر الاكتشافات الفضائية وعصر المعلوماتية.
أما الأمم التي لا تعترف بترابط الأبعاد الزمنية والفوائد الكبيرة من تراكماتها، فإنها أمم تحتل أسفل القوائم في التقييمات، أي أنها أمم متأخرة، ولكن سوف نجد أن الأمم الحريصة على ترابط سلسلة الزمن، وتنقية الشوائب من كل بعد بمهارة وجدارة، سوف تكون في الصدارة دائما، لأنها أفادتْ من تجارب الماضي لصالح الحاضر، وسخّرت تجارب الحاضر للمستقبل.
لذا لابد من وجود طبقة رائدة، تتكون من عقلاء الأمة وأذكيائها، هؤلاء مهمتهم ريادية واضحة، وهي فتح عقول وعيون وبصائر الناس على المستقبل، فلا يكفي أن تكون في موقع الصدارة اليوم، وغدا تهبط إلى درجة أدنى.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم (فقه المستقبل):
(إن مسؤولية الطبقة الرائدة في توعية الناس والمجتمع، وفتح عيونهم لحقائق المستقبل؛ تأتي في المقدمة، لأن الناس سيمنحونها الثقة وسيصنعون فيها العزيمة، والاستعداد لخوض غمار الصراع المرير مع تحديات المستقبل. وستكون الثقة والطمأنينة والسكينة بديلاً عن الخوف، والفزع وتوتر الأعصاب التي يعيشها كل إنسان يجهل مستقبله).
للريادة المستقبلية مهمة بارزة وكبيرة، وهذه الجملة (الريادة المستقبلية) تفسر نفسها بنفسها، فهي تعني الانشغال التام برموز المستقبل، وخفاياه وأسراره، ومن ثم العمل الجاد على فك تعاشق وتداخل هذه الرموز، وتبيانها للجميع، بحيث تصبح واضحة ومفهومة للجميع، فلابد أن تقوم الريادة المستقبلية التي يتصدى لها العقلاء الأذكياء المتميزون، بإفهام الناس عن الأشياء التي تضرّ أو تنفع.
تفكيك رموز المستقبل
وهل تشكل عليهم خطورة أم لا، وكيف يمكن تحويل أخطارها إلى العكس، من خلال توعية العقول، ومن ثم كيف يمكن تحويل الأشياء السيئة إلى جيدة، وكيفية الفرز بين الصالح والطالح، وهل يمكن تحويل الجيد إلى الأكثر جودة؟، كل هذه الأهداف الجوهرية، يمكن أن تتحقق عندما يتعلم الناس كيفية التعامل مع عالم متغيّر وسريع التطور، ومن يبقى ساكنا في مكانه لأي سبب كان سوف يجد نفسه قابعا في آخر الركب العالمي.
بالإضافة إلى كل ما تقدم، فإن الريادة المستقبلية تمنح الناس القدرة على اكتساب مفاهيم جديدة، تجعلهم في قلب العالم المتقدم، بمعنى أن الرواد المستقبليين تقع عليهم مهمة التوضيح والفرز والتنوير، وتدفع بهم نحو عوالم الذكاء والفهم والتميّز، فتساعد الجميع على معرفة مفاهيم جديدة تسعى لهيكلة عالمنا العليل، وابتكار البديل الأجود.
لهذا يقول الإمام الشيرازي:
(إن مهمة الريادة المستقبلية هي فكّ رموز المستقبل، وجعل الناس يميزون بين القادم الصالح والطالح، والخطر والأخطر، بين الجيد والرديء، وتحويل الجيد إلى أجود، أو تلافي الأخطار، أو تحديد وتحجيم آثارها، إضافة إلى ذلك فإنها تمنح الناس مفاهيم جديدة ومفيدة، تساعدهم على التعامل مع عالم سريع ومتطور).
المشكلة التي تتسبب في حالة الجمود التي تعاني منها البشرية، أن هناك من يقتنع تمام القناعة بأن المستقبل له شكل ثابت ونهائي، وهو غير قابل للتغيير، لكن هذه الأقوال لا صحة لها من الوثوق، فلا مصادر ولا أسانيد سوى فبركة كلمات لا ترقى إلى الحقيقة، لذلك فإن صناعة المستقبل ممكنة في إطار وضع البدائل المناسبة والمضيّ قُدما وبثبات نحو تحقيقها، وهو ما يجب أن تسعى إليه العقول الريادية.
إذًا صناعة البعد الثالث زمنيا (المستقبل) ممكنة، بل هي واجبة على الأحياء اليوم، فكل ما يصل إلى أهل الغد، هو نتيجة لما يجري اليوم، وهكذا يكون الحاضر خلاصة المستقبل، وحريّ بمجتمعاتنا العربية والإسلامية، أن تنشغل بما يستحق الانشغال به، وهذه مهمة الريادة المستقبلية، وهو أيضا دور العقلاء الاذكياء المفكرين الذين يصنعون ركائز المستقبل الناجح، من خلاصة وتراكم البعدين الآخرين وهما الماضي والحاضر.
لابد أن يكون هناك عقلاء وأذكياء يؤمنون بأن المستقبل ليس شيئا أو شكلا ثابتا وغير قابل للتغيير، بل تغييره أمر ممكن، عن طريق استخلاص تجارب الماضي وتصحيحها في الحاضر، وإعدادها إعدادا صحيحا وجيدا لبناء المستقبل والتخطيط لذلك بصورة علمية عملية منظَّمة وجادة ومتواصلة أيضا.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن المستقبل ليس ثابتاً، ولا هو نهائي الشكل أو لا يمكن تغييره، بل هو مُشتمل على مجموعة من البدائل التي يضعها الإنسان أمامه، والتي يستطيع أن ينفذ إلى مفرداتها، فيختار ما يراه صالحاً منها).
بناء المستقبل مسؤولية جماعية
إن الذي لا يفكر في المستقبل، وكيفية تغييره وتطويره، بما يجعل الأمة في مواكبة مستمرة مع الأمم الأخرى، هذا الذي لا يفكر بالمستقبل، لا يمكن أن يكون من العقلاء، بل هو يُحسَب على الأناس الفاقدين للعقل، والخالين من رغبة التغيير والتطوير، وهؤلاء كل همهم اللحظة التي يعيشونها، وكل ما يشغلهم بطونهم وشهواتهم.
تغريهم المكاسب المادية وتأسرهم، وتجعلهم عبيدا لها، وما أن يموت ويغادر هذه الدنيا، حتى ينتهي ذكْره، ويُنسى اسمه ويًشطَب وجوده، على العكس تماما من أولئك الذين يبادرون بإيمانهم وأعمالهم ومشاريعهم وخططهم، لتوظيف الحاضر كمحطة انطلاق ناجحة لتغيير المستقبل وتطويره، ورفض فكرة أن المستقبل شكل ثابت، وليست هناك فرصة أو إمكانية لتغييره، فالعقلاء دائما يشكلون الريادة المستقبلية الناجحة.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:
(إن العقلاء كافة بحكم العقل لابدّ أن يفكروا بالمستقبل، فكما أن طلاب الطب والهندسة والتكنولوجيا وغيرهم، يواظبون على الدراسة ست سنوات أو أكثر حتى يصلوا لأهدافهم، والتي منها خدمة الناس، والسعة في الرزق، والراحة في العمل. كذلك على العقلاء أن يفكروا و يخططوا لمستقبل أممهم وشعوبهم القريب المدى والمتوسط والبعيد).
توظيف تجارب الماضي لتغذية الحاضر بالجيد والصالح والصحيح، هي مهمة الروّاد المستقبليّين، ولهذا لابد أن يكون الإنسان على استعداد مستمر لنبش جدران المستقبل ورموزه التي قد تبدو غامضة أحيانا، لكن في كل الأحوال نحن في حاجة لبناء مستقبل أفضل دائما، لأن الحياة في حالة تطور مستمر.
عقلاء الريادة المستقبلية، هم رجال صالحون حقيقيون، لا تشغلهم إلا الأهداف المستقبلية الكبيرة، وهؤلاء هم من يحتاج إليهم عالم اليوم، أما الذي يحاول تثبيط الهمم، وينتقص من قدرات الإنسان ومواهبه وإمكانياته، فهو غير معوَّل عليه، لأن منهج العقلاء هو عدم الانشغال بتوافه الأمور، والسعي المدروس والجاد لتغيير واقع الأمة نحو الأفضل دائما.
(لابد أن يكون سعي الإنسان منصباً على معرفة آفاق المستقبل والأهداف الكبيرة، وليس الأهداف الصغيرة التافهة، فهذا العمل هو خلاف منهج العقلاء وقياس العقل).
خلاصة القول، إن عملية فصل الأبعاد الزمنية عن بعضها، وعزلها على انفراد، عمل غير مجدي، الصحيح هو دعم جهود الريادة المستقبلية، ومساندتها، والوقوف معها ضد كل من يعيق مساعيها وأهدافها، لذلك بناء المستقبل مسؤولية الجميع، يتقدمهم عقلاء الريادة المستقبلية.
اضف تعليق