في كل عمل ارهابي يحدث من قبل بعض المسلمين يتهم الاسلام بالوحشية والعنف في وسائل الإعلام، مما ادى الى خلق صورة نمطية تقرن دائما بين الدين الاسلامي وبين افعال بعض المتدينين به.
قبل ذلك، سادت صورة اخرى من صورة الانتقاص من الاسلام، دينا وتشريعا، حيث اعتبر الاسلام يتقاطع مع القيم المدنية التي تدعو اليها الفلسفات المعاصرة، السياسية او الاجتماعية، وكانت اكثر النقاط استشهادا لهذا التقاطع هي التشريعات المتعلقة بالمرأة وخاصة الحجاب، والتشريعات المتعلقة بالاسترقاق او العبيد.
وقد بدأت تلك الحملة مبكرا ، تعارض الدين (الاسلام) مع المدنية، بدأت في اوربا عبر النقد للمسيحية، ووصلت الى ديار الاسلام بعد الحركات الاستعمارية والدراسات الاستشراقية، التي ركزت في مقولاته المركزية والجوهرية، على إن الإسلام دين مناف للمدنية، وهو لا يملك الصلاحية للحاضر او المستقبل بل كان صالحا لزمان ظهوره، ولا يمكن للمسلمين في هذا الزمن ان يترقوا مدارج الرقي والحضارة الا بعد ان يتركوا الاسلام خلفهم، الى اخر ذلك من اتهامات من قبيل ان الاسلام يأمر اتباعه بالخمول والتعصب، ويبث فيهم روح البغض لمن يخالفهم والشقاق وحب الانتقام.
تصدى الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) لهذه العلاقة الملتبسة في الربط بين الدين والمدنية في احدى مقالاته والتي ضمها كتاب حمل عنوان مقالات وعنون مقالته بـ(الدين والمدنية)، وهو يربط المدنية بالعلم في شرحه لما توهم الواهمون انه تناقض بينهما (الدين – العلم).
يقول في مقالته: (أمران تاريخيان يتسابقان، فقد يكون لهذا الفوز، وقد يكون لذاك، هما: الدين والمدنية، فقد تتقدم هذه في حقول الحياة فتضيق العضلات في إطار من الأعباء والقيود، وقد يتقدم ذاك فيكسر الغلّ ويخرج إلى رحب الفضاء الوسيع، لكن هذا القول لدى التحليل ناشئ عن عدم دراسة الأمرين دراسة كافية عميقة، وإلا فالدين الصحيح والعلم الغائر لا يتناطحان، بل - بالرغم من مزاعم بعض أنصار الأمرين المتطرفين - يتلازمان ويتعانقان).
ووجه التلازم كما يرى الامام الراحل متأت من ان (العلم والدين الصحيح كفيلان بإسعاد المجتمع، أحدهما من الناحية الروحية، والآخر من الناحية المادية، والمجتمع لا يطير إلا بهذين الجناحين، فلو قال الدين: أعتقد بإله قوي خلق وقدّر، وبرسول كان على خُلُق عظيم، وبخلفاء دعَوا إلى الفضيلة والصلاح، وبيوم يحاسب الخلائق على أعمالهم، ليس موقف العلم منه إلا موقف المستقبل الجذلان. ولو قال العلم: يلزم النظر والبحث والتعاون والتقدم وما إلى ذلك، رحب به الدين كل ترحيب، ورأى ضالته المنشودة، وهكذا يتخطّى الدين والعلم سواءً بسواء).
وهو في تشريحه لهذا التلازم، يبين السبب خلف الاشكالية التي توهمها كل من اتباع الفريقين في وجود التعارض بين الدين والعلم، وينحت مصطلحا غاية في الدقة والجدة هو مصطلح (الدين المنحوت) مقابل (العلم الموهوم)، يقول (رحمه الله): هناك نقاط وضعت على ألواح الدين أو العلم، أخذها أصحاب كل من المتزمتين الذين لا يحبون إلا الدين المنحوت، أو العلم الموهوم! من أشد الأسلحة لإيقاع المحاربة التي لا هوادة لها بين الدين والعلم، فيؤاخذ أصحاب العلم الموهوم على الدين: قانون الرق، وحكم الحجاب، وشريعة التماثيل، وحلق اللحية، وما إليها مما لا يجاوز الأصابع من سيئات الدين، كما يؤاخذ المتزمتون من أصحاب الدين على العلم: القول بكروية الأرض، وبخارية المطر، ودوران الأرض حول نفسها، وما انتحى هذا المنحى، لكن هذا سلاح يحتاج إلى ظلام، كي لا يفضح المتسلحون به، إذا طرد موكب النهار الليل البهيم).
حول الرق يرفع الامام الشيرازي الاشكال من خلال المقارنة بينه وبين أخذ الدول للأسرى من الدول الأخرى ثم قاس بين أسير الدين وأسير الدول في الأحكام المقررة، ثم نظر إلى مدى احترام الأرقاء ومدة رقهم وأسباب عتقهم، وجد السلاح المزعوم من أفضل أسباب الرفاه للسادة والعبيد)، وهو ما قصدت اليه الشريعة، (لا ما نجم عن أفعال زمرة من متقمّصي الخلافة والإمارة غير الشرعيين)، وافعالهم تلك هي مورد الاشكال العقيم للقائلين بالتعارض بين الدين والمدنية.
وحول الحجاب، يقول: (أن الحجاب بحدوده الشرعية لا ما يضيف إليه المتزمّت، ولا ما ينقص عنه الخليع، عند التعمق ينبغي أن يتسلّح به العلم والدين معاً، لا أن يؤاخذ به العلم على الدين).
ويحمل على اصحاب العلم في اتخاذهم الخلاف مع الدين سلاحا ضد الاخرين، حيث يقول: (ومسائل الخلاف لا تصلح أن تكون سلاحاً على الآخرين، ولو تماشى أحد مع هذا العلم المزيّف وفرضه حقاً لا مرية فيه، فالدين في مندوحة إذ الاختلاف في مسألة أو مسائل مع الصداقة التامة في غالب الموضوعات الساحقة، لا يوجب اختلافاً جوهرياً).
ثم ينتقل الى اصحاب الدين المنحوت، وهو يفند دعاواهم في التعارض بين الدين والعلم بقوله: (وأما ما يأخذه الدين -المزعوم -على العلم فليس إلا وليد التخرّص غالباً، فقد أثبت غير واحد من علماء الإسلام المعاصرين أن الدين يؤيد العلم في مكتشفاته المبنية على التحقيق والدقة).
ويصل في ختام مناقشته لهذه المسالة الى القول: (أن العلم إنما ينتفع في عالم الماديات فحسب، والدين الشيء الوحيد الذي يحافظ على الفضيلة الروحية، فلا غنى عن العلم من الدين، ولا غنى من الدين عن العلم وإن هذا المهوى الذي حدث بين الموضوعين من منسوجات الجهل، فلا الدين يهزأ بالعلم، ولا العلم ينفر من الدين).
ويختم اخيرا بهذا القول الموجز والبليغ: (الدين يدعو إلى العلم. والعلم يدعو إلى الدين. وليس علم يناقض الدين إلا جهلاً، ولا دين يناقض العلم إلا خيالاً).
اضف تعليق