q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

كيف نتخلص من فخ المال والجاه والشهوة؟

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

لماذا يكون الباحث عن المال والجاه والشهوة عبدا ذليلا، الجواب سهل وواضح، لأن الاعتقاد بأن المال هو الحل لجميع مشكلات الإنسان خاطئ، فكلما ازدادت أموال الإنسان عن حاجته زادت مشكلاته، وسوف يدخل في دوامة الصراع المادي الاستهلاكي، حيث يشتري أفضل القصور والأطيان والسيارات والممتلكات الأخرى...

(الإسلام يجعل الروح حرّاً أمام كل الشهوات) الإمام الشيرازي

تأتي الحرية في أشكال ومسمّيات عدة، أبرزها نوعان من الحريات هما، الحرية المادية وتفرعاتها المختلفة، وثانيا الحرية المعنوية الروحية، وشتّان من بين الاثنين سواءً في المعنى أو التأثير والنتائج التي تتمخض عن سلوك هذا النوع أو ذاك من الحرية.

يمكن لنا أن نحسم الجدل القائم حول أفضلية هذه أو تلك من الحريات فنقول، أن حرية الروح هي أسمى أنواع الحريات، وأكثرها فائدة للإنسان، فردا كان أو أمة، أما حين تتغوَّل الحرية المادية وتشيع الإفراط الاستهلاكي بين الأفراد والجماعات، فإننا نكون قد بدأنا في الاضمحلال والضعف والتفكك والانحلال.

على الرغم من أهمية الحرية المادية سواء على مستوى السلوك الفردي أو الجماعي، أو في المجال الاقتصادي والسياسي، ولكن يبقى العنوان الأكبر للحرية المفيدة هو الحرية المرتبطة بالجانب الروحي والمعنوي، ويظهر ذلك من خلال وجوب الموازنة في الحريات بين المادية والروحية، وفي هذه الحالة سوف يحقق الفرد والأمة تطورا متوازيا على مستوى الماديات والمعنويات والروحانيات، وهذا هو أفضل توازن للحريات المختلفة.

في حال يستسلم الإنسان للحرية المادية، فهو سوف يكون أسيرا لشهواته ورغباته، وللمزايا البشرية الأخرى كالمال والسلاح والقوة العمياء، ولذلك يحذر العلماء والفلاسفة الإيجابيون من خطر السقوط في حبائل الحرية المادية، وينصحون كثيرا بأهمية التمسك بحرية الروح، فهذا النوع من الحرية هو الضامن الأعظم لنجاح الإنسان وبلوغه مرتبة التقدم المتوازن.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يتناول الحريات في إحدى محاضراته القيمة، ويفرّق فيما بينها من حيث الجودة والسوء، فيؤكّد قائلا:

)على الإنسان أن يتمتع بحرية الروح وقوة النفس، فلا يقع ضحية المال أو الجاه أو الشهوة الجنسية أو السلطان أو الحسب أو النسب، فإن كل ذلك لا يتفق ولا ينسجم مع الحرية).

وفي الوقت الذي يعتقد فيه الإنسان بأنه بلغ أقصى حريته بوجود المال والجاه ومصادر القوة المختلفة، فإنه سوف يكتشف (متأخرا)، أنه لم يسِرْ في الجادة الصواب، وأن الحرية التي توفرها له قوة الجاه والمال والشهوية، ما هي إلا وهم وشكل زائف من أشكال الحريات، لأن الإنسان في حال ركوعه وخضوعه للمال والجاه والشهوة، فإنه سوف يكون مستلَب الإرادة.

متى يكون البشر عبدا لنفسه؟

وبهذا سوف يتحول إلى عبد ذليل لنفسه أولا، ومن ثم لرغباته، وسوف يكون مأمورا خاضعا وأسيرا لأهوائه التي تدفع به نحو التشبث والتمسك بالمال، وبالمغريات الأخرى التي يظن بأنها توفر له الحرية التي يروم تحصيلها لحاجته لها، ولكنه لن ينال هذا المطلب، بل سوف تكون الحرية أبعد الأهداف عنه ولن تكون في متناول يده.

لماذا يكون الباحث عن المال والجاه والشهوة عبدا ذليلا، الجواب سهل وواضح، لأن الاعتقاد بأن المال هو الحل لجميع مشكلات الإنسان خاطئ، فكلما ازدادت أموال الإنسان عن حاجته زادت مشكلاته، وسوف يدخل في دوامة الصراع المادي الاستهلاكي، حيث يشتري أفضل القصور والأطيان والسيارات والممتلكات الأخرى، متوقّعا أنه يضمن حريته في هذا السلوك، فيهمل ترميم روحه ويلغي أهمية المعنويات في حياته، ليكتشف فيما بعد أنه وقع في خطأ جسيم حين ظن أن الماديات هي التي تضمن له الحرية الأصيلة.

لكن الشيء الصحيح الذي يضمن له ما يريد وما يتمنى ليس الغرق في الاستهلاك والمادة، ولا الارتماء في أحضان الجاه والسلطة، ولا الذوبان في الشهوات وأدرانها، إن المكسب الكبير الذي يتحقق للإنسان يكمن في رفضه للانصياع إلى المال والجاه والشهوة وهي مظاهر مادية بحتة، تذهب بالإنسان نحو الحضيض في حال لم تحقق التوازن الروحي المادي.

يقول الإمام الشيرازي:

(إذا وجد الإنسان نفسه خاضعا بتأثير أي أمر من تلك الأمور - المال أو الجاه أو الشهوة الجنسية أو السلطان أو الحسب أو النسب- وأشباهها فإنه لا يتمتع بحرية كاملة حيالها، كما قال عيسى بن مريم (عليه السلام) لأصحابه: إنكم لن تنالوا ما تريدون إلا بترك ما تشتهون وبصبركم على ما تكرهون).

كثيرا ما نبّه العلماء والمفكرون، والعظماء على مر التاريخ، وفي مقدمتهم أئمة أهل البيت، كثيرا ما نبّهوا وحذروا من الارتماء في الشهوات والتسليم لها، لأنها سوف تقودهم نحو دروب مغلقة، لا يمكن إنقاذهم منها بسبب تخلّي الأبعاد الروحية عنهم وافتقادهم للقدرات المعنوية التي تنتجها الروح الكبيرة.

كيف تتخلص من الضغط المادي؟

الشهوات تعدّ العدة لمقتل الرجال والبشر عموما، لأنها تتلاعب بهم كما تريد، فتبدو لهم كأنها أهم مكاسبهم، لكنها في الحقيقة تخدعهم وتعد لهم فخ الشهوات الذي يطيح بهم.

قال علي (عليه السلام): إياكم وغلبة الشهوات على قلوبكم فإن بدايتها ملكة ونهايتها هلكة).

وقال (عليه السلام): عبد الشهوة أسير لا ينفك أسره).

وضرب لنا الإمام الشيرازي في هذه المحاضرة القيمة، مثالا نادرا عن استعباد الشهوات للبشر، فقال في معرض كلامه عن مهالك الاستسلام للشهوة:

(لقد قال أحد الفلاسفة لأحد الملوك: أنت عبد عبدي، ولما استفسر منه عن السرّ، قال: إن شهوتي عبدي وخاضعة لي وأنت عبد للشهوة فأنت عبد عبدي).

كيف يمكن أن يتخلص الإنسان من ضغط عناصر المادة عليه، وكيف يكون قويا في مواجهتها؟، إن المال، والسلطة، والعشيرة، والمنصب، والمكانة الاجتماعية أو غيرها، كل هذه الأمور لن تنجي الإنسان من عواقب الخضوع المادي، واللهاث وراء الاستهلاك بمختلف أنواعه، ومن ثم الاستسلام لما تريده منه نفسه من كنزٍ للأموال وولوج في الشهوات، وتشبث بالقوة والجاه والسلطة لتحقيق مآربه الأخرى.

كل هذه العوامل لن تكون قادرة على إنقاذه روحيا، لأنه سوف يسقط في فخ المادية، ويُصاب بعمى القلب، ولا يمكنه التمييز بين ما هو مفيد أو ضار له، فيرى الأشياء سواسية، ويوغل كثيرا في دروب مليئة بالبؤس والسقوط، لأنه استسلم للمادة، وابتعد عن الروحانيات والمعنويات التي يمكنها موازنة حياته وحفظه من السقوط في الرذائل.

كل ظن هذا النوع من الناس أن كرامته تتحقق بشروط وعناصر مادية، وينسى أو لا يؤمن بأن الشروط والعناصر المعنوية والروحية متمثلةً بالتقوى، هي التي تطلق أسره من قفص الماديات المغلق، وتأخذ بيده نحو العيش في حياة قائمة على التوازن والاستقرار دنيويا، فضلا عن كونها تأخذ به إلى سعادة الدار الأخرى، فيضمن النجاح في الدارين.

يقول الإمام الشيرازي:

(الكرامة ليست للمال، ولا للسلطان، ولا للعشيرة، ولا للمكانة الاجتماعية وإنما الكرامة للتقوى).

من النتائج الباهرة التي قد لا يعرفها الناس المادّيون، تلك المعادلة الباهرة التي تؤكد على أن الإنسان كلما ازداد في تقواه يزداد كرامة، فمن يحقق له الكرامة ويصون شخصه وحياته ليس الشهوات، ولا الجاه، ولا المال، بل التقوى هي التي تحقق له هذا الاستحقاق الكبير، وهذا ما ينبغي أن يفهمه الإنسان جيدا ويعمل عليه.

ولهذا يقول الإمام الشيرازي:

(كلما زادت تقوى الإنسان زادت كرامته وكذلك يصح العكس، هذا بالنسبة إلى العقل والمنطق في الدنيا، وأما بالنسبة إلى الآخرة فلا تبقى قيمة إطلاقا إلا قيمة الحق والعدل وسائر الواقعيات).

إنها خطوات محسوبة ومعروفة، إذا فهمها الإنسان والتزم بها، فإنها سوف تقوده إلى النجاح في بناء حياة مؤمَّنة بالكرامة، وهذه الخطوات تُعنى قبل كل شيء بإيلاء الجانب الروحي والمعنوي ما يستحقه من اهتمام، فلا يجب إهماله بالمطلق كما يعمل الماديون اللاهثون وراء المال والجاه والشهوة، فيخسرون كل شيء.

اضف تعليق