q
القادة الناجحون يتصفون ببعد النظر وشمولية المصالح، او ما نعبر عنه بالمصلحة العامة، فليس من السهل على البعض التخلّي عن المصلحة الخاصة، أياً كان شكلها ومقدارها، حتى وإن كانت في حجم سيارة! او عنوان افتراضي مثل؛ مدير! او رئيس!، ويستذكر سماحته كيف أن البعض تحول من صديق الى عدو...

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ}

سورة النحل، الآية 120

لم يطق العيش لوحده، كان دائم البحث عمن يصاحبه ويسايره، بل وتناول معه الطعام، وحتى لا تتملكه مشاعر الملل والضجر جاءه الحسم الإلهي باختياره خليلاً للرحمن تكريماً لشخصيته القيادية الفذّة في المجتمع البشري الذي ربما لم يكن يتجاوز عدد نفوسه بضعة آلاف آنذاك.

هكذا كان نبي الله ابراهيم، عليه السلام، وهكذا كان الانبياء والمرسلين من بعده، ثم النبي الأكرم، والأئمة الأوصياء من بعده، ومن تبعهم من العلماء والمصلحين، أبرز ما اتصفوا به؛ القرب الى الناس في آمالهم وطموحاتهم ومعاناتهم وهمومهم، فكانوا يقدمون للناس الصورة القيادية المتكاملة بما يُطلق عليه اليوم؛ "الهرم القيادي"، حيث القاعدة الجماهيرية المؤمنة والمتفاعلة، والتي تتحمل الشطر الثاني الأوسط من الهرم، وهي الشريحة المثقفة والواعية، وفي القمة تكون القيادة.

المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- نستذكره كل عام بأحاديثنا وأقلامنا، يمثل امتداداً لمسيرة الرسالات السماوية الرامية لبناء الانسان وهدايته الى طريق الحق والفضيلة ليحقق ما يمكن من السعادة في الحياة، وما يكسبه رضوان الله في الآخرة، وذلك، من خلال مساعدته الناس على تحقيق النجاح فيما يفكرون به ويتطلعون اليه.

التوازن المذهل في شخصيته القيادية

عُرف عن الامام الراحل تبكيره في العلم والمعرفة، فقد تميز بسعة إطلاعه، وحدّة ذكائه الاجتماعي، فكان يحثّ الخطى سريعاً نحو التكامل في المجالات كافة، لاسيما بعد وفاة أبيه المرجع الديني الكبير والمحبوب في كربلاء المقدسة والعراق بأسره؛ السيد ميرزا مهدي الشيرازي عام 1960، فكان عليه أن يتصدّى لمهام إدارة الحوزة العلمية، وللمشاريع الثقافية والدينية والاجتماعية وهو في سن الثانية والثلاثين من العمر، مع هذا العمر الغضّ فقد حول حقبة الستينات من عمره الى فترة حافلة بالبناء والتأسيس والعمل والانتاج، على خطين متوازيين؛ الاول: بناء الشخصية العلمية والقيادية، حيث كانت أمامه مهمة المرجعية الدينية، ومهمة القيادة الرسالية امتداداً لمسيرة والده القائد، الذي قاد الحركة العلمية في كربلاء المقدسة، كما قاد الحركة الثقافية والفكرية لمواجهة الهجمة الفكرية الشرسة من الخارج.

أما الخط الثاني: فكان في بناء الشخصية العلمية والقيادية للشريحة المثقفة (الخط الثاني في الهرم القيادي)، وهي مهمة جد صعبة في تلك الفترة، فربما يتمكن الانسان من تطوير ذاته، متحدياً الصعوبات والظروف المحيطة به، بيد أن من الصعب بمكان الخوض في حياة الآخرين وظروفهم ومستويات تفكيرهم، فمن يوافق؟ ومن يتفاعل؟ ومن يفي بالعهد لأن يكون عالماً، أو خطيباً، او كاتباً، وبشكل عام؛ مسؤولاً عن هموم شعبه وأمته؟

منذ تلك الأيام الخوالي كان الامام الشيرازي يبعث الحماس والأمل في نفوس طلبة العلوم الدينية الشباب في ان يفكروا بتطوير شخصياتهم وتنمية معارفهم، وان يستعدوا لمسؤوليات ضخمة في المستقبل.

لنتصور مرجع دين يدعو الشباب منذ اواسط الستينات للتدريب على التمثيل المسرحي، وأن يكون في كربلاء المقدسة فرق مسرحية هادفة لنشر الثقافة والوعي، ويكون الممثلون من طلبة العلوم الدينية! وأول عرض مسرحي كان بعنوان: "الإسلام في افريقيا"، وقد لاقى نجاحاً كبيراً، وتفاعلاً من الاوساط الاجتماعية والفنية والعلمية في كربلاء وعموم العراق، هذا فضلاً عن الحثّ المستمر عليهم في مجال الكتابة والخطابة.

حتى الاطفال الصغار في الأزقة الضيقة القريبة من داره كان لهم نصيب من ذلك الحماس غير المعهود ربما حتى من آبائهم وذويهم، بأن عليهم أن يكونوا ذوي شأن في المستقبل، وبعد مرور حوالي ستين سنة على تلك الايام، يستذكر البعض من أطفال الأمس (كبار اليوم)، ومنهم؛ الدكتور حسين الشهرستاني، الذي يستذكر كيف كان المرجع الشيرازي يبتسم مع الاطفال ويدعوهم لمواصلة الدراسة والتعليم لبلوغ أرقى المراتب، وربما تكون لتلك الكلمات العابرة سهماً في دفع الشهرستاني لأن يكون في نهاية مطافه التعليمي لإحراز شهادة الدكتواره من كندا في الفيزياء النووية.

ثمن الكلمة الصادقة

من الوهلة الاولى يبدو الأمر رائقاً للجميع بأن يضخ شخصٌ ما الأمل والتفاؤل، ويساعد الآخرين على تحقيق النجاح، بيد أن الناس آنذاك لم يكونوا بتلك الشفافية ما يمكنهم من رؤية صحيحة ودقيقة لما يطمح اليه الامام الراحل من وراء هذا النجاح أو ذاك، فمنذ تلك الايام، أي قبل حوالي ستين سنة كان يرمي الى تشجيع هذا الخطيب او العالم، او إنجاح هذا المشروع الخيري، او الثقافي، ليكون نواة لحركة منظمة تقود المجتمع والأمة الى أرقى مستويات العيش الكريم، وفي خطوة لاحقة؛ سحب البساط من تحت أرجل من جاءت بهم العواصم الغربية لحكم العراق والتلاعب بمصائر الشعب العراقي وبهويته وتاريخه ومستقبله، وصياغة بديل يعكس هذه الهوية الحضارية.

في كتابه "لكي لا تتنازعوا" يستذكر سماحته كيف أن البعض تحول من صديق الى عدو لانه وقف الى أعطى الحق لصاحب هذا المشروع دون الشخص المقابل، في قضية خلافية، وربما كان الاخير يتوقع من السيد المرجع الراحل ان يقف الى جانبه وإن كان مخطئاً! فمن الطبيعي من يعيش شرنقة ذاته يتملكه الشعور العارم بالإهانة في مثل هذه الحالات.

القادة الناجحون يتصفون ببعد النظر وشمولية المصالح، او ما نعبر عنه بالمصلحة العامة، فليس من السهل على البعض التخلّي عن المصلحة الخاصة، أياً كان شكلها ومقدارها، حتى وإن كانت في حجم سيارة! او عنوان افتراضي مثل؛ مدير! او رئيس! ولا يختلف اثنان على أن المرجع الراحل كانت أبرز صفاته العملية، وما كان يلازمه طوال حياته؛ نكرانه لذاته وتقديم كل ما عنده للآخرين، غير عابئ بالعواقب والنتائج التي تبدو للبعض قاسية، بينما كان عنده –رضوان الله عليه- هيّنة مثل شربة ماء، لأن معيار النجاح عنده ليس في كثرة المصفقين والمداحين او شهادات التكريم والتعظيم، ولا في كثرة الاموال والزلفى الى الحكام، بقدر ما هي الكلمة الطيبة والصادقة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومن ثمّ رضوان الله –تعالى-.

إن طلب النجاح لعالم الدين وللشباب الجامعي، وللعامل، والفلاح، والتاجر، وللمرأة، وحتى للطفل الصغير، ليس بالظاهرة المعهودة في الساحة الاسلامية بشكل عام، وهذا الطلب لم يكن تمنياً او كلاماً مثالياً، إنما كان تنظيراً دقيقاً ومؤصّلاً في مؤلفاته وأحاديثه مع الزائرين، ومن أبرز دعوات النجاح؛ الزواج الجماعي، وتشييد المدارس الدينية والمكتبات والهيئات الحسينية في كل مكان بالعالم، الى جانب نجاحه الباهر في إنشاء صناديق القرض الحسن، والمستوصفات الخيرية، ثم التشجيع على الهجرة واكتساب التجارب والمعلومات من بلاد العالم، فكان من أوائل المبادرين لتأسيس المشاريع الدينية والثقافية في القارة الافريقية.

أحد الاصدقاء من المشاركين في الانتفاضة الشعبانية، وهو من النجف الأشرف، كان يتحدث بإعجاب باهر عن تشجيع السيد الراحل لمجموعة من شباب الانتفاضة بأن من الافضل لكم الهجرة الى الغرب –مضمون الكلام- وعلّق الأخ بالقول: "لم نسمع بهكذا نصيحة من أي شخص او جهة التقينا بها قط".

لازمت هذه الصفة الامام الراحل حتى آخر ايام حياته، يبعث التفاؤل والأمل بالمستقبل، ويحثّ على العمل الجادّ في الميادين كافة، وعدم التقوقع والانزواء، بهذه الصفة عاش الامام الراحل، وبها ايضاً وهب الحياة –وما يزال- لاجيال متعاقبة، ولا أجانب الحقيقة اذا قلت: لو أن هذه النجاحات استمرت و تكررت في واقعنا الاجتماعي والثقافي طوال العقود الماضية لكنّا في وضع آخر تماماً، في العراق وفي العالم الاسلامي برمته، بل كان مجرى التاريخ في مسار آخر، لأن النجاح في مشاريع حضارية تتعلق بالمرأة، والعلم، والعمل، والحكم، من شأنها محاربة التخلف والحرمان والتبعية، ومن ثمّ تغيير الواقع الى ما هو أفضل.

اضف تعليق


التعليقات

سليمان حسن
النيجر
سلام عليكم تقبل الله اعمالكم هنيئا لكم خدمة الدين عبر هذه الشبكة المباركة المليئة بالمعلومات القيمة التي لا يستغن مثقف عنها جعلها الله في ميزان حسناتكم2022-05-07